رحل السياسي العراقي، أحمد الجلبي، عن نحو 70 عاماً، فجر 3 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وهو وحده في غرفة نومه، وكان يجلس على كرسي بملابسه الرياضية، وسقط هاتفه من يده. وأثار رحيله المفاجئ تساؤلات عديدة، خصوصاً أنه لم يعان من أية متاعب صحية، ويمارس رياضته اليومية. وإذا كان موته لغزاً، فقد كان في حياته حزمة ألغاز، وكان ولم يزل مثيراً للجدل الواسع. وفيما أعجب بعض العراقيين به، وجعلوه بطلاً ومنقذاً، شتمه آخرون شتائم مقذعة، وجعلوه عميلاً وفاسداً، وإنه كان وراء تدمير العراق. واليوم، ثمة من يمدحه ويبجله ، وثمة من هو شامت به وشتّام له. وهكذا شأن العراقيين في تقويم ساستهم وحكامهم على مدى التاريخ. ولكن، لا الشماتة والشتيمة تنفع شقاقا ، ولا التسبيح بحمده ينفع نفاقا . أصبح أمره من شأن المؤرخين ليقولوا ما يستخلصونه عنه. ولكن، دعونا نقف وقفة قصيرة ربما تكون ناقدة، سعياً وراء كشف حقيقة رجل مثير للجدل حقاً. وهل مات الرجل فعلاً واسمه بالحصاد، ومنجله مكسور؟
هو سليل أسرة شيعية معروفة في بغداد، ورثت ثروتها عن جده عبد الحسين الجلبي الذي كان رئيس بلدية الكاظمية على العهد العثماني لسنوات طوال ، وقد تملك من خلال منصبه مساحات شاسعة من الأراضي حول بغداد القديمة، وكان ابنه عبد الهادي الجلبي أحد الأعيان في العهد الملكي في العراق، وتسلّم مناصب عدة، كونه من أقطابه، وزاد ثراؤه من بيع تلك الأراضي التي حولها من أميرية إلى ملك صرف، وجعلها سكنية، مثل مدينة الحرية، ثم جاء الحفيد أحمد الجلبي، وهو الابن الأصغر، ليعيش مرفها مدللاً، ويدرس على أيدي الفاذرية الأميركان في كلية بغداد الشهيرة.
حدثني عن الجلبي زميله في كلية بغداد ابان الخمسينيات ، طبيب العيون الصديق نبيل ممو، قال إنه كان تلميذاً نجيباً ذكياً وخجولاً لا يختلط كثيراً مع غيره، توصله إلى المدرسة سيارة والده السوداء وترجعه، ويشغل همه الدرس والقراءة، على عكس زميلنا الآخر، إياد علاوي، الذي كان يعمل في السياسة منذ صباه، وهو كثير الحركة والتمرد والثورة، إذ كانت لإياد صفات القيادة منذ الصغر. وبعد إطاحة الحكم الملكي في 14 يوليو/تموز 1958، غادر الجلبي بغداد، وعمره 14 عاماً، ولم يعد إليها إلا بعد 55 عاماً في 2003. كان قد أكمل دراساته في جونز هوبكنز وحصل على الدكتوراه في شيكاغو، وعمل أستاذاً للرياضيات في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا، والجامعة الأميركية في بيروت حتى 1977، ثم أدار بنك البتراء الذي أسسه في عمّان بالأردن إبّان الثمانينيات، وكان أن هرب من الأردن ليلا، بعد سحبه أمواله الخاصة من البنك – كما يقول – ، لكنه اتهم بسرقة البنك، فحوكم وعوقب غيابيا من محكمة اردنية عسكرية. وأثير، أخيراً، ما عرضه بعضهم (نقلا عن وثائق كما قيل) أن الجلبي كان يورد سلاحاً إلى العراق، في أثناء حربه ضد إيران، وفي أثناء وجوده في الأردن، وكان محل ثقة النظام السابق ورئيسه (!).ولم اسمع الجلبي انه كذب الخبر او ردّ عليه بالنفي ، وهذا الامر بحاجة الى ان يتحقق منه المؤرخون بدقة . .
قاد الرجل معارضته السياسية بعد 1991 ضد نظام صدام حسين، وشكل “المؤتمر الوطني العراقي”، وكان قوي الإرادة ودائب الحركة، وعلى الرغم مما قيل إنه الذي أقنع الأميركان بغزو العراق، إلا أنه لا يبدو مقنعاً أن الأميركان قد بنوا خطتهم لغزو العراق من خلال أحمد الجلبي عام 2003 ، اذ كانوا قد سحقوا البنية التحتية للعراق في تحرير الكويت عام 1991 من دون الجلبي ، وربما غدا من الشخصيات العراقية التي اعتمدها الأميركان قبل الغزو، واعتمدوه في مسائل كبيرة، في زمن لم تكن الأحزاب الإسلامية الحاكمة اليوم لا في العير، ولا في النفير، بل إن كل الذين وصلوا إلى حكم العراق الحالي صعدوا على أكتاف الجلبي الذي لم يتحقق حلمه في حكم العراق، إذ لم يجعلوه لا وزيراً ولا مديراً ولا خفيراً حتى رحيله.
إدانة الجلبي على أخطائه متروكة للمؤرخين لاحقاً، ولكن هناك ملاحظات وتمنيات كان عليه العمل بها بعد العام 2003، وكان يدركها ويستوعب خطورتها على سمعته من بعده، فضلا عن وعيه السياسي بالجنايات والجرائم التي حدثت في العراق، ولم تزل تحدث. ويعتبر صمته وسكوته وعدم مبالاته بالشتائم التي كيلت له، والانتقادات ضده، من أكبر أخطائه، وكأنه اعترف بصحة ما سجله كل من عارضه وانتقده وشتمه، بل وبقي صامتاً إزاء حملة إعلامية ضده منذ شهرين، من قبل كاتم أسراره سنوات طويلة، من دون أن يرد عليها رداً قوياً، بل ويبدو ضعفه وقلة حيلته في الناس التافهين الذين اعتمد عليهم وجعلهم من موظفيه ومساعديه، وإذا بهم يخونونه ويفضحونه، وهو لم يبد أي تأسف أو أي غضبة تذكر، فهل كان يأكل نفسه بنفسه متندماً، أم أنه غدا يتلقى اللكمات من دون قدرة له على الرد؟
كنت أتمنى عليه أن يقف منذ زمن ليعارض هذا الحكم الفاسد الذي شارك في صنعه، كنت أتمنى عليه أن يعترف بخطئه في تأسيسه ما يسمى “البيت الشيعي” الذي بدأت منه شنيعة الانقسام. وكم تمنيت عليه ان يؤسس بيتا عراقيا تغلب عليه المحبة والسماحة والعقل بين كل الاطياف .. وكنت أتمنى عليه أن يقول دعوني وحدي مؤمناً بنظام سياسي مدني، وأنني أكبر من أكون حليفاً في ظل عمامة، أو وزيراً في ظل رئيس وزراء فاسد وغبي وطائفي. كنت أتمنى عليه أن يعترف بأن ليس من حقه السيطرة على وثائق العراق الخطيرة، وتسليم معلومات إلى إيران تحت أية ذرائع، مما قاد أميركا إلى مهاجمته ودهم بيته والاستيلاء على كل ما لديه من وثائق وأجهزة، وجمّدت اميركا علاقته بها. كنت أتمنى عليه أن يقطع صلته بالأحزاب الدينية تماماً، ويبقى وحده، أو أن يتحالف مع رفيق صباه، إياد علاوي، لتشكيل جبهة سياسية وطنية مدنية معارضة، لا علاقة لها بالطائفيين. كنت أتمنى عليه أن يدين بشدة كل ممارسات الفساد، والمحاصصات السياسية، ويطهر نفسه من أية شبهة، باصطفافه مع كل العراقيين. كنت أتمنى عليه أن لا يركض وراء سلطة أو قوة أو مال أو منصب وزاري أو إداري، وأن يعترف بأنه تعامل مع أقزام فاسدين خانوه، أو تراجعوا عنه، أو تآمروا ضده أو شتموه، وتراهم اليوم يمشون في جنازته، فرحين ضاحكين برحيله.
وكنت أتمنى أن يكشف ليس أرقاما مذهلة سرقت ونهبت، بل يعلن عن أسماء فاسدين، لا يعدون ولا يحصون، سرقوا الملايين والمليارات. وكنت أتمنى أن يصحو اليوم ليراهم، وهم يمشون في جنازته، ويكيلون له المديح الفارغ، ويكتبون عنه أجمل العبارات. ولكن للعلم ، لم يقف أحد من كل هؤلاء معه في محنته الأخيرة، ولم يكتب أي واحد منهم مقالة في حقه، وفي أثناء حياته للوقوف حقاً إلى جانبه، لكنهم اليوم، وبعد رحيله، يترحمون عليه ويكتبون عنه ويجعلونه بطلاً. إنهم من أصعب الناس، وأكثرهم نفاقاً وتعقيداً وشقاقاً، مقارنة بعراقيين آخرين، كانوا قد وقفوا منه ومنهم موقف الضد، وهو خصمهم، كونه ساهم في إسقاط النظام السابق.
بدأ أحمد الجلبي لغزاً، وعاش لغزاً، ومات لغزاً، عرفت الكثير عنه، وبشهادة أساتذة أميركيين، التقيت بهم ، إذ وصفوه بالذكاء، وان قدرته كبيرة في تخزين المعلومات وطرق البحث عنها والسيطرة عليها، ولديه القدرة على استيعاب المسائل الرياضية والحسابية. ولكن، تنقصه أدوات التحليل الفكرية والخروج باستنتاجاتٍ، يمكن أن يتبنى من خلالها أحكامه السياسية. وعلى الرغم من أنه كان براغماتياً في تفكيره السياسي، لكنه كان يوظف كل شيء في سبيل الفكرة التي يؤمن بها.
أخيراً، كان يفترض بالجلبي أن يعارض السياسات التي مورست في العراق معارضة شديدة، وأن لا يسكت أبدا على ما حاق من ظلم بالكفاءات العراقية، وان لا يتعاون مع التافهين في عملية سياسية اودت بالعراق الى المهالك ، وأن لا يتحالف مع التيار الصدري الذي خذله، ولا يتحالف مع المجلس الأعلى فخذله هو الآخر، فقد كان اسمه بالحصاد، ولكن منجله مكسور من بيته الشيعي الذي بناه بنفسه .
نشرت في العربي الجديد ، لندن يوم الخميس 6 نوفمبر / تشرين الثاني 2015 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …