كتب السيد خالد غزال مقالته التالية ونشرها في جريدة الحياة اللندنية :
يشير المؤرخ العراقي سيار الجميل إلى أنه استقى عنوان كتابه «المزامنات الأولى» من تصريف «الزمن»، وقد قام بنحت هذا التعبير عربياً انطلاقاً من نسبية العناصر الزمانية. ونظراً إلى أهمية الزمن في حياتنا العربية المعاصرة، وما يستوجبه هذا العصر من إعمال الفكر والتجديد في مرحلة من التطور التاريخي جرى فيه اختزال المسافات الزمنية والمكانية معاً، بحيث تبدو ثمينة جداً كل لحظة تمر على الإنسان والمجتمع. قد يمكن لكل الأشياء تعويضها إن ضاعت أو أصابها التلف، لكنّ الزمن وحده لا يمكن تعويضه إذا ما أضعناه ولم نستفد من لحظاته. من هنا يرى الكاتب أنّ «المزامنات» هي استدعاءات للحظات تاريخية من التطور العربي الراهن وحاجة المتنورين العرب إلى برامج فكرية تنويرية. من هنا اعتبر كتابه بمثابة لبنات أساسية في البرنامج، فأطلق عليه اسم «المزامنات الأولى: مشروع فكري عربي، نقد الذهنية المركبة وإشكاليات التفكير وآليات التغيير» (العرب للنشر والتوزيع- عمان والدار العربية للعلوم- ناشرون – بيروت 2016 ).
يتضمن الكتاب اثنين وخمسين مزامنة توزعت على موضوعات متعددة، نظرية وفكرية وسياسية. من العناوين الدالة على سبيل المثل: «نظرية معرفية في التحقيب وقياس الزمن»، «التفكير النقدي والتفكيك التاريخي من أجل بناء المستقبل»، «استراتيجية تفكير حضاري مستقبلي»، «ظاهرة العولمة: متى يدركها التفكير العربي المعاصر»، «حقيقة مشروع تغيير العالم: متى يفهمها العرب دولاً ومجتمعات»، من النظام الدولي إلى النظام العالمي: أي مسألة شرقية تنتظرنا؟ وكيف نفهم صياغة المستقبل في ظل المخاطر التاريخية؟»، «التفكير والحقوق والحريات في سجن مؤبد: لماذا يهندس الآخرون مستقبلنا ومصيرنا؟»، «بقايا الماضويات: أشكال ومضامين»، «أسرار التخلف العربي في مواجهة المستقبل»، «تفكيك الذهنيات المركبة»، «فضائيات الإعلام المرئي العربي: اللامستوى بعيداً عن أساليب البلاهة والسفاهة والتفاهة»، «احتضار جامعة الدول العربية- البديل: مشروع بناء منظومة حيوية جديدة متكافئة»، وغيرها من العناوين المتصلة بمعضلات مجتمعاتنا وهمومها.
يطرح الكاتب مقولته بعنوان «المجايلة التاريخية» باعتبارها نظرية معرفية في التحقيب وقياس الزمن. والمجايلة مصطلح نحته الكاتب نفسه من الفعل «جايل». يرى إلى مشروعه في وصفه مشروعاً فلسفياً يهدف إلى تكوين الأجيال والمستقبليات، على أن يتضمن نظرية مختلفة للتحقيب التاريخي السائدة.
استفادت نظريته هذه من مناهج سادت فلسفات ذات رؤى وأرقام ساهمت في تحديد ملامح الزمن وأبعاد المعرفة وظواهر التاريخ. في تساؤله عن الأجيال المقبلة وميزاتها، يرى أن الأجيال في القرن الحادي والعشرين الممتد إلى العام 2099، ستكون أفضل من الأجيال الثلاثة التي أطرت حياة القرن العشرين.
يفترض الكاتب أن الجيل الآتي ستفرض عليه الحياة وتطور العالم الاعتماد على نفسه في الإنتاج والعمل والعيش، وسيدين الأجيال الآباء والأجداد الذين تسببوا بالحروب والدمار وحرموا البشرية السعادة. هذا الافتراض ينبع من نظرة تفاؤلية للتاريخ ستتغلب في العقــــود الثلاثة المقبلة وتحتم إعادة التفكير والتحديث والتنمية والإصلاح. هذا من دون أن يمنع توقع الصعوبات التي ستواجه الأجيال المستقبلية، والتي يمكن التغلب عليها من خلال إرادة التحدي والمواجهة.
تشترط التحديات المقبلة أمام الأجيال الجديدة أن تسود في العالم آليات التفكير النقدي والتفكيك التاريخي كوسيلة من أجل بناء المستقبل. لعل التحديات الكبرى تلك التي تواجهها المجتمعات العربية، التي لا تزال مقيمة في الماضي وتراثه، وتسعى حثيثاً للدخول إلى العصر في ظل وجود قوى تسعى إلى منع هذا الاحتكاك بالتقدم والتنوير. في هذا المجال، توفر العولمة مدخلاً مهماً يمكن أن يلجه العرب ويؤمن لهم تجاوز ماضيهم ويضعهم في علاقة مباشرة مع حاضرهم ومستقبلهم. إن التفكير الجديد يتطلب قراءة متجددة للعولمة بعيداً عن التصنيفات الأيديولوجية التي تعتبرها اختراعاً أميركياً هدفه استعمار العالم بديلاً عن القوة العسكرية.
هذه النظرية تتحكم في عقول كثيرين من المفكرين العرب الذين يعجزون عن قراءة العولمة في وصفها نتاج الحداثة وثورتها التكنولوجية واكتشافاتها العلمية. تطرح العولمة على الشعوب العربية والإسلامية، كما على سائر الشعوب في العالم، حتى المتقدم منه، تحديات كبرى أساسها الدخول في العولمة والاستفادة من منتجاتها، وليس وضع العصي أمامها. وهو أمر مستحيل بالنظر إلى أن هذه العولمة تكتسح المجتمع والذهنيات والاقتصادات والحدود من دون استئذان أي سلطة، سواء أكانت سياسية أم مجتمعية أم ثقافية. أما كيف نتجنب سلبيات العولمة، فهنا السؤال الكبير والتحدي الأكبر لأي مجتمـــع من المجتمعات. كما للعولمة إيجابياتها، كذلك لها سلبياتها، وهذه حال وتاريخ التقدم والتطور التاريخي لكل مجتمع منذ بداية التاريخ. في هذا المجال يشدد الكاتب على أهمية الحد من تسلط فكر المؤامرة الذي يهيمن على عقول مفكرينا وسياسيينا، لأن المطلوب النظر إلى الداخل وتناقضاته ومشكلاته، ووضع الحلول لها، وليس رميها على الخارج كما يجري في كثير من القضايا المفصلية. إنها دعوة للعودة إلى الداخل، من المثقفين والسياسيين وكل من يعمل في الشأن العام.
لا شك في أن كتاب سيار الجميل يحوي مزيجاً من الواقع الذي يعاينه بدقة، ويطرح تشخيصاً فعلياً لهموم مجتمعاتنا ومعضلاتها واستعصاءات التغيير فيها. وهذا الأمر يحتل حيزاً كبيراً من مساحة الكتاب و«مزامناته». لكنّ الكتاب في المقابل يحوي افتراضات لتحولات في المستقبل تبدو أحياناً بمثابة حتميات يؤكد الكاتب على تحققها. وهو ما يناقض افتراضات نظرية سعى إلى إرسائها تتعلق بالنظرة التاريخية إلى المجتمع وصعوبة التوقعات لما يمكن أن يحصل. مهما يكن، فالكتاب مغامرة ممتعة في الحاضر والمستقبل، في الواقع والمجهول، وفي استحضار الخيال والمخيلة في قراءة تطورات عصرنا.
نشرت في الحياة اللندنية ، النسخة: الورقية – الدولية في يوم الإثنين، ١٢ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٦ .