ما نسمعهُ اليوم من الأهل والأصدقاء وكلّ الكبار والصغار عن أيّام المحنة التاريخية التي عاشتها الموصل ثلاث سنوات من حياتها خارج التاريخ، وهي في قبضة التوحش، وسطوة الإرهاب والرعب من “داعش” وأساليبه، يشكّل مسلسل رعبٍ سينمائي، لا يمكن أبداً استيعابه، أو تحمّل رؤيته، أو مجرد سماعه، أو تخيّل مشاهده التي سيسجلها التاريخ منذ اليوم، وبعد تحرّر هذه المدينة وكلّ أطرافها، وكأنها إنسان سوي دخل كهفاً مظلماً مليئاً بالافاعي والعقارب والعناكب، ونال ما نال من العذابات، وهو يخرج اليوم من جديد مليئاً، كما يبدو، بالجروح والقروح، مستجيباً لكلّ التحدّيات المريرة التي لم يشهد مثلها أبداً في حياته الطويلة.
مدينةٌ عريقةٌ شهيرة لها تاريخ حضاري رائع متنوّع، ولها جغرافيّة مهمّة جدا، وطبيعة جذابة وساحرة، وكانت تتمتع بخصوصياتها الاجتماعية الثقافية، وتمايزاتها السكانية المتنوعة منذ أكثر من ألف سنة.. تشهد بنفسها انسحاقاتها مع توابعها الجميلة بسيطرة منظومة بشعة قهرية، لا أخلاقية، لها شعاراتها الدينية العنيفة، وتتمكّن من الموصل لتجعلها مركز انطلاق خلافة إسلامية، وتتغوّل جماعات منها في سورية والأردن ومصر وليبيا ومالي ونيجيريا وبلدان أخرى.. وهي فئة منعزلة ومتمرّدة على التاريخ والحاضر والمستقبل، ولا تعرف إلّا لغة الدمّ والقصاص والموت، بل وتتفنن في طرق إعداماتها المتوحشة من قطع الرقاب إلى تفجير البشر، إلى إغراقهم مقيدين، أو إحراقهم في أقفاص، أو رميهم من الأسطح .. وبأساليب سادية بشعة، مع ممارسات حرب سيكولوجية مضادة، كما فعلت في سبي اليزيديات أو تهجير المسيحيين مثلاً.
وذلك كله يجري باسم إقامة الحدود والشريعة، وهي منظّمة فاشية تتكتّم على أسرارها في قراراتها، ولا تقبل أن يجادلها أحد، لا بالحق ولا بالباطل، لا تعرف لغة العصر، ولا واقعه ولا خطابه ولا أساليبه.. إنها لا تعرف إلا الموانع والحدود والقطائع مع الحياة الدنيا، كونها تمتلك ناصية حياة الآخرة (والعياذ بالله)! وهي تبيح لنفسها التخريب والسرقة والسلب والاستلاب للتمّتع والمتاجرة، وفي مقدّمتها سبي النساء، وغسل أدمغة الأطفال، ونهب الآثار، وسحق المدوّنات، والسيطرة على بيوت الناس، وعلى كلّ ما تحتويه، وسرقة ما خفّ حمله وغلا ثمنه. وعند ساعات التحرير، تركوا تلك القصور والبيوت بعد حرقها. إنها تكره الشعوب والقبائل والثقافات والمرأة والمأثورات والآثار والجوامع والكنائس.. والعالم كلّه عندها كافر يستحق الموت.. وهي تحرّم كلّ ما أبدعه الإنسان من فنون وآداب وعلوم، فهي بالضدّ منها كلّها، فقد أحرقت مكتبات الموصل وعبثت بكلّ المختبرات، وسحقت الأجهزة، وعاثت فسادا.. ومن تناقضاتها أنها تستخدم الجديد والحديث من السيارات والساعات وأجهزة الكومبيوتر والأسلحة… إلخ.
حكى لي محدّثي الذي عاش المحنة القاسية مع هؤلاء الذين حكموا الموصل أنهم خليط عجيب غريب من البشر، المرضى نفسياً، والذين سكنوا مع عوائلهم بيننا في أحيائنا، وفيهم الأعراب، وفيهم بشر من تونس والجزائر والرقة في سورية والجزيرة العربية، وفيهم من الأردن واليمن وليبيا، وفيهم من تشاد ونيجيريا، وفيهم من الصين وروسيا واليابان ومنغوليا وألمانيا، وهناك أتراك وشيشان وشركس وتركمانستان وقرغيز وكازاخستان وأذربيجان.. كان رئيس بلدية الموصل قبل بدء التحرير فرنسياً. سألته: كيف يتفاهم هؤلاء جميعاً في ما بينهم، قال: بالعربية الفصحى.
ومما قالته لي سيدة موصلية عنهم أنهم يتمتعون بقدرة قوّية على إقناع عوام الناس.. لا يسمحون أبداً بالمجادلة، ولهم ضبطهم الصارم في تنفيذ الأوامر والأحكام، ولهم أزياؤهم الخاصة بهم، واللحيّة مقدّسة عندهم، ففرضوا ذلك على كلّ أبناء المدينة.. السؤال الآن: ما سرّ كلّ هؤلاء يجتمعون ضمن منظومةٍ واحدة، وهم غير متجانسين أبداً، ليقبضوا بمثل هذه الشدّة على مدينة لم تكن تمتلك قوتها بأيديها، وكانت قد عاشت منذ العام 2003 وحتى سقوطها بأيدي “داعش” حياة مضطربة ودموية جدا. تحت سطوة الارهاب والعصابات الشرسة.
أقول إنّ الموصل لم تفتح أبوابها للشيشاني والتونسي وغيرهما من فراغ. ولكن، جاءتها عام 2004 أول موجة من الإرهابيين من سورية بدعم مفضوح من النظام السوري الحالي، ثم تغلغل بعد أشهر تنظيم القاعدة، وصولا من أفغانستان، عبر إيران وعبث أبو مصعب الزرقاوي وجماعاته بمقدرات المجتمع قبل مصرعه ، وعاشت الموصل سلسلة تفجيرات وقتل وخطف وفرض أتاوات وتهديدات وحالات رعب عشر سنوات من قبل عصابات ، ثم وصل تنظيم داعش ( ما يسمى بالدولة الإسلامية)، بعد مغادرة الأميركان، بقيادة المسمّى أبو بكر البغدادي من الرقّة السورية، مع مباركة قياديين بعثيين قدامى له، والذين ندموا لاحقاً على موقفهم بعد قيامه بقطع رؤوس بعضهم .. وكانت قد انتشرت الخلايا السرطانية الإرهابية حول الموصل الغربية، وكانت العلاقة مضطربةً بين فرق الجيش والسكان، ومورست كلّ صنوف القتل والخطف وفرض الأتاوات وملاحقة الشرطة المحلية مع سلسلة التفجيرات وبقاء جثث القتلى تتعفن في الشوارع. ولم تستطع الفرق العسكرية والأمنية إنقاذ أهل الموصل من هؤلاء المتوحشين.. وانسحب الجيش انسحاباً مخزياً أمام مئتي داعشي، في عمليّة هروب مخجلة يومي 10 و11 يونيو/ حزيران 2014، بأوامر من رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي. وامتد “داعش” نحو وسط العراق واقترب من بغداد، ويريد بعضهم إبعاد التهمة عمن كان يحكم العراق وقت ذاك؟ لو حدث عشر معشار ما حدث لدى شعب آخر، لكان أن حوكم الجناة أمام الشعب، ونالوا جزاءهم العادل..
عاشت الموصل قرابة ثلاث سنوات تحت بطش “داعش”، خرجت المدينة وأطرافها عن التاريخ، إذ توقفّت فيها الحياة، وتعطلت الحريات، وخسر كلّ أبناء الجيل الجديد فيها ثلاث سنوات من أعمارهم، فلا دراسة ولا تكوين ولا تأهيل.. وعاش كلّ المجتمع فاقداُ حرياته ومنتجاته كاملة، وفرضت على رجاله ونسوته قيوداً حديدية لا تطاق، إذ يلاحق المرء لأتفه الأسباب، واتهم الانسان باتفه التهم ليعدم علنا ، وعوملت المرأة بقسوة متناهية، إذ فرض عليها أن تتغلّف كاملة بالسواد، وتعاقب عقاباً شديداً أن شوهدت من دون قفازات سوداء بيديها، وهم شديدو الكراهية للمرأة، وتعامل البنات الصغيرات بقسوة بالغة، إذ يربط الأطفال الأولاد البنات الصغيرات بأربطة بلاستيكية من أعناقهن، ويسحلن أمام الجميع، ويا ويل لرجل شوهد يدخن سيجارة.. أو وشي بآخر يضع هاتفا نقالا على أذنه، أو وجدت شريحة هاتف في جيبه! لقد أعدم مئات من الموصليين في قلب المدينة لأسباب تافهة، ومن السهل أن يقام الحدّ على أيّ إنسان لمجرد الشبهة ، وقد رمي بالعشرات من الشباب من اعلى بناية في الموصل بعد اتهامهم بالمثلية كذبا وزورا ..
من المؤسف انتماء بعض من أبناء المدينة، ومن أعراب القرى الغربية، ومن تركمان تلعفر، لهذا التنظيم الدموي، عن قناعة عقائدية لفهمهم الخاطئ للدين، إذ حكم المجتمع المحلي بالموصل صراع صوفي سلفي مكشوف زمناً طويلا، ومنهم من انتمى لأغراض نفعيّة ووصولية مجرّدة، ومنهم من انتمى بسبب حالة التجاذب القسري بكرهه وحقده على المدينة.. كما لعبت الكراهية الدينية والمذهبية والعنصرية دورها الخبيث في انتاج هذه الظاهرة القميئة في تاريخ هذه المدينة التي تنوعت في مجتمعها كل العناصر المتنافرة .
كتب لي أحدهم عاش المأساة من قلب الموصل، يقول: الآن هي الموصل تتحرّر، وبدأ التراجع لتغطية الماضي القريب. الموصل والموصليون يحفظون بالحدث والصور، وهم ساكتون اليوم. إنهم ليسوا جبناء، ولكن الحكم عليهم ظالم قاهر، وسيأخذون بثأرهم مهما طال الزمن… ولا أي إنسانٍ يستطيع إيقاف ثكلى عن ثأرها، لأنه لا يوجد ما تفقده أكثر مما حصل. كلّ من لطّخ يده بدماء الموصليين أو والى داعش ودعمه وأيّده يجب أن يحاسب، حتى لو كان من أقرب المقرّبين. أقول ذلك، وأنا ليس لي عداء مع أحد، إلا من آذى أهلي في الموصل، وحرمني من أولادي أو ساعد في أذاهم. علينا باستئصال هؤلاء، وكلّ خلاياهم المتحفزة والنائمة، وأن لا نسمح بعد اليوم أن تنمو مثل هذه الظاهرة الكسيحة ابدا . وان تنال الموصل استحقاقاتها التاريخية .
أجبت صديقي، قائلاً: هذا هو بيت القصيد.. على أهل الموصل أن يستوعبوا درس هذه المحنة القاسية، وأن تستعيد أم الربيعين الوعي، بعد رحيل هذه المأساة المضنية التي سيسجلها التاريخ، بنهوضها من كبوتها بمشروع تاريخي يحفظ لها قوتها ، وهي قادرة على أن تستعيد عظمتها وجمالياتها في إطار وطن اسمه العراق. واتمنى مخلصا ان يخرج المجتمع من هذه المحنة وقد تعلّم درسا حقيقيا هو ان الحرية اثمن من كل القيود ، وان التعايش والسلم الاهلي هو السبيل في هذه الحياة ، وان مستقبلنا لا يبنى الا بمشروع مدني له خصوصيته وهو منفتح في هذا الوجود .
نشرت في العربي الجديد اللندنية ، 25 آذار / مارس 2017 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل