مقدمة
صدر قبل ايام عن دار ضفاف كتاب جديد بالعربية ، هو ترجمة لكتاب كيرمت روزفلت Kermit Roosevelt 1989- 1943 بالانكليزية ” حرب في جنة عدن ” War in the Garden of Eden ، وقد قام بترجمته الاستاذ سهيل نجم ، وكنت قد اطلعت على الترجمة ، فوجدتها مطابقة جدا للنص الاصلي الذي كان قد ضمته النسخة الانكليزية .. وكان قد طلب مني الاخ الدكتور باسم الياسري صاحب ضفاف ، ان اكتب مقدمة لهذا ” الكتاب ” ، فاستجبت لطلبه نظرا لاهمية ” الكتاب ” ، وخدمة لثقافتنا العربية التاريخية الحديثة . ويسرني وبعد صدور الكتاب معرّبا ، ان اعيد نشر مقدمتي للكتاب ، كي يتعرّف الناس على أهمية النص التاريخي الذي كتبه كيرمت روزفلت عن العراق ابان الحرب العالمية الاولى ، وكان الرجل شاهد عيان لها ، وللعلم ان المؤلف هو ابن رئيس الولايات المتحدة الاميركية الاسبق تيودور روزفلت والذي حكم بين 1901- 1909 ..
اولا : الكتاب : أهميته وموضوعاته
يعدّ هذا ” الكتاب ” من أهم الكتب التي صدرت بالانكليزية عن الحرب العالمية الاولى وبعد خمس سنوات من انتهاء تلك الحرب الضروس ، اذ صدر لأول مرة عام 1923 ، وكانت الطبعة الاولى فيها جملة من الاخطاء المطبعية، وبعض المرادفات الملتبسة. مع بعض العيوب احيانا ، ولكن كان يتضمن نصا له اهميته من الناحية الثقافية ، اذ كشف عن معلومات ثرة ، وكان ولم يزل علامة فارقة لشهادة شاهد عيان من قلب الاحداث المصيرية التي كان يرقبها العالم لتتكشف اثر ذلك ولادة جديدة لتاريخ جديد للعالم كله ، واعادة رسم خارطة جديدة للعالم اثر انعقاد سلسلة مؤتمرات للمنتصرين في الحرب بدءا من مؤتمر فرساي عام 1919 وما اعقبه من مؤتمرات وسلسلة معاهدات واتفاقيات ، رسمت جميعا تشكيل النظام الدولي الذي ساد في القرن العشرين بعد انتهاء مائة عام على النظام الدولي القديم الذي رسمه مؤتمر فينا بالنمسا اثر الحروب النابليونية عام 1815 ..
ولقد بقي هذا ” الكتاب ” بالانكليزية من غير ترجمة الى العربية حتى اليوم ، لكي تنشره دار ضفاف اثر ترجمته بالعربية باهتمام من صاحبها الصديق الاخ الدكتور باسم الياسري ، وسيضيف الى مكتبتنا العربية اضافة مهمة جدا تحتاجها ثقافتنا العربية وطلبتنا وباحثينا العرب ، فضلا عن المعلومات الجديدة التي سيضيفها للوعي التاريخي العربي اليوم ، وبعد قرابة 94 سنة من صدور طبعته الاولى .. ناهيكم عما سيضفي من متعة لما تضمنته محتويات هذا الكتاب القيم.
مصدر مهم في تاريخ العراق الحديث
كان هذا ” الكتاب” قد اثار اهتمامي منذ قراءتي له لأول مرة قبل اربعين سنة ، كونه اعتنى بالحديث عن احداث جرت أثناء الحرب العالمية الأولى في بلاد ما بين النهرين، التي تعرف باسم العراق ، خصوصا ، وان العراق قد شغل مكانة مهمة ابان تلك الحرب من جنوبه الى شماله وعلى امتداد زمنها كله 1914- 1918 . وقد عبّر المؤلف تعبيرا فوتوغرافيا كونه شاهد عيان لاحداث مهمة جرت في العراق ، اذ كان قد خدم في العراق خلال تلك العمليات الحربية بين القوات البريطانية الزاحفة من جنوبه عند فوهة الفاو ووصولا الى مدينة الموصل ضد القوات العثمانية التي دافعت باستماتة عن العراق ، وكانت لها انتصاراتها وانتكاساتها حتى تقهقرت ، وخصوصا بعد سقوط بغداد بيد الانكليز بقيادة الجنرال مود عام 1917 الذي ادّعى بأنه دخل بغداد محررا لا فاتحا .. ويؤكد المؤلف هنا بأن تلك العمليات قد جاءت من اجل حرية العراق (كذا ) .
بدا لنا المؤلف كيرميت روزفلت ( وهو نجل الرئيس تيودور روزفلت ) – لاحقا صورة تعريفية موسعة عنه – بدا مهتما بتلك البلاد العريقة ، وزار كثير من الأماكن العراقية ، مثل : بغداد، والحلة، وكربلاء والرمادي .. بعد أن أتيحت له الفرصة لتلك الزيارات ، فقام بتقديم توصيفات لها ، وكما شهدها بأمّ عينيه ويكتب عن اوضاعها الصعبة سواء في المراكز الحضرية الداخلية للمدن ، ام في المناطق النائية، ويذكر بأن المناطق الحضرية قد شهدت تغييرات كبيرة . وخصوصا في مجالات السوق، وعلى وجه الخصوص، حركة دائبة في المدن والقرى مع التجار الذين كان يعرضون بضاعتهم ، وتجمع الجماهير المحتشدة من الناس الذين وجدوا اختلافا كبيرا في التعامل والحياة بين حياة كئيبة كانوا يحيونها على عهد قديم ابان الزمن العثماني ، وبين حياة جديدة بوجود محتل جديد بدت ملامحه مختلفة واساليبه مبتكرة ووسائله مستحدثة وله قوة ونفوذ كبيرين .
ان ” الكتاب ” قراءة قصيرة، وممتعة ومثيرة للاهتمام حول الحملة البريطانية في شمال العراق خلال الحرب العالمية الأولى. وقد كتب بعد وقت قصير من تلك الحرب الضروس ، وخصوصا تسجيل الكتاب لبعض الاحداث والتقييمات والمواقف الت لم نجدها في مكان آخر . وهو ” كتاب” قيم عن حملة غير معروفة، وخصوصا وان المؤلف بدا يحمل اهتماما بالغا بالمكان واستراتيجيته في قلب العالم ، ويبدو ان الرجل قد خدم مع وحدة مجهزة بسيارات مدرعة من نوع رولز رويس. وتابعنا توصيفاته للعديد من أسماء الأماكن التي قد تكون مألوفة من القراء العراقيين .. وقد عرفت بأن الامريكيين قد عادوا الى هذا ” الكتاب ” في غزوهم للعراق واحتلالهم له عام 2003 ، واستعادوا جملة من المعلومات عن سكانه وطبائعهم ولكنهم لم يدركوا بأن ثمانين سنة من القرن العشرين قد غيرّت العراقيين تماما ، فالعراقيون اليوم عند بدايات القرن الحادي والعشرين يختلفون تماما عن آبائهم واجدادهم الذين عاشوا في بدايات القرن العشرين . لقد كان العثور على هذا الكتاب الصغير له فائدته مهما كانت المعلومات التي تضمنها من اجل معرفة المزيد عن حملة بلاد ما بين النهرين.
هيكلية الكتاب
يتألف الكتاب من عدة فصول توزعت على موضوعات مهمة جدا ، ويمكننا التوقف عند عناوينها قليلا :
1/ التوقف عند ميزوبوتيميا ( العراق ) .
2/ جبهة نهر دجلة
3/الدوريات عند آثار بابل .
4/ استمرار المناوشات واستكشاف على طول الجبهة .
5/ التقدم على نهر الفرات .
6/ استكشاف بغداد
7/ الهجوم على الجبهة الفارسية .
8/ مرة اخرى من خلال فلسطين
9/ دوري في فرنسا والمانيا اولا .
لقد اختتم الكتاب في فصلين اثنين من فصوله حول تجربة كيرميت روزفلت قائد بطارية في فرنسا عند نهاية الحرب العالمية الأولى ، وبعد ذلك في احتلال منطقة الراين. وهذه هي أيضا مثيرة للاهتمام، وليس بقدر ما هو تاريخ معركة، ولكن كما وصف الحياة في وحدة قتالية . ولكن يظهر هذا ” الكتاب ” ليكون مقتطفات من مذكرات أطول. لقد كان من الجيد أن نعرف كيف جاء المؤلف للخدمة العسكرية كضابط في الجيش البريطاني ..
ولكن لماذا وكيف في العراق؟
لقد كانت هذه نظرة مثيرة للاهتمام ابان الحرب العالمية الأولى من وجهة نظر جندي. امريكي من آل روزفلت عرف بمغامراته في منطقة الشرق الأوسط وفرنسا وألمانيا وكيفية مشاركته محاربا في الحرب العالمية الأولى. واعتقد ان دوافع الرجل لم تكن سياسية ، وان لم تكن تخلو من عوامل سياسية ، ولكن بدا واضحا انه كان مندفعا لتلبية طموحاته في المغامرة والاستكشاف .. ومن المفيد جدا ان نطّلع على انطباعاته ازاء شخصيات معينة لها نفوذها ، وخصوصا اولئك الضباط والساسة البريطانيين في العراق ، ورؤيته هو نفسه الى العراق والعراقيين في تلك المرحلة التاريخية الحرجة من تاريخ العراق عند بدايات القرن العشرين .
الاسلوب والمنهج
يبدو لنا من خلال التأمل في أسلوب الكتابة الذي مارسه لاشباع رغبته ، فأثار مسألة مهمة جدا في الواقع، وكانت أوصافه لاغلب المناطق قد جاءت من خلال رؤيته لها واحاطته بها ، فبدت في بعض الأحيان واضحة جدا وبدت أحيانا أخرى غامضة جدا. ويخرج المرء حقا من قراءته بأنه يتابع حالة شخصية تصور قصة الحرب من قلب الحدث ، ولكنه يستبعد نفسه كثيرا عن القتال نفسه . انه يميل الى الاختصار الشديد ، فهو لم يعتن بالحدث من وجهة نظر صحفي او مؤرخ ، بل رغب ان يكتب انطباعات عن حياة لا عن حرب وصراع ، اذ لم يهتم بدقة التواريخ ولا بزمن الاحداث ، ولا بساعات القتال في يوم معين ، ولا شيء غير ذلك من المسألة التي يعتبرها المؤرخون وصناع التاريخ مسألة كبرى ومصيرية . . انه يذهب الى قدر كبير من التفصيل عن الناس اذ يلتقي (بما في ذلك العقيد لورنس الذي اشتهر باسم لورنس العرب ، على سبيل المثال) .. وعليه ، فانها انطباعاته طبيعية جدا ، وكأنه لم يخض حربا شعواء تثير احداثها الرهبة ، فهي مكتوبة بشكل جيد ، ولكنها بالتأكيد ممتعة جدا وليست مملة. انها مثيرة جدا للاهتمام، ولكنها لا تمنح كل الاجوبة التفصيلية لكل من يتساءل عما كان يجري على أرض الواقع خلال تلك الحرب العظمى. انها اشبه بمذكرات مثيرة للاهتمام ، وقد كتبت من قبل كرميت أحد أبناء ثيودور روزفلت. كان واحدا من أربعة ابناء ، فهو قد خدم في الحرب العالمية الأولى ، والاخر طيار قتل في واحدة من المعارك. وأصيب كل من الاثنين الاخرين . لقد خدم كيرميت مع الجيش البريطاني في الشرق الأوسط (العراق في العصر الحديث) ضد الأتراك العثمانيين قبل أن ينضم إلى الجيش الأميركي في فرنسا كضابط مدفعية. وبقي حتى وضعت الحرب اوزارها اثر احتلال الحلفاء لالمانيا.
بالرغم من الاسلوب المختزل والقوي الذي استخدمه المؤلف كيرميت روزفلت وايجازه ، فان عباراته جاذبة للقارئ ، وهو يحكي لنا عن بلاد مهمّة وجميلة وعريقة ، ولكنها غارقة في التخلف والجهالة والفقر وكانت المجاعة تجتاح مناطق بعينها في العراق ، وكان يختزل جملة هائلة من الاميال والمسافات الجغرافية الطويلة في اقل العبارات ، ولكنها عبارات دسمة بالمعلومات ، اذ يذكر هو نفسه بأن من عادته ان لا يضيع الكلمات في الانشائيات الفارغة ، ويضيف بأنه كان على اتصال وجيز وحيوي مع تجربته في بلاد ما بين النهرين كضابط في الجيش البريطاني ، ولكنه كان مخلصا لوطنه كضابط في الجيش الأمريكي اعيرت خدماته للعمل ضد ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى.
هذا “الكتاب” مكتوب بشكل جيد جدا من قبل مؤلفه كيرميت روزفلت الذي اعتمد عام 1947 من قبل قيادة الجيش الأمريكي وكلية الأركان العامة لتقديم سلسلة محاضرات مهمّة ضمن سلسلة من التبادل السنوي للمحاضرين الامريكيين والبريطانيين . وكان هذا الكتاب واحدا من المصادر التي اعتمدت في معرفة استراتيجيات بريطانيا لكل من يهمه الأمر في التاريخ العسكري أو التوغل في كشف الخلفية بعضا مهما من التاريخ الحديث للشرق الأوسط.
ثانيا : المؤلف : سيرته وحياته
من يكون ؟
عاش كيرميت روزفلت حياته رجل اعمال أمريكي بعد ان كان جنديا ، ومستكشفا، وكاتبا ، عاش بين 10 اكتوبر / تشرين الاول 1889 – 4 يونيو/ حزيران 1943م ، وهو الابن الثاني لتيودور روزفلت الذي عاش بين 6 يناير/ كانون الثاني 1858 – 27 اكتوبر/ تشرين الاول 1919 الرئيس السادس والعشرين للولايات المتحدة الاميركية 1901- 1909 ، كان كيرميت قد تخرج في جامعة هارفارد، وخدم في الحربين العالميتين (في الحرب العالمية الأولى مع كل من الجيوش البريطانية والأمريكية)، كما تملكته روح المغامرة ليقوم باستكشاف قارتين مع والده. ، ولكن انقلبت سلوكياته وسيرته رأسا على عقب بعد ذلك ، اذ خاض معركة ضارية مدى الحياة مع الاكتئاب والإدمان على الكحول، وقد اودى به ذلك في النهاية إلى الانتحار أثناء خدمته في الجيش الأمريكي في ألاسكا خلال الحرب العالمية الثانية (1) .
الطفولة والتعليم
ولد كيرميت في ساجامور هيل، وهي مدينة صغيرة عاشت فيها اسرة روزفلت تقع عند خليج المحار، قرب نيويورك، وهو الابن الثاني لتيودور روزفلت، ( عاش بين 1858 -1919) وأمه إديث كيرميت كارو ( عاشت 1861 -1948). وكان لديه أخ أكبر، اسمه تيودور “تيد” روزفلت الذي عاش بين (1887-1944)، وشقيقته الصغرى، اثيل كارو روزفلت التي عاشت بين (1891-1977)، ولديه اثنين من الأخوة الأصغر سنا ، هما : أرشيبالد بولوك “ارشي” روزفلت الذي عاش بين (1894-1979) وكوينتن روزفلت الذي عاش بين (1897-1918). كما كانت لدبه اخت له من والده وكانت اكبر منهم سنّا اسمها أليس لي روزفلت والتي عاشت بين (1884-1980)، وكانت من زواج والده الاول من أليس هاثاواي لي (1861-1884) .
عندما كان كيرميت طفلا، تحّلى بالقليل من المقاومة للمرض والعدوى. وكان لديه ميل للغة، والتمتع بالقراءة التي شغف بها بشوق كبير . وذكر بأنه اظهر موهبة الكتابة والتي أدت به لاحقا إلى تسجيل تجاربه ابان الحرب العالمية الأولى في كتاب أخذ شهرته منذ صدوره الاول (2) .
بعد حضوره الدائم في مدرسة جروتون، التحق بجامعة هارفارد. في عام 1909، كطالب يتطلع الى الحياة الجديدة مع بدايات القرن العشرين ، وكان والده قد اكمل رئاسته للولايات المتحدة عام 1909 ، وبدا شابا وسيما يحب الطبيعة وممارسة الرياضة في الهواء الطلق، وذهب في رحلة لمدة عام الى أفريقيا بتمويل من مؤسسة سميثسونيان ، فاكتسب تجارب جديدة ، ومرّ بعد هذه الرحلة، من خلال أوروبا التي كانت وقت ذاك في ذروة توهجها ، ثم عاد روزفلت إلى جامعة هارفارد ، وأكمل السنوات الاربع من الدراسة في عامين ونصف عام، وتخرج مع فئة المتخرجين دفعة عام 1912. وكان عضوا الى جانب والده في نادي Porcellian. ثم أصبح روزفلت عضوا نشيطا في نادي بون وكروكيت اذ رغب في معرفة البيئة ، وهي منظمة كانت تعنى بالحفاظ على الحياة البرية التي كانت مثار اهتمام والده الرئيس وكان قد شارك في تأسيسها . وكتب أحد المعلقين أن كيرميت يجسد المثل العليا للنادي وربما اكثر التصاقا به من أي شخص، بما في ذلك والده (3) .
البعثة الى أمريكا الجنوبية
نمت لدى كيرميت روزفلت لحية على وجهه ، وذلك خلال احدى الرحلات التي مضت به عام 1913، بمشاركة ابيه في حملة عند الحوض الاسفل من نهر الامازون . ان واحدا من الكتب الأكثر شعبية لثيودور روزفلت، يحكي قصة اختراق البراري البرازيلية، وقد روى كل من الاب والابن تلك الحملة المغامرة في الغابات البرازيلية عند حوض الأمازون في 1913-1914. لقد ذهب كل من الأب والابن على ما أصبح يعرف لاحقا باسم ” البعثة العلمية : روزفلت-روندون” من اجل استكشاف الغابات البرازيلية برفقة المستكشف العقيد كانديدو روندون. وخلال تلك الحملة، تم استكشاف نهر الدويت ، والتي سميت فيما بعد بـ ريو روزفلت تكريما للرئيس ورحلته نحوها ، وكذلك استكشاف فرع من ذلك النهر ، وقد دعى بـ ريو كيرميت تكريما له. وقد تم استكشاف مصدر نهر روندون في وقت سابق، لكن المنطقة لم يتم استكشافها بالكامل أو تعيينها بدقة من الناحية الجغرافية (4).
في زمن تلك البعثة، كان روزفلت الابن قد تعرّف حديثا إلى حسناء اسمها ايت ويلارد، وهي ابنة السفير الامريكى لدى اسبانيا. وكانت والدته إديث قلقة إزاء صحة زوجها ، وهو في رحلته وكانت تفكر في طبيعة الصعوبات التي قد تواجهها اية بعثة جديدة، فكان ان طلبت من ابنها كيرميت مرافقة والده. وقد فعل ذلك، وعليه ، فقد تأخر زواجه وهو على مضض . وكان نطاق الحملة قد توسّع عما رسم في الخطط الأصلية، اذ ترك المشاركون ما كانوا قد رسموه في بداية الامر ، وغدوا على استعداد كاف لرحلة تتبع نهر الدويت والتعّرف الى مصدره ، وذلك من خلال اجتياز مئات الكيلومترات المتكونة من الغابات المطيرة والمجهولة. وتحمّل قساوة المناخ والتضاريس، وعدم كفاية العتاد والمواد الغذائية، والمرور بحالتي وفاة ، احدهما من خلال الغرق واحدة، وثانيتها من خلال القتل ، مما أثر كثيرا على البعثة ومهمتها العلمية وتحولها إلى محنة. ومما زاد في قساوتها اصابة الأب روزفلت بمرض الملاريا من خلال عدوى خطيرة ناجمة عن إصابته في الساق، وقد اضعفته جدا ، فصار عبئا على اصحابه الى الدرجة التي فكّر فيها ان يتناول جرعة قاتلة من المورفين كيلا يغدو عبئا ثقيلا على أصحابه. قال روزفلت الاب أن موته سيتيح للاخرين فرصة ثمينة اكبر من كونه عبئا اكبر للبعثة. ولكن على الرغم من أن روزفلت الابن قد اصيب بالملاريا كذلك، ولكن الذي انقذ الاب جرعات من الكينين بعد ان اقترب كثيرا من الموت نفسه ، وكان الفضل في انقاذه ، اصرار الطبيب على اعطائه الدواء عن طريق الحقن. وكان تقرير روزفلت الابن يشيد بالمهارات العليا في إنقاذ حياة والده. ومع ذلك، فقد بقي والده يعاني من المرض والالتهابات الشديدة التي كانت تتطلب منه دخول المستشفى وهو في قلب الغابات الموحشة الرطبة . إلى جانب ريو روزفلت ، فقد استكشف ايضا احد فروع نهر ريو كيرميت وسمي باسمه تكريما له. اما اليوم، فهو يسمى بـ ريو روزفلت عادة ريو تيودورو عند البرازيليين الناطقين بالبرتغالية ، وكان اسم او لفظ ” روزفلت ” يشكّل عقبة او صعوبات لديهم بسبب النطق لكلمة ‘روزفلت’.
وعلى الرغم من أن كيرميت واصحابه قد واجهتهم الشكوك حول مطالباتهم في التنقل عبر انهار مجهولة تماما ، وقد اخترقوا أكثر من 1000 كم في العمق الموحش ، فان خطاب روزفلت الاب في كتابه قد أسكت المنتقدين في نهاية المطاف ، واعتبر واحدا من أكثر الكتب شعبية، وهو يصف تلك البراري البرازيلية والحياة الطبيعية فيها . وقد رويت اخبار تلك البعثة 1913-1914 في وقت لاحق في نهر الدويت من قبل كانديس ميلارد (دووبلدي 2005) (5) .
الزواج والأطفال : كيرميت وبيل ويلارد روزفلت في عام 1928
بعد رحلة الأمازون، في عام 1914 تزوج كيرميت بيل وايت ويلارد (1892-1968)، ابنة السفير الامريكى لدى اسبانيا. وانجبا أربعة أطفال: كيرميت روزفلت، الابن (1916-2000)، وجوزيف ويلارد روزفلت (1918-2008)، وبيل وايت كلوجيت روزفلت (1919-1985)، واللاعب دريك روزفلت (1925-1953) . وكان كيرميت بين العامين 1914-1916، مديرا مساعدا لبنك ناشيونال سيتي في بوينس آيرس.
الخدمة العسكرية في الحرب العالمية الأولى
يتبين من خلال كتابه ان كيرميت روزفلت كان قد انخرط جنديا صاحب خبرات في زمن الحرب العالمية الاولى ، ليصل الى بلاد ما بين النهرين ، وليكتب بعدذاك كتابه الذي اسماه بـ ” الحرب في جنة عدن ” . كيف حدث ذلك ؟
في عام 1917 ، بينما كانت الحرب تدخل عامها الثالث ومع حدوث متغيرات تاريخية كبرى وخصوصا في روسيا ، دخلت الولايات المتحدة الاميركية الحرب العالمية الاولى ، مما سبب ذلك اثارة للنزعة الوطنية عاطفيا لدى البعض ، ومنهم كيرميت ، فكان ان التحق بمدرسة بلاتسبورج للضباط بين شهري مايو/ أيار إلى يوليو/ تموز 1917 ، ويعتقد انه كان متلهفا للمشاركة بأي ثمن من الاثمان ، فقد استقال من الجيش الأمريكي وسعى للانضمام إلى الجيش البريطاني وكان فخورا بذلك . في 22 أغسطس/ آب 1917، عين روزفلت كابتن فخري في الجيش البريطاني ، ورحل على وجه السرعة الى الجبهة العراقية ، فكان ان شهد القتال العنيف في الشرق الأدنى طوال بقائه في العراق قلب العالم ، ولكنه نقل لاحقا إلى جيش الولايات المتحدة الاميركية . بينما بقي إخوته الآخرين يلازمون التدريب الصيفي في بلاتسبورج، نيويورك، في حين كان روزفلت قد غاب عن ذلك التدريب.
نعم ، انضم كيرميت روزفلت الى فصائل الجيش البريطاني وعمليات القتال على مسرح بلاد ما بين النهرين (العراق في العصر الحديث) خلال الحرب العالمية الأولى وجرى ضمه الى بطارية الاسلحة الرشاشة الخفيفة المدرعة موتور 14 ، ولكن القيادة العليا البريطانية قررت بأن لا يمكن أن يخاطر بحياته في هذا المكان ، وهكذا جعلوه الضابط المسؤول عن النقل (سيارات فورد موديل تي). وفي غضون أشهر من نشرها في بلاد ما بين النهرين، وقيل انه بدأ يتقن التحدث بالعربية ويكتبها .. وكان في كثير من الأحيان يعتمد عليه كمترجم مع السكان المحليين. وقد حصل على وسام الصليب العسكري في 26 أغسطس/ آب 1918. بعد ان تخلى روزفلت عن اللجنة البريطانية في 28 نيسان / ابريل 1918 وتم انتقاله إلى AEF في فرنسا. في عام 1918، بعد ان علم أن شقيقه الأصغر كوينتين، وكان طيارا، قد اسقط الالمان طائرته على الاراضي الفرنسية ، فدفن فيها اثر جنازة عسكرية كاملة . وجاء التحاق كوميت بالقطعات الامريكية ، وقد كلف بمهمة ضابط برتبة نقيب في جيش الولايات المتحدة في 12 مايو/ ايار 1918 وقاد بطارية C، المدفعية 7TH شعبة 1ST. وشارك في معركة غابة أرجون قرب نهاية الحرب. ثم عاد إلى الولايات المتحدة يوم 25 مارس/ آذار 1919 ، ثمّ سرح من الجيش بعد ذلك بيومين (6).
بين الحربين العظميين
بعد ان وضعت الحرب الاولى اوزارها ، ذهب روزفلت للعمل في الأعمال التجارية. فقد أسس شركة نقل بحرية سماها ” باخرة روزفلت ” وبقي في الولايات المتحدة الاميركية يتمتع بالعديد من الأنشطة في الهواء الطلق مع إخوته. كما انكب يكتب كتابه الذي سجل فيها ذاكرته عن العراق بعد سقوط بغداد من قبل الانكليز عام 1917 .
في عام 1925 ، رافق روزفلت شقيقه تيد في رحلة صيد باعماق الهند في جبال الهيمالايا، وقد مرّ على منطقة جبلية مجهولة ، اذ بقي يتصاعد نحوها من وادي كشمير من خلال اجتيازه طريق الحرير القديم في الصين، بحثا عن اكباش الخراف البرية ذات القرون الكبيرة وقد عاش اياما اسطورية برفقة شقيقه تيد معبرا في هذه الرحلة عن عالم جديد سجل احداثه في كتابهما ” الشرق من الشمس وغرب القمر ” . وقد نالا عدة جوائز بعد الانتهاء من هذه الحملة التي يعرض بعض نماذجها متحف فيلد للتاريخ الطبيعي في شيكاغو. ، اذ كانت تلك الحملة الاسيوية قد مولّها متحف صيا جيمس سيمبسون، ويسمى أحيانا “جيمس سيمبسون روزفلت الآسيوي لبعثة انفق عليها متحف فيلد للتاريخ الطبيعي” (7) . وفي العامين 1928-1929 كان كل من كيرميت روزفلت وشقيقه تيد عضوين مؤسسين لمؤسسة كيلي-رووسفلتس المهتمة بالشؤون الآسيوية من خلال البعثات . وكتب الاخوان روزفلت قصة دورهما في الحملة في كتابهما الذي تحدثا فيه عن الباندا العملاقة. لقد خدم كيرميت روزفلت لاحقا في منصب نائب رئيس جمعية علوم الحيوان في نيويورك خلال الفترة 1937 – 1939 (8) .
خدمة كيرميت في الحرب العالمية الثانية
قبل 14 أكتوبر / تشرين الاول 1939، عندما كانت بريطانيا في حالة حرب ضارية ضد ألمانيا، اجرت احدى اللجان مفاوضتها مع كيرميت باعتباره ملازما ثانيا في فوج ميدلسكس ، وجاء ذلك بمساعدة صديقه الاقدم ، ونستون تشرشل، الذي كان في ذلك الوقت اللورد الأول للقوات البحرية. وكانت مهمته الأولى لقيادة فرقة من المتطوعين البريطانيين للحرب الشتوية في فنلندا (9) ، ووفقا لقصة معاصرة نشرت في صورة بوست، تقول بانه استقال من الجيش البريطاني لقيادة الحملة. ومع ذلك، فقبل أن يتم إطلاق الحملة، قدمت فنلندا مشروعها للسلام مع روسيا.
المهم ان روزفلت قد خدم بامتياز في غارة على النرويج ، وأرسل بعد ذلك إلى شمال أفريقيا، حيث كان هناك القليل من الإجراءات المرحلية ، ولكن فجأة ، شعر بالالام المبرحة في بطنه وكان قد استأنف شرب الكحول كثيرا مما اضعف بنيته بعد ان اصيب بتضخم كبده ومضاعفات معقدة لذلك بسبب تجدد اصابته بالملاريا. وعاد في نهاية عام 1940، إلى إنجلترا وقد سرح من الجيش لأسباب صحية في 2 مايو/ ايار 1941، وهو الوقت الذي كان قد بلغ فيه مرة أخرى رتبة نقيب ولقد التقى في لندن رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، فأيدّ مسألة تفريغه الطبي .. وعندما عاد إلى الولايات المتحدة، وجد نفسه في بحر من المشكلات ، فالتفت إلى الشرب لنسيانها . لقد شعر بالاحباط الكبير ، خصوصا وان زوجته قد طلبت مساعدة ابن عمه الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت، الذي أمر مكتب التحقيقات الفدرالي لالقاء القبض على كيرميت ، من اجل ان يعود إلى أسرته. في أواخر أبريل/ نيسان 1942 سعى شقيقه أرشيبالد الى أن يلزمه بمصحة لمدة عام. وفي نهاية الشهر ، وافق على ان يقيم لمدة أربعة أشهر في مؤسسة هارتفورد. كي تخلصّه من وضعه الحالي، ولقد أعطى الرئيس ريادة لجنة في جيش الولايات المتحدة، وكان عليه مهمة نقلها ونشرها إلى فورت ريتشاردسون، ألاسكا، حيث كان يعمل كضابط استخبارات وساعد في تأسيس ميليشيا الإقليمي من الأسكيمو (10) .
الرحيل بعد معركة مع الاكتئاب والإدمان على الكحول
عانى كيرميت من الاضطرابات الصعبة مع نوبات مزمنة من الاكتئاب وكان يزداد ادمانا على الكحول وبدأ يتعاطى المخدرات. ويقال انه ورث هذه العادات عن جده لأمه تشارلز كارو ، لقد توفي كيرميت روزفلت في ألاسكا في 4 يونيو/ حزيران 1943، في غرفته في فورت ريتشاردسون، متأثرا بجروحه في الرأس (11) وقد اكتشف الدكتور سانفورد مونرو، الذي قدم في وقت لاحق تقرير تشريح الجثة. وذكر وفاته لوالدته، إديث، انها كانت نتيجة نوبة قلبية.. وقد دفن في فورت مقبرة ريتشاردسون الوطنية قرب مرسى، حيث تم نصب بوابة حجر تذكارية تكريما له في عام 1949. وقد خلف وراءه زوجته الحسناء وأربعة أطفال: كيرميت “كيم” روزفلت، الابن، وجوزيف ويلارد روزفلت، وبيل وايت روزفلت، واللاعب دريك روزفلت. لقد تم تسمية مدينة باسمه كيرميت، والتي تقع في فيرجينيا الغربية، كما اطلق اسمه كيرميت روزفلت على معمل لوزون لاصلاح السفن تكريما له. وهناك سلسلة من المحاضرات السنوية الواردة في الولايات المتحدة الاميركية والتي تتلى للجيش البريطاني في المملكة المتحدة من قبل احد الممثلين للجيش الأمريكي كي يبقى اسم كيرميت روزفلت محفورا في الذاكرة .
الجوائز
نال كورميت روزفلت عدة جوائز ، منها : ميدالية النصر الأول لمشاركته في الحرب العظمى الاولى ، ووسام خدمة الدفاع الأمريكية ، ووسام الحملة الآسيوية والمحيط الهادئ ، ووسام النصر في مشاركته في الحرب العالمية الثانية ، ونال من المملكة المتحدة : صليب الجيش العسكري ، وصليب حرب الجبل الاسود ، ووسام الحرب البريطاني ، وميدالية الفوز ، ونجم افريقيا ، ونجم 1939- 1945 ، وميدالية الحرب 1939- 1945.
أعماله ومؤلفاته
ترك كورميت روزفلت عدة اعمال منشورة منها : الحرب في جنة عدن: مذكرات من الحرب العالمية الأولى ، والصيد المغامرة ، والباندا العملاق (مع تيودور روزفلت، الابن) ، ورسائل كوينتن روزفلت ، وكتاب الكشافة ، وشرق الشمس وغرب القمر (مع تيودور روزفلت، الابن).
اخيرا :
اتمنى مخلصا ان تكون ترجمة هذا ” الكتاب ” ، اضافة متميزة الى المكتبة العربية ، وان يساهم في اغناء المعرفة التاريخية العربية ، وبشكل خاص العراقية ، اذ سيعيش القارئ مع مذكرات ضابط امريكي وصل الى العراق منخرطا ضمن الحملة العسكرية البريطانية ، وقد وجدته قد تمّيز بمصداقيته في وصف الاشياء وتقييمه للشخوص ورؤيته للاوضاع .. مع تقديري للجهود المبذولة في نشر هذه ” الترجمة ” المهمة لكتاب مهم كان لابد ان يترجم منذ سنوات طوال .
الهوامش
(1) Edward Renehan, The Lion’s Pride: Theodore Roosevelt and His Family in Peace and War, ( Oxford, U.K.: Oxford University Press, 1998), p. 60-3.
(2) Ibid., pp. 67-9.
(3) Counting Sheep: Twenty Ways of Seeing Desert Bighorn, edited by Gary Nabhan, University of Arizona Press, 1993, p. 75.
(4) Candice Millard, The River of Doubt (Doubleday 2005), pp. 45-78.
(5) Edward Renehan, op. cit., pp. 78-92.
(6) Frederick Sumner Mead, (ed. ). Harvard’s Military Record in the World War. ( Boston: Harvard Alumni Association, 1921), p. 824.
(7) Osgood, W. H. (1 May 1925). “The James Simpson-Roosevelt Expedition of the Field Museum of Natural History”. Science 61 (1583): 461–462
(8) “Kermit Roosevelt as VP of NY Zoological Society”. Annual report of the New York Zoological Society. 1953. p. 68.
(9) Edward Renehan, The Lion’s Pride: Theodore Roosevelt and His Family in Peace and War,( Oxford, U.K.: Oxford University Press, 1998), pp. 56-60.
(10) Loc. Cit.
(11) Edward Renehan, op. cit., p. 123.
المراجع
“Kermit Roosevelt as VP of NY Zoological Society”. Annual report of the New York Zoological Society. 1953.
Counting Sheep: Twenty Ways of Seeing Desert Bighorn, edited by Gary Nabhan, University of Arizona Press, 1993.
Mead, Frederick Sumner, (ed. ). Harvard’s Military Record in the World War. ( Boston: Harvard Alumni Association, 1921).
Millard Candice, The River of Doubt (Doubleday 2005).
Osgood, W. H. (1 May 1925). “The James Simpson-Roosevelt Expedition of the Field Museum of Natural History”. Science 61 (1583).
Renehan, Edward The Lion’s Pride: Theodore Roosevelt and His Family in Peace and War,( Oxford, U.K.: Oxford University Press, 1998).