| الحلقة الاولى |
المقدمات
” ان ما هو جوهري هو الذي يجري “على الأرض” !
باتريك كوكبرن
هكذا بدأ بارتريك كوكبرن Patrick Cockburn كتابه الجديد ” صعود الدولة السنية الإسلامية: اس اس والثورة السنيّة الجديدة ” (2015), The Rise of Islamic State: Isis and the New Sunni Revolution, London and New York: Verso, الذي نزل الى الاسواق قبل ايام ، وقد استطعت ان اطلع على نسخة منه وصلتني قبل 3 ايام ، اذ صدر لمناسبة مرور سنة كاملة على سقوط الموصل بأيدي تنظيم داعش ، وتوسّع حدودها، التي كانت ولم تزل تعمل بقوة تنظيم ارهابي يمارس كل الوسائل من اجل تهديدات جديدة وتوسعه في كل العالم . وتعتبر حركة داعش هي الأسرع نموا في تاريخ الشرق الأوسط عبر التاريخ .. لقد قرأت هذا ” الكتاب ” ، وتوقفت محللا جواب من محتوياته المهمة ، ولكن دعوني اقدم في البداية شيئا عن مؤلفه .
وقفة عند المؤلف باتريك كوكبرن Patrick Cockburn
باتريك كوكبرن أوليفر ، من مواليد 5 مارس/ آذار 1950 ، صحفي ايرلندي كان مراسل الشرق الأوسط لصحيفة فاينانشال تايمز، ومنذ عام 1991، ثم الاندبندينت . كما عمل مراسلا في كل من موسكو وواشنطن . كتب ثلاثة كتب عن تاريخ العراق الحديث. وقد حصل على جائزة مارتا جيلهورن عام 2005، وجائزة جيمس كاميرون عام 2006، وجائزة أورويل للصحافة عام 2009، وجائزة الصحافة الدولية عام 2010 ، وغيرها من جوائز الصحافة البريطانية 2014. ولقد التقيت به مرة واحدة في المجلس الدولي للصحافة بالعاصمة البريطانية لندن مساء يوم السبت 8 أيار 2010 عندما منح جائزة المجلس ، وبعد ان القى كلمته سألته في لقاء معه عن رؤيته الى مستقبل العراق ، فقال : انه مستقبل غامض في ظل سياسة متبرمة من المجتمع المنقسم على ذاته . ولد كوكبرن في أيرلندا، ونشأ في مقاطعة كورك. وكان والداه كل من الكاتب الاشتراكي المعروف والصحافي كلود كوكبرن وباتريشيا بايرون . تلقى تعليمه في كلينموند Glenalmond، في بيرثشاير، وكلية ترينيتي في أوكسفورد. وعمل باحثا في معهد الدراسات الايرلندية، جامعة كوينز بلفاست، 1972-1975. تزوج عام 1981 من جانيت اليزابيث مونتيفيوري (14 نوفمبر 1948)، بروفيسورة الأدب الإنكليزي في جامعة كينت، كانتربري، وهي ابنة الراحل الأسقف هيو مونتيفيور .
كتب باتريك ثلاثة كتب عن العراق. ، هي : الخروج من الرماد: قيامة صدام حسين، وكتبه مع شقيقه اندرو قبل الحرب في العراق. واعيد نشره لاحقا في بريطانيا ، ولكن بعنوان : صدام حسين: هوس الأميركيين. وله عليه اضافاته بعد الغزو الأمريكي للعراق ، وخصوصا ما ضم اليه من بعد بعض تقاريره من العراق. وهناك كتابه : الاحتلال: الحرب والمقاومة في العراق (2006) وهو اشبه بتقارير عن العراق . ويأتي كتابه الجديد وهو يعالج موضوعا بالغ الأهمية سواء ما يخص الغزو ، او ما يخص تطور آليات السلفيين السنّة الاصوليين الذين يشكلون جزءا كبيرا من التمرد الحاصل في العراق . وجاء كتابه الاخر عن السيد مقتدى الصدر، بعنوان : إحياء الشيعة، والنضال من أجل العراق في عام 2008. وقد درس فيه تفاصيل التيار الصدري من خلال منهجه الصحفي وسلسل تاريخ عائلة الصدر دينيا وسياسيا بشكل بارز ، وكيفية صعود مقتدى، وتطور ظاهرة تياره منذ العام 2003 ، وقام كوكبرن بتأليف كتاب الجهاديين الموسوم : العودة: إيزيس وانتفاضة جديدة في سنة (2014)، وهو الكتاب الذي ترجم إلى تسع لغات، ثم كتابه الاخير الذي اضاف الى كتابه السابق جملة هائلة من التحليلات والشروحات والمعلومات المقارنة وهو بعنوان : صعود الدولة الإسلامية: إيزيس والثورة السنية الجديدة (2015). ان كلا الكتابين يتبنى الاجابة عن كيفية ولادة ونشوء داعش في العراق والشام (إيزيس = داعش ) وكيف كانت لديها القدرة على اقامة دولتها ( = الخلافة الاسلامية ) في شمالي العراق وشرقي سوريا . كما نشر أيضا سلسلة مقالات عن الاتحاد السوفياتي في 1989، فضلا عن مشاركته في كتاب شياطين هنري وغيره من الاعمال القوية . ولقد راقب في السنوات الاخيرة ما جرى من مذابح وحشية في سوريا والعراق ، فكان ان اثمرت تلك المذابح هذه الدولة الاسلامية التي اجده في تحليلاته لها واقفا موقف الحياد ، مسميا كل الاشياء باسمائها في ريبورتاجاته وتقاريره وحتى كتبه !! وهو مطلع على المذابح وحالات الاستئصال الطائفي المقيت ، وخصوصا في العراق .
ولادة ايزيس / داعش
لقد ولدت هذه ” المنظومة ” الصلبة التي لا تعرف لغة التفاهم ، في خضم الحروب الأهلية العراقية والسورية معا بعد العام 2009 ، وهي نتيجة تاريخية متوقعّة للسياسات الطائفية التي اتبعتها ايران بعد ثلاثين سنة من حدوث الثورة فيها عام 1979 . وكانت هذه داعش قد أدهشت العالم في العام 2014 من خلال إنشاء قوة جديدة وقوية في الشرق الأوسط – على حد تعبيره – . اذ قامت بالجمع بين التعصب الديني والقوة العسكرية، والخلافة المعلنة الجديدة ، وهي لا تعرف السياسة او التفاوض بقدر ما تعرف القتل والتدمير . وعليه ، فهي تشكل خطرا على الوضع السياسي الراهن في المنطقة بأسرها. في صعود داعش، يصف باتريك كوكبرن طبيعة الصراعات الداخلية والتي يعتبرها وراء انهيار جذري في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وقال انه تبين كيف خلق الغرب شروط النجاح لهذه المنظمة الخطيرة وفي منطقة قابلة للانفجار قبل تأجيج الحرب في سوريا. وان ثمة ردود فعل ساخنة جدا ازاء الغرب ، وخصوصا الولايات المتحدة الاميركية وحلف شمالي الاطلسي في محاربته تنظيم القاعدة من طرف ومغازلته للشيعة في العراق وايران ، اذ خلق إمكانية جهنمية للسنة الجهاديين المسلحين ، ولم ينفع أي تحرك ضدهم بفشله بعد فوات الأوان ، وخصوصا ضد رعاة الجهادية في المملكة العربية السعودية وتركيا وباكستان.
صعود داعش – قصة إيزيس من رحم القاعدة
يؤشر باتريك كوكبرن عدة حالات في طريقة صعود إيزيس وما تميزت به هذه ” المنظمة ” من ذكاء وتخطيط بعد ان افتقد الانسان في العالم الاسلامي أي جدوى من الغرب ، وغدت افكاره لا يعتمد في اذكائها على القراءة المحبطة له لما اساء له الغرب كثيرا ، وهو في الاساس قد تربى على كراهية الغرب المقترن لديه بالاستعمار ، ولكنه اصبح اليوم يعيش نار الحرب الضارية ، فكان ان غير هدفه من عدم الاقتصار على تغيير الانظمة السياسية الدكتاتورية التي رعاها الغرب ، بل لتأسيس داعش التي لا علاقة لها مع الغرب ! ان مقاتلي إيزيس في سوريا، قد بدأوا يتحركون في أكتوبر تشرين الاول2013: كما يكتب كوكبرن .. ولم يلتفت اليهم احد من المحللين ولا المصورين ولا المتابعين !
لقد كان ذلك في المراحل المبكرة ، وهي مرحلة جديدة واقوى واكثر عنفا من التشدد الإسلامي. اثر مصرع أسامة بن لادن في مايو / آيار 2011، واندلاع الثورات الشعبية في معظم أنحاء العالم العربي، وخصوصا في ميدان التحرير بمصر او شوارع ليبيا واليمن .. كلها احداث كانت تعد إيذانا تاريخيا بانتهاء دورة زمنية كانت قد بدأت مع هجمات التاسع من سبتمبر الشهيرة ( أي عشر سنوات بين 2001 و 2011 ) لقد كانت دورة ابن لادن قد بدأت في سبتمبر / ايلول 2001 . وقد بلغت ذروتها من حيث العنف طوال عام 2005 ، ثم هدأت في نهاية العقد الزمني ، وقفلت بالثورات العربية ( التي اسميت حالتها بالربيع العربي ) ، وكان لابد ان تستلب تلك الثورات استلابا من قبل اعدائها اللدودين الذين يمثلون الجماعات الجهادية الاسلامية وتيارات العنف الاسلاموي ، اذ وجدت جماعات متشددة ارهابية كل في حيزها الجغرافي والأيديولوجي ، وقد وجدت ان قوتها قد تقلصت وحيويتها قد ضمرت ، في المدن والدواخل ، فما كان الا ان تنشأ لاستعادة قوتها من جديد وبدت تعمل على قدم وساق ، ولكن في مساحات شاسعة من الصحراء وفي عشرات البلدات الاخرى تحت سلطات غاية في التطرف كالتي تتوزع في اماكن موبوءة بالحروب الاهلية في الشرق الأوسط، ولقد وجدت نفسها مستقطبة جيل من الشباب المحبط والذي تربى على الالتزام وعلى حلم الخلافة الاسلامية ، فانبعثت طاقة جديدة لم يكن يمتلكها تنظيم القاعدة ، كما وساهمت وسائل الاتصالات الحديثة واستخدام الشبكات الخاصة في تدفق الجهاديين مع السيطرة على المعلومات من خلال تلك الشبكات التي لا تعد ولا تحصى فكان ان تبلورت حركة تنظيمية لها سيطرتها وقوتها .
يمكن للمرء ان يحدد أربع فئات نشيطة من المتشددين في الوقت الراهن. اذ هناك مجموعتان رئيسيتان تقاتل من أجل التفوق : تنظيم القاعدة المخضرم اولا وتنظيم الوافدين الجدد ايزيس الذي نجح في تأسيس داعش . وهناك العديد من المنظمات التابعة لكل من الطرفين الاول والاخير .. وهناك مجموعات أخرى مستقلة تماما، على الرغم من أنها قد يكون لها بعض الاتصالات الترابطية مع مسلحين آخرين، مثل المنظمة الكريهة المسماة بوكو حرام في نيجيريا . ثم هناك جماعات بالمئات تعمل لحسابهم الخاص، والشبكات ذاتية التكوين من جماعات لا حصر لها ، وهي تتشكّل من الإرهابيين الذين يتحملون المسؤولية بشكل متزايد عن العنف في شوارعنا واحيائنا ومرافقنا الحيوية . ان هذه الصورة ستبقى كئيبة لزمن طويل قادم على أقل تقدير.
ان قدرة المسلحين على الحاق الضرر بكل من يخالفهم او حتى يقف موقف الصامت تجاههم ، فهم يؤمنون بأن من لم يكن معهم ، فهو ضدهم تماما .. ان تلك ” القدرة ” تأتي دوما من خلال الاتصالات بين كافة المجموعات المتلاقية اهدافها وغاياتها ، وخاصة بين هذه الفئات الأربع. وعليه ، فثمة تنسيق بينها على سيرورة العمليات والتزام الصمت عند كل الاطراف كما حدث في هجمات باريس في أوائل يناير / كانون الثاني 2015 ، تمثلت الاولى في الهجوم على سوبر ماركت يهودي، ومقتل أربعة، بينما تم الهجوم على هيئة تحرير المجلة الساخرة شارلي ابدو ومقتل عشرة من اعضاء هيئة التحرير فضلا عن قتل اثنين آخرين . لا يمكن أن يكون الحادث بسيطا ، بل كان ذلك مرعبا، وهو تذكرة قوية من تزايد معاداة السامية في أوروبا. ولكن هذا الحادث الأخير كان من الأهمية العالمية، مما دفع التعليق الهائل والاهتمام من وسائل الإعلام وقادة العالم ومع الهدف الذي اختارته بعناية، وكشف عن مواقف الاستقطاب الشديد بين الكثيرين في الغرب وكثيرين في العالم الإسلامي. كان الهجوم على شارلي ابدو له مخطط حضر في اليمن من قبل جماعة القاعدة .
نشرت في صحيفة المدى ، يوم السبت 7 نوفمبر / تشرين الثاني 2015 .
| الحلقة الثانية |
تواطؤ حكومات مع الارهاب
يتجلى ذكاء المؤلف باتريك كوكبرن في كتابه المهم، وخصوصا في تركيزه على دور الصراعات السورية والعراقية الداخلية ضمن هذا المشهد التاريخي الجديد من الذي يسمونه بـ (الجهاد). ولقد استفاد المؤلف من المواد التي جمعها كمراسل لصحيفة الانديبندنت The Independent ، وتمتع بسمعة وجدارة في مقالاته الصحفية ، وهو لا يقتصر في المرور على الخبر واجتيازه ، بل يتعمق بطريقة متجذرة في استقصاء العوامل والمسببات في تجاربه الميدانية التي يقضيها متنقلا هنا وهناك على الارض، فضلا عن التفكير والتأمل . ولقد فاز مؤخرا بجائزة يستحقها جراء استكشافه عملية صعود داعش وتفوق على غيره من المراقبين الآخرين في تحليلاته لبنيتها ومخاطرها. ان عمله الأخير ، موضع ترحيب كبير من اوساط تريد معرفة ما يجري على الارض وخصوصا فهم طبيعة الصراعات الحالية المارة بالشرق الاوسط ، ومفصل ما سمي بإعادة تشكيله ، كما وان عمله غني بالمعلومات حول الادراك بشأن صعود داعش . وهو يسمّي الاشياء باسمائها ، ويشخص مواطن الخلل .. ويستشرف مؤثرات الحدث ويرسم بهدوء كل ما يتأمله من تداعيات . . ومن خلال قراءتنا لما كتبه الرجل ، تتشكّل صورة واضحة عن تواطؤ حكومات مع الارهاب وصناعته .. اما تآمرا ، او خوفا ، او امعانا في التدمير .
الجذور الاولى
بدأ المؤلف موضوعه بحفريات استكشاف جذور موجة النشاط السياسي الإسلامي العنيف في الشرق الأوسط ، ويؤكد انها انطلقت مع بدايات الثمانينيات من القرن العشرين ، وخصوصا تلك التي ولدتها آثار الحرب ضد السوفيات في أفغانستان، والتي جذبت الشباب العرب من بلدانهم ، واغلبهم من الفاشلين والمحبطين والسلبيين .. فالتحقوا بافغانستان ، وسموا بـ ” الافغان العرب ” ومنهم الارهابي الأردني المعروف باسم أبو مصعب الزرقاوي الذي التحق بأفغانستان منذ 1989 . ومن ثم عاد إلى وطنه للتخطيط لهجمات فيه ، فسجن، ثم أطلق سراحه في الوقت المناسب ، فعاد إلى أفغانستان ثانية ، وبدأ بتكوين مجموعته الخاصة، والتي اسماها جماعة التوحيد والجهاد. وجاءت فرصته التاريخية اثر غزو الاميركان للعراق عام 2003 ليكون ضمن الانتفاضة اللاحقة ضد الاميركان وصنائعهم .
أنشأ الزرقاوي لنفسه تنظيما سلفيا ارهابيا ، ونصب نفسه زعيما يقود الهامش الأكثر وحشية من مجرد التمرد ، وخاض عمليات ارهابية بشعة في القتل والتفجير ، وكان هدفا للملاحقات على ارض العراق التي بدأت تجتذب الالاف من الارهابيين . وقتل الزرقاوي عام 2006، في خضم حرب أهلية طائفية عراقية ولدت جراء السياسات الطائفية العلنية التي اتبعها الشيعة في العراق ضد السنة .. وعلى امتداد السنوات الاربع التالية ، كان الارهاب الجهادي يعمل بشكل مكثف وسري ومثير ببشاعته بين العراقيين .
في هذا الخضم ، بدأت فكرة ” داعش ” تتشكل كما دعت الجماعة نفسها اسمها بذلك ، وكانت قد تعرضت لضغوط من الاميركيين ، وكان التنظيم قادرا على إعادة تكوين صفوفه مرة واحدة مذ غادرت القوات الاجنبية العراق . وخصوصا تحت زعيمه الجديد المدعو ابو بكر البغدادي، الذي اطلق اسم ” الدولة الاسلامية في العراق ISI ، ولكنه نجح في اطلاق حملات جديدة لاحقا في عمله على الارض السورية في العام 2011 لتغدو ” الدولة الاسلامية في العراق والشام ” ISIS. ومختصرها العربي ” داعش” .
سوريا : من الثورة الحرة الى الحرب الاهلية
اندلعت ثورة 2011 في سوريا، مسالمة وعفوية وريفية من قبل المقهورين والمظلومين وهي تطالب شعبيا بحقوق العدالة والوقوف ضد الدكتاتورية واستبداد الحزب الواحد ، ولكن سرعان ما قوبلت بالحديد والنار من قبل النظام الحاكم الذي كان غبيا في سياساته وفي معالجته ادارة الازمة ، مما دفع البلاد الى الهاوية ، خصوصا وان النظام السوري كان قد تبنى مشروع اعداد الارهابيين في معسكرات خاصة بهم على مدى سنوات طوال ، بدءا بأعداد مقاتلين من PKK الكردي بقيادة اوجلان على عهد الرئيس حافظ الاسد ، او اعداد الارهابيين السلفيين المسلمين ضد العراق على عهد ابنه بشار الاسد .. وقادت الانتفاضة ومواجهتها الى التفكك السريع بتحالف النظام السوري مع ايران وحلفائها ، ودخول عناصر شتى اسلامية متشددة وعرقية مخاصمة مما دفع البلاد إلى حرب أهلية ضارية .. وفجأة وجدت فرصة جديدة ، اذ بدأ العمل مع تنظيم القاعدة المركزية، ووصلت جماعات مسلحة معينة من تنظيم الدولة الاسلامية في العراق كان النظام السوري قد رعى في معسكراته الالاف منهم واسموهم بالمجاهدين الذين جلبوهم من اغلب البلدان العربية لقتال اميركا ، وكان الاسد يرسلهم الى العراق من اجل القتل والتفجير والتدمير – على حد تعبير المؤلف – . المهم ، ان تنظيم داعش قد انحصرت خيوط قيادته بشكل واضح في يدي ابو بكر البغدادي ورفاقه . وكانت المنظمة الجديدة تحت سلطته التي اتسمت بالبطش واللاتفاهم . ويعتقد قادتها، بأن امرهم يختلف عن تنظيم القاعدة، اثر الانقسام الحاد عن سياسة القاعدة ، ولقد ارسل البغدادي قواته للسيطرة على أجزاء كبيرة من شرقي سوريا، في حين كان يحضر للاستيلاء على أجزاء كبيرة من العراق ، وخصوصا مع انبعاث التمرد السني في العراق ضد الحكومة الشوفينية الشيعية في بغداد – وذلك بتوصيف المؤلف – .
سقوط الموصل وتدمير المنطقة حضاريا
لقد نجح البغدادي قبل صيف العام الماضي 2014، في استعداداته ، واندفع بشكل خاطف وشن هجوما ناجحا على الموصل، وهي المدينة الثانية في العراق والاكثر اضطرابا ، وكان قد خطط لأخذ انحاء شمالية من الجانب الايمن في المدينة، ولكنه نجح في فرض سيطرته على كل من طرفي المدينة الايمن والايسر بعد سيطرته على جسورها ، وكانت القوات الحكومية تشرد من امامه مثل الارانب ، وحلت اكبر نكبة عندما تسلّم المدينة بسهولة امام فرار الضباط والجند من الموصل باتجاه اربيل وبعد ان خلعوا ملابسهم العسكرية ورتبهم ورموها في الشوارع ، وقد رحمهم الناس بإعطائهم البسة مدنية ، وبذلك سادت داعش على الموصل ثاني اكبر مدينة عراقية ، وهي من اعرق مدن الشرق ، وتزخر بتواريخها الحضارية وخصوصيتها الثقافية ، ومن ثم أعلن ابو بكر البغدادي نفسه “خليفة للمسلمين “، كونه الحاكم الزمني والروحي لمسلمي العالم اجمع ، في حين كان روح الله الخميني قد اعلن نفسه ” اماما للامة ” قبل اكثر من ثلاثين سنة ، كونه الحاكم الزمني والروحي لامة المسلمين قاطبة !.
السؤال المهم الذي يطرح نفسه : لماذا لم يثر المؤلف كوكبرن التساؤلات عن اسرار ما حدث في الموصل ؟ ولماذا يسكت الغرب على ضياع الامن؟ ولماذا سكت العالم على تدمير المعالم الحضارية العريقة في الموصل ؟ ولماذا صمت الجميع على استئصال المسيحيين من الموصل وتشظي اليزيديين والعبث بهم في الموصل ؟ ومن يتحمل المسؤولية عن ذلك ؟ لقد عجز كوكبرن وبقية المحللين والمحررين عن اثارة جملة تساؤلات خطيرة ، وقاسوا الامور وكأنها حالات طبيعية تحدث في منطقتنا دوما ، ودعوها تفوت .. ربما لأنه، كما كان صعود داعش : قد وصل الى مرتبة تحصيل حاصل ، ولكن ما اسرار ترتيب هذا النظام الديني من العنف ، او ما يسمى بالعنف المنظم ؟ وقد أظهرت الوقائع علىى الارض ومتابعتها ان صانعي السياسة الغربيين ليس لهم الا التفكير بالتمني واخذ مثل هذا الامر بهدوء وبرودة اعصاب .. واجد في الكتاب الذي كتبه كوكبرن توصيفا لحالات التناقض في التعامل مع الصراع في سوريا من طرف ، أو السلام المفترض في العراق لعدة سنوات من طرف آخر !
ان أخطاء سياسية كثيرة قد حصلت كما أدلى كوكبرن بذلك ، ولكن ليس من قبل كل المتمردين منذ عام 2011، بل من قبل الساسة العراقيين والسوريين المرتبطين بالتوجهات الايرانية العقائدية ، وكان الاعتقاد أن الرئيس بشار الأسد كان على وشك أن يهزم بسرعة ، وهو اعتقاد ساد في اغلب الاوساط السياسية والشعبية ، اذ كان وضع سوريا هو الأكثر خطورة. ولكن حدث في وقت متأخر من عام 2012، ان الحكومات المعنية قد راهنت مع الاعلام المرئي وكتابات الصحفيين في المضاربة على وجود الرئيس الأسد ، فقد يختار المنفى، وعلى الرغم من ذلك ، فقد حّول الثورة السلمية الى انهار من الدم ، واستخدم العنف بشكل جنوني في ذلك الوقت بسحق من وصفهم بالارهابيين ، واستئصال ما اسماه بالاورام السرطانية من داخل المجتمع !
وهكذا ، سقطت الرقة بيد داعش ، وهي من اصل 14 عاصمة من عواصم المحافظات السورية. ومنذ ذلك الحين خسر الرئيس الأسد الرقة، التي غدت قاعدة لداعش . ان سقوط الرقة بأيدي ذلك التنظيم قد جاء في خضم الحرب الاهلية السورية . أما بالنسبة للعراق، فلا أحد يمكنه ان يصدق كيف كانت الاوضاع سيئة للغاية على عهد نوري المالكي حتى تؤدي الى سقوط الموصل وانتقال داعش مباشرة خلال ثلاثة ايام عند ابواب بغداد اثر سقوط مدن العراق الشمالي الغربي باستثناء سامراء ، وقد زحفت داعش نحو اربيل في كردستان ولكن الاميركان دقوا ناقوس الخطر بسرعة متناهية ، فمنعوا داعش من الزحف ، فتوقفوا عند نهر الخازر ، ورسموا لهم خطا يمر من دجلة شمال سد الموصل نحو فايدة ومن هناك يمضي الى الخازر ، ثم يقترب جدا من كركوك وصولا الى ديالى ، وقد ضم الموصل وكل توابعها من سنجار وتلعفر وزمار وانتقالا الى سهل نينوى ونزولا الى سهل اربيل والحويجة وانتقالا الى حمرين ونزولا من الموصل الى القيارة والشرقاط وصولا الى تكريت مقتربين من ضواحي بغداد . لقد كانت الاخبار قليلة ، ولم يبث الانباء الا جهاز اعلامي قوي بتصويره يرتبط بداعش .. مع عدد قليل من الصحفيين على أرض الواقع، والشائعات التي كانت ولم تزل تسري من خلال الإنترنت وتصريحات الساسة المليئة بالأكاذيب .. والتلفيقات او صنع البطولات الوهمية. ان العالم كان ولم يزل يجهل تماما ما كان يجري وما يجري حتى اليوم ..
سياسات الفظائع الطائفية
يصف المؤلف الحرب الأهلية السورية اليوم بأنها “نسخة الشرق الأوسط من الحرب التي دامت 30 عاما في ألمانيا ابان القرن السابع عشر ” . ذلك ان جميع الاطراف تبالغ في اظهار القوة ، ونشر المزاعم عن انتصارات وهمية ، وتتخيل أن النجاح المؤقت على أرض المعركة سيفتح الطريق إلى النصر التام والحقيقي ، وهي واهمة تماما بالإشارة إلى “سياسات الفظائع الماضية” التي اتبعها كل من النظامين السياسيين العراقي والسوري . وكلها نتائج مأساوية ربما تقع على عاتق كل من الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وإيران، – كما يقول المؤلف – ، وجميعهم لديهم مصالح وأهداف مختلفة في المنطقة. ان اهم ما اعتنى به كوكبرن يتمثل بدور الدول في نسج القصة المروعة بأكملها. وعادة ما يتم وصف اية جماعات اسلامية متشددة ، كما لو انها جهات فاعلة غير حكومية. ولكن ولادة هكذا تنظيم خطير في فجوة زمنية صغيرة ومن ثم نشوء وصعود هكذا دولة اسمت نفسها بـ ” الدولة الإسلامية في العراق والشام ” يوضح، بأن ما جرى هو أبعد ما يكون عن الحقيقة . ويبدو أن الجميع الآن يفكر بأي نوع من التورط التاريخي قد حصل في هذه المعركة، التي أسفرت عن مقتل أكثر من مئتي الف شخص، وحتى الان لا توجد فكرة واقعية لاحد في كيفية وضع حد لها. وكيف يتم دحرها وهزيمتها ، اذا كانت تهدد العاصمة بغداد نفسها على المدى المتوسط !
ويمكننا القول ان نعيد ما سجله كوكبرن بأن داعش قوية في ضرباتها الموجعة وتلازمها سرعة في التوحش واسترخاص الارواح كما جرى في العام الماضي 2014 ، وانها تنفذ ما تخطط له من دون أي تلكؤ او تباطؤ او تراجع عن قراراتها ومواقفها واقوالها ، فضلا عن تنفيذها ما تريده من دون اية سياسات او تحالفات مع الاخرين ، وليس في قاموسها اية مبادئ للمفاوضات ولا لأي حوار ، فهي تؤمن بالحرب فقط ولا تؤمن بالدبلوماسية ابدا .. ناهيكم عن ضبط خططها العسكرية اولا ، واستخدامها لأجهزة معقدة وذكية في وسائل الاعلام لزرع الرعب والخوف في قلوب الناس .. ولا يمكن ان توصف بأنها ثورة سنيّة بالرغم من ان الشيعة من اعدائها ، ولكن ظهر من خلال ممارستها انها عدوة للسنّة قبل الشيعة في كل الذي اقترفته بحق هؤلاء واولئك معا !
وهي – كما يبدو – تركز اهتمامها في كل لحظة على ما يجري من التحديثات وصناعة النشر الذي يهمها جدا امره ، فهي تتحرك باتجاهات الحرب الفعلية والسايكلوجية بعيدا عن السبات العميق، وهذا يعني انها تتبع كل ما هو مستحدث من الوسائل السمعية والبصرية ويتم تقديم تحليل متعمق تاريخيا. ومع ذلك، يقول كوكبرن، هناك طريقة أخرى انها تتبع كل ما هو جديد من وسائل مثيرة جدا بحيث تخيف المقابل الى درجة الارتخاء… ويثير كوكبرن تساؤله المدهش ويقول : ما زلت أجد من المدهش أن لا يوجد حكومة أجنبية رصدت تنامي داعش في 18 شهرا قبل أن تسيطر تماما على اجزاء واسعة من شمالي العراق في يونيو / حزيران 2014 ؟؟
يحاول كوكبرن الاجابة بوجود الكثير من الأدلة على أن داعش والقاعدة هما من اكبر المنظمات الارهابية التي تزداد قوة مع توالي الايام في كل من العراق وسوريا، ولكن في يناير / كانون الثاني من ذلك العام ، وصف الرئيس أوباما باستخفاف داعش مقارنا اياها بصغار لاعبي كرة السلة في فريق الجامعة في حين ان ما كانت تحدثه من عمليات سريعة وضربات خاطفة وانشطة كبيرة في وقت قصير لا يمكن تجاهله او لا يمكن ان يستخف به إلى حد كبير!
نشرت في صحيفة المدى ، بغداد يوم 10 نوفمبر / تشرين الثاني 2015 .
| الحلقة الثالثة |
التنين الزاحف
لقد نجحت ايزيس بالاستيلاء على مدينة الفلوجة التي تبعد مجرد 40 ميلا إلى الغرب من بغداد، وان الجيش العراقي الذي قوامه , 000350 قد فشل في الوقوف امام هذا التنين الزاحف في صيف 2014 الماضي، فقد هاجم مقاتلو إيزيس بنجاح منقطع النظير سجن أبو غريب وقاموا بإطلاق سراح المئات من مقاتليها الأكثـر خبرة والذين كانوا قد تدربوا تدريبا قويا في معسكرات تدريب خاصة في صحراء العراق، وفي معسكرات سوريا التي كانت تستوعبهم بأوامر من الحكومة السورية وتدفعهم من اجل عمليات ارهابية في مدن العراق خلال السنوات المنصرمة عقب الاحتلال الاميركي للعراق، المهم ان المعادلة قد انقلبت بعد اندلاع الثورة السورية ضد النظام الحاكم في دمشق، فكان ان امتلك المئات من المقاتلين في إيزيس لمعرفة ما يمكن عمله في كل من سوريا والعراق معا.
وبدأت تلك التنظيمات تستعد للتقدم المذهل في صيف عام 2014 والتي من شأنها اعلان دولة “الخلافة” والتي حققتها على الارض ، وتعلن نفسها للعالم جغرافيا بحجم بريطانيا العظمى، ولقد اثار اعلان ” الخلافة ” مشاعر التعاطف من قبل ملايين المسلمين في العالم كله ، فبدأ المئات من الشباب المتنوعين المسلمين ومن قوميات متعددة يلتحقون بها من اجل القتال والجهاد تحت ظل علم اسود كتب عليه اسم الله والرسول محمد باعتباره علم دولة الخلافة الاسلامية التي اعلنها ابو بكر البغدادي مسمّيا نفسه خليفة للمسلمين في الارض اثناء خطبته في الجامع النوري الكبير في قلب مدينة الموصل ، وقد اعتلى المنبر في خطبة الجمعة بعد احتلاله للموصل وكان يلبس الالبسة السوداء مع عمامة سوداء وساعة سلفر تلتمع وضعها في معصمه الايمن .
قد يكون هذا التقدم المذهل على الارض قد ابهر العالم الخارجي من خلال ارتفاع سطوة إيزيس، ولكن في المقابل كان الساسة ممن تولى المسؤولية من العراقيين لا وعي لديهم بحجم المأساة التي ستحصل ، وهم من اضعف المخلوقات التي وجدت في عالم السياسة ، اذ يفتقدون لا الحذاقة وحدها ، بل الاخلاق ايضا ، فقد تم ارسال اكثر من تحذير على مدى عدة سنوات لهول ما سيحدث .. وعندما انفجرت الحرب في سوريا، فقد بدا واضحا لكل العالم ان زعزعة الاستقرار في العراق حاصلة لا محالة ، مع كل المآسي والكوارث التي تعرض لها المجتمع العراقي ، ولكن احداث سوريا دقت الاجراس بأن الكارثة في طريقها الى عموم الشرق الاوسط وان المستجدات التي حصلت في سوريا كانت ستؤدي إلى استئناف نطاق كامل من الحرب الأهلية السنية – الشيعية جراء السياسات الطائفية التي زاولها حكام البلدين وتحالفهما المعلن والمبطن مع ايران . وكانت التوقعات تنذر بالخطر أيضا، وبدرجات متفاوتة من التركيز على العراق ، ذلك أن الجيش العراقي كان فاسدا ومشبعا بالنعرة الطائفية ، وهو غير قادر على خوض المعركة.
يقول : كنت اراقب وانا في طور كتابة هذا الكتاب ، تلك القوة المتزايدة لكل من ايزيس والمسلحين الآخرين في العراق وسوريا منذ النصف الثاني من العام 2013. وفي شهر كانون الاول / ديسمبر 2013، رشح زعيم إيزيس، أبو بكر البغدادي للقيادة ، كما كنت اراقب الاضطرابات الحاصلة في الشرق الأوسط . . وفي شهر آذار / مارس التالي، كتبت سلسلة تقارير تتألف من خمسة أجزاء لتغدو ورقة بعنوان “الفصل الثاني تنظيم القاعدة”، وقد كان استهلاله بالجملة الأولى من نص قلت فيه : ” ان المنظمات المنبثقة عن تنظيم القاعدة ، هي اساسا من نوعها ، فضلا عن ان المعتقدات وأساليب التشغيل مشابهة لكل أولئك الذين نفذوا هجمات 11/9، في نيويورك وواشنطن ، وها هي ذا قد أصبحت قوة قوية قاتلة بين نهري دجلة والفرات ، عند مقتربات البحر الأبيض المتوسط خلال السنوات الثلاث الماضية “.
لقد حاولت عرض خمس مواد لإظهار مدى قوة إيزيس على أرض الواقع في العراق، فقد كانت قادرة على فرض الضرائب في المدن العربية السنية مثل الموصل وتكريت التي كانت اسميا تحت سيطرة حكومة بغداد في حين انها كانت تحت سيطرة قوى خفية تفرض سلطتها بشراسة . وأن مقولة “الحرب على الإرهاب” قد فشلت تماما، على الرغم من أن الولايات المتحدة والعديد من حلفائها قد فرضوا إجراءات كالتي كانت تمارسها سابقا الدول البوليسية، مثل السجن بدون محاكمة، والتسليم، والتعذيب والتجسس المحلي المعتمد ( = المخبر السري ) “. وكانت تلك الاعمال قد جذبت سلسلة بعض الاهتمام في أوساط أولئك الذين تابعوا الأحداث عن كثب في كل من العراق وسوريا ، لكن الحقيقة ، انني كنت على خلاف ذلك ، اذ خاب أملي ، كون المسؤولين لم يكونوا على قدر المسؤولية في تقدير حجم الخطر. نعم ، لم يكن حكام العراق بحريصين على تراب العراق ، وان الشعب منشغل بانقساماته المميتة .
الجدول الزمني: ظهور إيزيس
بعد ذلك بوقت قصير ، حضرت مؤتمرا للخبراء الشرق الأوسط في العاصمة عمان بالأردن، حول الحرب في سوريا، حيث كنت قد جعلت من النقطة التي انطلقت منها إيزيس ، كانت قوية بالفعل ، لما يكفي القيام بعمليات ممنهجة في مناطق شاسعة كبيرة من الأراضي. وكان الشخص الوحيد الذي يبدو أنه اتفق معي تماما هو غاريث ستانسفيلد، أستاذ سياسات الشرق الأوسط ومدير معهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر ببريطانيا ، الذي كان يعرف العراق جيدا. وبدا لنا من حصيلة الانطباعات ، ذلك الشعور بأن الآخرين في الاجتماع اعتبر وجهات نظرنا مبالغ فيه، حتى وصف قولي ب ” غريب الأطوار” ! . لقد كان موضوع هذا التعقيد يتطلب كتابا كاملا لشرح ما يحدث، لكنني بدأت المس بأن الناشرين بدأوا يكتشفون يوما بعد آخر ما كنت قد تحدثت به ، واخذت اشعر مع توالي الايام أن إيزيس، ارهابية وسيئة السمعة بالفعل لسرعة هجماتها الوحشية على ما يصادفها ، ولم ترحم لا المدنيين ولا الحياديين .. بل كبر حجم الموت عندها بازدياد حجمها .
ان المسلحين – كما يسمون انفسهم – في سوريا والعراق قد أصبحوا بسرعة مذهلة ، بارعون في استخدام شبكة الإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعية لنشر رسالتهم وصورهم وافلامهم المقززة ، وهذا ما لا يستطيع فعله الاخرون ، فالقتل والتعذيب والتفجير والتمثيل موجود لدى الاخرين ، ولكنهم لم يعلنوه ، فمشروعاتهم ، يمارسونها كلها في الباطن . لقد اصبت بالاحباط ، وكنت قد شعرت بمثل هذا الإحباط قبل ثماني أو تسع سنوات، عندما أردت أن أكتب كتابا عن غزو العراق وتداعياته. وكان مدير أعمالي الصحفية قد قال لي آنذاك ، ” ان الناشرين لا يريدون تبني نشر كتب حول الحرب في العراق، كما أنهم يخشون من ذلك ، وان العراق في طريقه لأن يكون أكثر استقرارا مع مرور الوقت ، وان تلك الكتب ستكون عبئا من اجل بيعها ونظرا لطول الفترة الزمنية بين التكليف والنشر مع سرعة ولادة الاحداث التاريخية الجسام ، ولقد استطعت أن اتلمس وجهة نظرهم. في نهاية المطاف، ولكن احد الناشرين في بنسلفانيا قد طلب مني أن أكتب كتابا يسمى الاحتلال: الحرب والمقاومة في العراق، ونشر الكتاب في عام 2006 وهو يباع بشكل جيد إلى حد معقول. ولكن هذا لا يعني أن الكتب الجيدة لم تكن مكتوبة ومحررة عن غزو العراق واحتلاله . ولقد راجعت الكثير منها في السنوات التي تلت ذلك.
الرعب يجتاح العراقيين
كان النقاش يدور حول ما يجب القيام به في العراق خلال ذلك الوقت الذي نشرت فيه ، او قياس الرأي العام الذي تتشكل من خلاله السياسات ، ولكنها سياسات استمرت على اخطائها وهي لا تزال تتشكل عليه. خلال السنوات ما بين 2003 و 2008، يكتب المؤلف : عندما كنت في بغداد، كتبت تقارير شبه يومية عن الاوضاع التي تزداد تدهورا في عصر الإنترنت والاتصالات الفورية. لقد وصلتني دعوة من مؤسسة ثقافية للفنون في نيويورك اذ رتبت لي القاء محاضرات في أبريل / نيسان في جامعة كولومبيا وجامعة سيتي في نيويورك حول ” القاعدة وإيزيس في الشرق الأوسط ” . ولقد كتبت أكثر الكتاب في أوائل يونيو / حزيران 2014 وعلى الفور تقريبا ، كنت قد خططت للعودة إلى العراق بعد الانتهاء من مشاغلي من أجل الكتابة عن الانتحاريين المسحلين والقوى الأجنبية القادمة عبر الحدود التركية إلى سوريا ثم إلى العراق، حيث فجروا أنفسهم، مما تسبب في خسائر جسيمة بين المدنيين. وقال لي بعض العراقيين المطلعين أن خمسة من أصل 15 من فرق الجيش العراقي قد هزم مع خسائر فادحة في محافظة الانبار ، وهي منطقة بوادي عملاقة وهائلة الحجم تغطي كل غربي العراق.
ويستطرد المؤلف قائلا : في ذلك الوقت، وكنت قد تأخرت قليلا في بغداد، كي اسمع في 10 حزيران / يونيو 2014 ، باستيلاء إيزيس / داعش على الموصل عاصمة شمالي العراق ، وكان المسؤولون العراقيون غير مبالين بالكارثة ابدا ، وخلال أيام بدأ زحفها نحو الجنوب، وتقريبا نحو العاصمة بغداد. كان الانفعال شديدا ، والرعب يجتاح العراقيين ، والمزاج هستيري نوعا ما في بغداد لأن لا أحد يعرف ما إذا كانت خطوة إيزيس القادمة مع دعايات مخيفة تقول بان هجوما قويا سيكتسح العاصمة ومنها تمضي الى الحدود مع ايران ، ومنها تعرّج الى العتبات المقدسة . لقد بقيت لمدة ليلة واحدة في فندقي المعتاد افكر بالأهوال والبعض من المسؤولين يتشمّت بما حدث وكأنهم غير عراقيين بشكل يثير القرف ، وبما انني كنت الضيف الوحيد، فقد شعرت بالخطر ، فانتقلت إلى بيت أحد الأصدقاء الذي قال لي انه لا يتوقع ان تقوم إيزيس بالهجوم على مدينة بغداد – لكني لاحظت أنه كان يقضي الوقت في ضبط الاقسام لبندقية كلاشينكوف.
ويتابع المؤلف كلامه : كانت لدي قناعة مقيتة في رؤية تقييمي لقوة إيزيس وضعف الدولة العراقية التي أثبتت للعراقيين كلهم في الداخل والخارج انها مجرد مهزلة .. وان ما نسمعه من المسؤولين العراقيين مجرد اكاذيب لا اساس لها من الصحة ، وخصوصا نسج البطولات في ساحة المعركة. لكنني في الوقت نفسه ، كنت ادرك أيضا من طرف آخر ، بأنه انتصار مؤقت من قبل الجهاديين الارهابيين، وكان صحفيا أفغانيا قد وصفهم بـ “الفاشيين المقدسين “، الذين جلبوا الموت والرعب والبؤس والدمار للعراقيين، ولقد تغير الناس بغير الناس ، اولئك العراقيين الذين كنت قد راقوا لي ورقت لهم بشكل عميق منذ زرت لأول مرة بلادهم العراق في عام 1977.
خلال وجودي في العراق، قمت بتحديث وأعادة كتابة كتابي لتشمل محتوياته أحدث التطورات، مثل البغدادي وإعلان الخلافة، وحملات تنظيم ايزيس وانتصارها على مدى 100 يوم . ونشر الكتاب في أغسطس / آب ، فكان ان بيعت نسخه جيدا ، وقد ترجم وترجمت إلى 11 لغة. كنت اشعر بالقلق من ان كتابا لصيق الصلة بالأحداث الدموية الجارية ، وصاحبه يتنقل في بغداد .
وأخيرا :
أود الاعتقاد بأن هذا ” الكتاب ” سوف يساعد على سد فجوة كبيرة في الثقافة المسيطرة على العقول ، ومن طرف آخر ، انه يسدي معرفة للناس عما يحدث ويجري في العراق وسوريا والشرق الأوسط ككل. لا اقول ان اصحاب التقارير الصحفية وما تتناقله الإذاعات ومحطات التلفزيون عن الأزمات في الشرق الأوسط مخطئون بالضرورة، إلا أن نوعية وكمية المعلومات التي تنتقل محدودة بسبب الحاجة الملحة جدا والإيجاز من التقارير اليومية. هذا ببساطة لا يمكن أن يفسر شيئا معقدا مثل الأسباب الكامنة وراء صعود ايزيس او داعش .
ان الطريقة الوحيدة لهذا التوجه ، يمكن القيام بها بمعرفة التفاصيل التي تحتويها الكتب المحدثة . إن قراءتها ليست مجرد أفضل وسيلة او طريقة لفهم ما يحدث. وان هذه هي الطريقة الوحيدة للقيام بذلك. ولكن للأسف ، فان المدارس والجامعات وحتى الناشرين لا يجعلون هذه النقطة لها قوتها الكافية. اود مخلصا ان يستفيد كل العراقيين والسوريين سواء كانوا من المسؤولين والساسة والمثقفين من هذا ” الكتاب ” ، ولقد خرجت من قراءته لأطالبهم بوجوب تطوير مفهومهم لما يجري في كل من ارض العراق وسوريا .. وان يتخلى الجميع عن الاسلام السياسي العربي والايراني الذي اجهز على مجتمعاتنا ومزق نسيجها من خلال الكيانات والاحزاب الاسلاموية السنية والشيعية .. كنت اتمنى على المؤلف ان يكون اكثر حذاقة في توصيف هذه ” الظاهرة ” والبحث عمن يساعدها بالمال والسلاح والتنظيم والخطط والعمليات .. كما ان عليه ان يتعمّق بمعرفة الظروف الداخلية في المجتمع العراقي ، وخصوصا حالات الموصل .. التي لم تكن شبيهة بأحوال بغداد .. لقد كانت الموصل مؤهلة لهذه الاستقطاب على يد داعش ، بعد ان بقي المجتمع واقعا تحت سطوتها سرا على مدى عشر سنوات قبل احتلال الموصل في العاشر من حزيران / يونيو 2014 .. ولعل آخر ما يمكنني السؤال عنه من المؤلف عن الدور الخارجي ، وخصوصا الامريكي في فتح الحدود امام زحف هذا التنين لاحراق المنطقة .. واقول : ينبغي علينا اعادة قراءة مضمون ما نشره صموئيل هانتينتغون Samuel P. Huntington في كتابه ” صراع الحضارات ” The Clash of Civilizations عام 1996 ، أي قبل قرابة العشرين عاما !
انتهى
نشرت في صحيفة المدى ، بغداد ، العدد (3501) يوم السبت 13 نوفمبر / تشرين الثاني 2015 .
Check Also
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …