نشرت مؤخرا رواية داعشتاين للروائي العراقي الكبير الاستاذ جاسم المطير ، وكنت أول من قرأ هذه ” الرواية ” عندما كانت لم تزل مخطوطة ، وقد قرأتها على مهل بعد أن طلب مني الصديق المطير ان أكتب لها مقدمة من اجل نشرها ، وقد أجبت عليه بالقبول شاكرا اياه اعتزازه بي .. وقد تمتعت بقراءتها ، وقلت بعض ما عندي في المقدمة التالية :
مقدمة الرواية
جاسم المطير ، صديق قديم لي عرفته من خلال كتاباته بعد ان كنت اسمع عن نضالاته ، وكنت لم ازل استأنس جدا بما يكتبه الرجل ، اذ يتميز باسلوب خلب ، وفكر متقدم ، وكلمة حرة ، وابداع كبير ، فهو من ابرز المثقفين التقدميين في العراق المعاصر .. وزاد اعجابي بخطاب الرجل عندما سمعته يتكلم في واحد من الموضوعات النهضوية الثقافية ، فوجدت فيه افقا واسعا ، وعمقا في التحليل ، وهدوءا في الحديث ، واختزالا في الخطاب برفقة لغة جميلة تجذب اليها اليها كل من يسمعها .. كان ذلك في الاجتماع التأسيسي للمجلس العراقي للثقافة الذي انعقد في عمّان بالاردن عام 2007 .. وكنا نراسل بعضنا الاخر طويلا متابعين الشأن العراقي المرير منذ زمن طويل على بداية المأساة حتى يومنا هذا ..
وكنت سعيدا جدا عندما تسلمت من الاخ المؤلف الاستاذ المطير قبل ايام نسخة مخطوطة من روايته هذه التي اسماها بـ ” داعشتاين ” ، على وزن ” فرانكشتاين ” ( وهي بالإنكليزية: Frankenstein) رواية للمؤلفة البريطانية ماري شيلي صدرت سنة 1818. ولكنها تختلف عنها من حيث المضمون ، اذ تدور أحداث الاخيرة في بيئة وثقافة وسايكلوجيات من نوع آخر ، فالبطل اسمه فيكتور فرانكنشتاين ، وكان طالبا ذكيا يكتشف في جامعة ركنسبورك الألمانية طريقة عجيبة باستطاعته ان يبعث الحياة في المادة. ويعكف فرانكنشتاين على اختراع مخلوق قبيح جدا ، وهو هائل الحجم, وقبل أن تنبعث الحياة في اوصاله بزمن قصير جدا يهرب من المختبر .. ويقوم بعمليات اجرامية ولا اخلاقية ، ويبدأ الصراع الطويل مع صانعه حتى ينتهي الاثنان . اما داعشتاين ، فانها تدور قصتها ايضا عن وحش شرير تربى في العراق تربية معقدة سايكلوجيا ، وابتلي بامراض نفسية لا تعد ولا تحصى ، ليسيطر على مدينة عريقة فيسحقها سحقا ، ويرعب سكانها من خلال اساليب متوحشة لا تعد ولا تحصى ، وخصوصا قطع الرؤوس في قلب المدينة .
لقد دخلت الى عالم داعشتاين وقرأتها على مهل وبشغف كبير .. ولعلها واحدة من الروايات المعبرة عن واقع مرير تعيشه الموصل ثاني اكبر مدينة عراقية وصاحبة تاريخ عريق ولها مجتمع متنوع غاية في التنوع ، وقد سحقت سحقا كما سيسجل التاريخ عنها مستقبلا انها عاشت اسوأ ازمنتها الكسيحة عند مفتتح القرن الحادي والعشرين .. ان رواية الاخ المطير ، تسجيل تاريخي مهم جدا يشخص في روايته ، حالة تاريخية مريرة تمر بها الموصل ، بل ويتوغل المؤلف في سايكلوجيات صناع هذا الحدث المأساوي ، ليحلل نفسية رجل عراقي طوطمي اسمه ابو بكر البغدادي ، وكيفية تكوينه الدموي في مجتمع سياسي مفعم بالتناقضات الصاخبة ، اذ رضع من الدماء ما يكفيه كي يكون على شاكلة دراكولا في بشاعته التاريخية ، ويكفي ان اصف ” داعشتاين ” ايضا برواية دراكولا المرعبة والتي قام بتأليفها برام ستوكر ابان العهد الفكتوري. ان دراكولا شخصية يتقمصها الامير فلاد تيبيسو والذي لقب بدراكولا ( وتعني : ابن الشيطان ) ، وكان من مواليد مدينة سيغيوشوار. ولكن الفرق بينه وبين داعشتاين ، ان الأمير فلاد تيبيس عدّه ابناء رومانيا بطلا وطنيا كونه قام باحتواء الاجتياح التركي العثماني لأوروبا ، وكان قد حكم قرابة ست سنوات ، اي بين عامي 1456 و1462 ، ولكن استطيع تشبيهه بداعشتاين كونه اتصف بتعامله الوحشي والدموي مع المسؤولين الفاسدين واللصوص وخصوصا المحتلين ، ولكن داعشتاين غدا وحشا شريرا لكل البشرية ، فهو عدو لدود للابرياء من الناس .. للاطفال والنساء والشيوخ ولكل الكائنات على وجه الارض بما فيها المخلوقات الاليفة وحتى الزهور .. وان كان الجدل قد دار حول العلاقة غير المؤكدة بين شخصية دراكولا التي جسّمها في روايته الكاتب الايرلندي برام ستوكر عام 1897 عن فلاد تيبيس ابن الأمير الروماني فلاد دراكول (= الشيطان) ، وهو اللقب الذي ورثه عنه ، فاعتقد ان جدلا تاريخيا قادما سيدور حول شخصية داعشتاين كما جسمّها في روايته الكاتب العراقي ( المقيم في هولندا ) عام 2016 عن هذه الخليفة الجديد الذي سرق اسمى الرموز الاسلامية ليتلبس به امام المسلمين !
لقد كان الصديق الروائي جاسم المطير حاذقا جدا في كتابته داعشتاين موثقا صورة أدبية حقيقية عن واقع مرير ، كجزء من التاريخ الآني ، وباسلوب روائي بارع ، وقد عرض جملة من المشاهد بتوصيفات مناسبة ، وهو يخاطب قراء العربية وطريقة تفكيرهم ، علما بأن العرب قد ازدادت عندهم الاوهام والاخيلة ، وتنوعت لديهم جملة من الافكار المهيمنة منذ قرابة ثلاثين سنة مضت ، وهي ماضوية يتجه اغلبها نحو الماضي الذي يعتبرونه زاهرا او مقدسا ويسعون الى اعادته بأية اثمان ، وقد سبّب ذلك ابتعادهم عن الحداثة ومنتجات العصر الفكرية التي يعتبرونها حراما ، بل وجاهلية يزدرونها ازدراءً ! اذ بدأ الرواية بـ ” بيان رقم صفر إلى شهود حكاية لم يصدقوها.. ” ! وتلاها ، ” بيان رقم 2 صادر من خيمة البر الكبير ” ، والهلع الذي اجتاح العراقيين ، وخصوصا في سامراء التي انجبت ابراهيم الذي سيغدو في يوم من الايام يثير الرعب باسم داعشتاين .. ومن ثم ” بيان رقم (3) صادر من حاكم مدينة لا يعرف اسماء السمك ” وجذور التصادم بين المتعصبين السنة والشيعة مع تفسيرات البروفيسور براير .. وقوفا على ” بيان رقم 3 من غرباء إلى نزلاء..” مع شهادة تاريخية بين حال المنتفج وصولا الى الفاو وسلاسل من الفجائع التاريخية ، وانتقالا الى ” بيان رقم 4 .. عاجل عاجل” ، وتركيز على صدمة اعلان شخص مجهول نفسه خليفة على المسلمين في ” بيان رقم (1) صادر في ورقةٍ مرميةٍ على الأرض.” وبكاء النجف على ما مصيرها في ” بيان رقم (4) صادر من أناس لا يشبعون في الفطور ” وصولا الى ” بيان رقم (5) صادر من احتفال لطيف ” وفيه يحمل داعشتاين ساعته الذهبية في معصمه يمينا ومن حوله بعض قواته وقد وقفوا بالرشاشات حول المصلين ! ومنها الى ” بيان رقم (6) من اللجنة المركزية في مؤسسة العبث الخيرية ” ، وثمة جدلية بين البطل وصديقه غانم بشأن المذاهب في العراق منتقلين الى ” بيان رقم (7) صادر بالشعر العامي والقريض ” ومن ثم ” بيان رقم (8) صادر عن قيادة جمعية السكّر المالح ” وتتسلسل بقية البيانات في هيكلية الرواية ، اذ ينقلنا المؤلف من صورة الى اخرى ، وكلها مشحونة بالمشاعر ومليئة بالاحداث .. لقد احسست وانا اقرأ فصول او بيانات الرواية ، وكأني اعيش المشاهد واتداخل معها مباشرة .
لقد وجدت كاتبنا المطير ناقدا دقيقا في روايته لهذه الظاهرة المقيتة التي سماها ” داعشتاين ” ، واشيد به انه قد اطلع بدقة على جملة من التفاصيل للاحداث التي عاشتها مدينة الموصل التي نكبت بداعشتاين ظلما وعدوانا ، ونالت من شروره الكثيرة ، وقد عانى ولم يزل يعاني الملايين الثلاثة من سكانها من جور داعشتاين وظلمه بين قتل للناس وسبي للنسوة اليزيديات وقطع للرؤوس ومهانات واذلال مع تهجير قاطع للمسيحيين كلهم من الموصل وتوابعها .. وكأن نينوى بطولها وعرضها غدت حديقة حيوانات لها اقفاص حديدية وداعشتاين تفعل بهم ما تشاء .. اما المشردون في الارض ، فلهم مأساة من نوع آخر ، بعد ان نزحوا او طردوا واستولي على دورهم وحلالهم واموالهم وضياعهم من دون وجه حق .. هنا ، تعد داعشتاين كرواية ابداعية ، اول عمل مبدع يمكن للقارئ ان يستقي منه بوصلته الخاصة به ، خصوصا وان المؤلف سبر غور هذه ” الظاهرة ” ، وقدمها على أفضل وأجدى ما يكون . لقد اشترك المسؤولون العراقيون في كل من بغداد العاصمة وجيوش العراق بتقديم اثمن هدية للاعداء من ارهاب داعشتاين اثر صدور الاوامر بانسحابهم المذل من الموصل ، وجعلوها لقمة سائغة لطغمة داعشتاين .. وبدا المؤلف يكتب عن تجربته مع الحدث التاريخي الذي هز كل الضمائر الحية .
لا استطيع وليس من مهمتي الا تقديم الرواية للقراء الكرام ، اذ لا يمكنني تقديم رؤية نقدية لهذا ” العمل ” الذي آمل ان يتناوله المهتمون والنقاد والادباء وكل المثقفين بالعناية والفهم والتحليل بدءا من العنوان ” داعشتاين ” الذي اجد فيه استيفاء لعنصر التشويق, هذا بصرف النظر عن الاختيار الذكي والإيجابي لغة ومضموناً. وكان المؤلف واضحا في الذي يقوله لنا, معبرا بكثافة رائعة طرحها وباسلوب مختزل ذكي في اللغة التي استخدمها ، والتي اظهرت مدى قوة النص الذي سيبقى – كما اعتقد – شاهدا حقيقيا ومرئيا على تاريخ صعب جدا مر فيه العراق الذي تلاعبت في مصيره المخلوقات المشوهة باسم الدين والطائفية والعمامة ودولة الخلافة وباسم الله والتحزبات التي ظهرت على الساحة باسمه وما لها من رموز : اللحية والجبة والعمامة والحجاب والنقاب والوزرة والطرحة والسروال .. الخ والتي غدت رموزا سياسية بامتياز . لقد ورد في السيميولوجيا – وهو : علم دراسة الدلالات والرموز- بأنها نماذج تتحرك ضمن منظور أشمل يتمثل ادراجها في منظومة تتكون من ستة عوامل تمثل عددا من الشخصيات وكلها تضطلع بدور أحدها ، ولما كان يمثلها داعشتاين ، فهي جميعا تمثّل دوره برموز متباينة لها مخاطرها كلها في بنى يطلق عليها ” دول ” او ” احزاب ” دينية او طائفية ، لا تتصف احداها الا بصفات خطيرة مشتركة لها من الأهمية ما يكفي لأن تجمعها منظومة فكرية متخلفة واحدة تبتعد فيها كثيرا عن مفاهيم هذا العصر في كل من الدولة والمجتمع الحديثين .
اما هيكل الرواية فتقوم على العقدة التي يمثلها داعشتاين منذ البداية حتى النهاية ، كونها ظاهرة تاريخية سيكون لها تداعياتها في المستقبل على المجتمع العراقي كله ، ذلك ان داعشتاين لم يقتصر امرها على المركزية التي اقامتها في الموصل ، بل تمتد جغرافيا الى ابعاد جغرافية شاسعة ، ثم ان تأثيراتها الدموية طالت جملة من المدن والعواصم في العالم ، وفي مقدمتها بغداد وما توالى فيها من انفجارات دموية ذهب ضحيتها الالاف من البشر !
ولقد انعكست طريقة تفكير المؤلف الاستاذ المطير في كتابته للنص ، اذ ليس من السهل ان يكتب مثل هذا النص عن هذه ” الظاهرة ” غيره ، وخصوصا من حيث ما يتملكه من قيا الحداثة وروح العصر اولا ، ومن ثم التفكير الإجمالي أو التفصيلي, فيقدم وصفا عاما ، ثم البدء بالتركيز على الأحداث شيئا فشيئا من ناحية أكثر , او تفصيليا ليركز على الجغرافية المكانية مثلا أو اللوحات السايكلوجية والاحوال النفسية التي برع في توظيفها بعناية بالغة . وخصوصا عندما برع في توصيفاته واتباعه لثلاثة من المذاهب الوصفية ، ومنها الفكرية والنفسية والجغرافية
ويظهر لي مدى عناية الاستاذ المطير وشغفه بوصف المكان وعقلية البشر .. وعزفه الممتاز على العناية الفكرية عموما والتي يحتاجها مجتمعنا وكل المجتمعات العربية والاسلامية ، ناهيكم عن ضرورة المعالجات النفسية لجيل كامل ، غدا ملوثا بكل الاوبئة التي اجتاحت عالمنا ، ويبدو لي ان العراق كان بيئة مساعدة لنمو كل الادران والامراض على نحو بنيوي عميق .
لقد تعمّق المؤلف المطير في دهاليز نفسية معقدة للشخوص الذين نجح في حركتهم وقوتهم داخل المنظومة الصعبة وكيفية توصيف الافعال وردود الافعال .. في ساحة الصراع ، وكيف رجحت كفة أحدها على الآخر ، بسبب ضعف الشخوص ورخو التلاحم البنيوي فيها بعد ان غابت الثوابت الحقيقية للعراقيين عنهم ، وثلم النزعة الوطنية ، وغرق البلاد بالانقسامات الدينية وتسجيل ذلك هويات لها ، فتعددت الثقافات التي بدأت تصارع احداها الاخرى على نحو دموي مقيت ، وفي بيئة اشبعت بالحروب والانسحاقات النفسية وهروب القوى الفاعلة من المثقفين والمختصين ، وتشرذم الجهويات المحلية وتصاعد التقاليد البالية كالروح القبلية والتفاهات العشائرية .
لقد ظهر لي وانا اقرأ هذه ” المخطوطة ” لرواية داعشتاين ، ان مؤلفها الاستاذ المطير قد ابدى خالص وفائه الادبي والاخلاقي لرسالته العراقية من خلال مبضع مثقف قوي التكوين وخصب التجارب ، ومعرفته تماما بتقنيات العمل الروائي بدقة, وكيف كتب روايته منتصرا لفكرته ,اذ بدا ثقل تأثيره وقوة إقناعه للقارئ بما قدمه من رؤى قيمية قوية .. ورسم شخصياته ببراعة ، وإتقانه معرفة المناخ الصعب الذي دارت فيه شخوص متنوعة ومحكمة التوليفة السلوكية, وكانت الحبكة الروائية متعددة المسارات ، ومتشابكة الترابط, ونزلت تبحث في الدهاليز ، مشاركة الشخوص في تصاعد مستمر حتى النهاية .
انني اذ اقدّم هذا العمل الابداعي الى القراء الكرام ، لا يسعني الا ان ابارك للصديق المؤلف الاستاذ جاسم المطير عمله الرائع ، وقد اثبت في منتجه الادبي التاريخي هذا انه اول من كسر الطوق ، وكتب عن ظاهرة تاريخية مرعبة تجتاح حياتنا ليس العربية حسب ، بل تضرب كل العالم .. واهنئ الرجل على جهده المبذول في عنوانه وهيكليته وبنيته وفي الحوارات الممتعة وتشخيصاته الثمينة .. متمنيا ان تحظى هذه الرواية بالصدى الواسع ، مع تمنياتي للاخ المطير الصحة والعافية لانتاج المزيد من الاعمال الابداعية الخلاقة .
سيّار الجميل
تورنتو – كندا في يوم 3 تموز / يوليو 2016