كتب الاستاذ الفاضل سيّار الجميل مقالا بعنوان:
” في الذكرى الثانية والخمسين لمصرع الملك فيصل الثاني رحمه الله .. 14 تموز / يوليو 1958″
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=368818
في هذا المقال يتساءل الاستاذ الجميل تساؤلا مشروعا:
” ماذا لو بدأ العراقيون ثقافة اعتذار .. إنهم سوف لن يرجعوا التاريخ إلى الوراء ، وسوف لن تأخذهم العزة بالإثم إن اعترفوا بأخطاء ارتكبت…..فقد كنت قد طالبت بإنصاف دور الملك فيصل الثاني”
ومع ان دعوة او تساؤل الاستاذ الجميل تبدو طبيعية ونابعة من حسن النية. الا انها دعوة تغفل واقع عدم امكانية الاعتذار بسبب قتل فيصل الثاني. فاننا لسنا لا نجيد ثقافة الاعتذار بل لا نريد الاعتذار. فثقافة او فن الاعتذار هما سلوك بشري يمكن تعلمه واتقانه. ولكن المشكلة تكمن في موضع آخر لا يمكن رؤيته او تحسسه.
فالاعتذار يعني الضعف والنقص في مجتمعنا الابوي العشائري الذي يقدس القوة. انه الاخصاء الاوديبي الذي يحتل عقلنا الباطن ويحكمه. فالضحية يتماهى مع الحاكم ويكتسب قوته من خلال هذا التماهي. ولذلك قد يبدو غريبا للوهلة الاولى فهم لماذا يتماهى شعبنا, او قطاعات واسعة منه, مع حاكم ديكتاتوري او حتى دموي. فحكام العصر الجمهوري كانوا اما حكاما فرديين ديكتاتوريين او حكاما دمويين. وكلهم كانوا غير قادرين على البقاء يوما واحدا في الحكم بدون معاضدة مئات الآلاف, او حتى الملايين, من مؤيديهم واتباعهم .
فمع ان الحقد ضد النظام الملكي يبدو مفهوما, ولكن هذا الحقد لم يكن هو الباعث الرئيسي لحركة الضباط الاحرار في 14 تموز 1958 (هل هم فعلا احرارا بعرف اوديب او عقدته؟). ان هدف الحركة لم يكن بسبب موبقات العهد الملكي كما ادعى ويدعي هؤلاء وآخرون. ان هدفهم كان تنصيب شخصا سلطويا في قمة السلطة, شخصا عسكريا اصلا مثل قاسم والعارفين والبكر او بالاكتساب مثل صدام. كما يذكر الاستاذ الجميل فان “فيصل الثاني لم يكن بشخصية قوية او ماردة”, يمكنها ان تحكم العراق وقتها او ما بعد بسبب الصراع الاوديبي الذي يحكم مجتمعنا, مما بجعله في تطلع دائم الى حاكم قوي تسلطي, او الاب الذي يستطيع التخفيف من حدة الشعور بالذنب بسبب الرغبة بالزواج بالمحارم-حسب عقدة اوديب. فهو في بحث دائم عن شخص قوي, والافضل حتى لو كان هذا الشخص تسلطيا ودمويا بداية او ان يصنعه الشعب. فنوري السعيد, الوجه الابوي والقمعي للسلظة الملكية, اصبح متقدما في العمر, ومقولته الشائعة “دار السيد مأمونة” كان قد اصابها الوهن والتعب (البايولوجي). لذا كان العراق بحاجة الى سلطة ذكورية اخرى لتحل محل نوري السعيد, السلطة التي جسدها قاسم وعارف وآخرون بعدئذ.
ان وجود حاكم قوي يمكِّن الشعب من تخفيف الشعور بالذنب الناتج عن عقدة اوديب. الملك فيصل الثاني كان شخصية, كما يقال, غير قوية (في العرف النفسي, العكس هوالصحيح. فشخصيته كانت قوية, والقوة تعني هنا التوازن والاستقرار النفسي وخلو شخصه من عقدة الذنب الاوديبية). ولذلك كان على زعماء الحركة, قاسم وعارف, وانسجاما مع تربيتهم العسكرية الصارمة, ان يسلكوا سلوك الاب ليمنع اولاده من ممارسة الجنس مع محارمهم حسب عقدة اوديب.
لذلك فانه عندما يدعو الاستاذ الجميل الى الاعتذار بسبب جريمة قتل الملك فيصل , فانه يدعو اوديب في نفس الوقت الى ان يجيش كل شياطينه او ابالسته ليعلن الحرب الضراء على من يدعوا للاعتذار. ان الاعتذار هو ذبح وقتل لاوديب. واوديب لن يتردد في تحويل ماء دجلة والفرات الى دماء للحيلولة دون هكذا اعتذار. فالاعتذار يتطلب منهم طلب الغفران عن “جريمة” خففت لديهم الشعور بالذنب الاوديبي, فلذلك بعرفهم هي ليست بجريمة, بل فضيلة لكونها هكذا بالضبط–;– تخفيفها الشعور بالذنب الاوديبي. كما انهم ارتكبوها, قد يفسرون, اطاعة لاوديب وتنفيذا لاوامره, ولذلك لا حرج عليهم. وهم في تفسيرهم محقون, ولكنهم محقون فقط بمعنى ان عقلهم الباطن هو المسبب, ولكنهم ليسوا محقين باستخدامهم اياه كدفاع, لانه عندئذ يمكن محاسبتهم بسبب سوء النية حسب سارتر (1).
فلذلك لاغرابة ان تفتح الدعوة الى الاعتذار نار جهنم لتقذف الداعي للاعتذار بحجر من سجيل.
فالاعتذار يثير فيهم شعورا بالذنب لا يحتمل, ليس لقتل الملك, بل بسبب خيالاتهم الاوديبية التي يجهدون كل وسعهم من اجل طمرها في عقلهم الباطن, وهم مستعدون من اجل ذلك ان يقتلوا الملك وينصبوا مكانه حكاما ديكتاتوريين او دمويين مثل صدام او المالكي او غيرهم. وهذا يفسر قول الاستاذ الجميل بان الملك “يبدو انه لم يخلق للعراق أبدا”. و”ابدا” تعني ابدا, او على الاقل ما يقاربها.
لقد انكر قاسم وعارف مسؤوليتهما في قتل الملك. ومنذ ذلك الوقت تفاقمت حالة الانكار Denial التي يعيشها شعبنا, وكلما زاد الانكار كلما زادت دموية حكامنا, وهي دموية يغذيها شعبنا, او بالاحرى انكاره لعقدة اوديب ورغبته العارمة في دفنها في عقله الباطن الجماعي. انه يريد استرجاع البطل الاوديبي, قاسم, الى الحياة (2), كي يقوم من جديد بقتل البطل المناقض لاوديب, الملك فيصل الثاني . والبطل لديهم هو دوما اوديبيا. اما البطل اللااوديبي فهو ليس بطلا او حتى انسانا بالمرة (لم يعاقب قاتل فيصل الثاني, الضابط عبد الستار العبوسي, بل تم مكافئته بمنحه منصبا رفيعا في احدي سفارات العراق).
وما يعقد الامور اكثر هو ان تعرض شعبنا للقمع السياسي المتواصل يعني انتشار ملازمة اوستوكهولم كالوباء. انها الملازمة التي تحمل الضحية على التعلق او حب من سبب لها الالم. وهذا الحب قد يتلبس اقنعة لا حد لها مثل الطائفية او العشائرية. البعض يدعو ذلك تخلفا- مثل اعادة انتخاب شعبنا لمن هم اساس بلاءه . ولكن وصف سلوك كهذا بالتخلف لا يعني الكثير ولا يعكس واقع الامر. واقع الامر هو شعور اوديبي عميق بالذنب, بسبب قتل الاب ( يجسده لدى البعض خذلان الامام الحسين مما ادى الى قتله, كما تروى الرواية), وهو شعور لا يحتمل ولا بد من التخلص منه بسفك الدماء خلال الشعائر الحسينية, او قتل الملك فيصل (البطل اللااوديبي او نقيض البطل بعرفهم), او بتنصيب حكاما دمويين ومتسلطين مثل صدام ونوري المالكي.
ان شكوى السيدة روزاليندا (مربية فيصل الثاني وصديقته الوحيدة لسنوات) بقولها “لا ادري لماذا نفذ صبر العراقيين ليقتلوا ملكهم وكل عائلته” مفهومة ولكنها غير مبررة, لكونها لا علاقة لها بالصبر. فادويب (ودائما هو الصراع الاوديبى) لا يحمل من الصبر مقدار شعرة. فالأمر كان مبعثه اوديب. اما دور الشعب العراقي او الضباط الاحرار فكان يقتصر فقط على تنفيذ ارادة واوامر اوديب. كما ان أجابة الاستاذ الجميل لها:
“انك لا تعرفين الظروف التي عاشها العراقيون .. وان فيصل ذهب ضحية لسيئات ارتكبها غيره ، واستطردت قائلا : لقد ولد وعاش ورحل وهو لم يدرك المشكلات الصعبة التي كان يعيشها العراق منذ زمن طويل” , تصح فقط في حالة اضافتنا كلمة “الاوديبية”, لتصبح العبارة كالتالي:
“انك لا تعرفين الظروف (الاوديبية) التي عاشها العراقيون”. وطبعا لا زالوا يعيشونها.
اما عبارة الاستاذ الجميل:
“لقد ولد (الملك فيصل) وعاش ورحل وهو لم يدرك المشكلات الصعبة التي كان يعيشها العراق منذ زمن طويل”, فهي صحيحة تماما. ففيصل الثاني كان ملكا ودرب ليكون ملكا, ولم يكن محللا نفسيا او حاصلا حتى على الحد الادني من التدريب في فهم الصراعات النفسية, وخصوصا الباطنة منها.
اما قول الاستاذ الجميل.
“المشكلات الصعبة التي كان يعيشها العراق منذ زمن طويل”, فهي صحيحة فقط بمعنى ان هذه المشكلات الصعبة سبقت تأسيس الحكم الملكي او حتى ظهور الدولة العراقية بقرون عدة.
كما انه ينبغي التنبيه ان المعاداة السياسية لنظام ابوي قمعي لا تعني تحرر المعارض من عقدة اوديب, بدلالة ان صدام ذهب ومن اعقبه لا يقلون دموية او تسلطية عنه رغم ادعائهم التمايز والاختلاف. فاوديب يستطيع لبس ما لا حصر له من الاقنعة.
ان لعقدة اوديب اشكال واوجه مختلفة ومتغايرة. فبعضها يعبر عن نفسه بقمع النساء, فالمرأة بعرف الفكر الذكوري عورة ونقص, ولذلك فهي نقيض البطل, حالها حال فيصل الثاني- يجب قتلها لغسل الشرف او تغليفها بحجاب لاخفاء عورتها- والاخفاء والانكار سيان. لذلك لم يكن غريبا تعاطف النساء القريبات من قاسم وعارف مع فيصل واستنكارهن لمقتله. فكما يروي الاستاذ الجميل:
“فأخت عبد الكريم لامته لوما شديدا على قتل فيصل ، فسكت واغرورقت عيناه ـ برواية ابن أخيه الصديق الأستاذ طالب حامد قاسم لي قبل سنوات بعد أن سألته عن ذلك ـ ! أما زوجة عبد السلام ، فقد لامت زوجها على فعلته عندما رجع إلى بيته ، فأجابها بالنفي ! وكأنهما لم يكونا بمسؤولين عن اخطر حدث شهده العراق”
او تعبر بطولة اوديب عن نفسها بالغاء الآخر فكريا او جسديا-ترحيل اليهود وقمع الاقليات الدينية او الاثنية. فالاستاذ الجميل يعبر بوضوح عن لااوديبية فيصل وكونه نقيض البطل بقوله:
“كان فيصل إنسانا بمعنى الكلمة ، لا يفرّق بين البشر أبدا ، لا على أساس الدين ، ولا اللون ، ولا العرق ، ولا اللغة”.
انسانا بمعنى الكلمة, ولذلك حكمت التراجيديا الاوديبية بقتله, فالخطاب الاوديبي لا يسمح بعدم التفرقة بين البشر على أساس الدين، اللون العرق او اللغة, الخ.
او ببساطة قد تجسد عقدة اوديب نفسها برفض كل ما هو مخالف (للذوق العام والاعراف والتقاليد-كذا), حتى في اللباس او تسريحة الشعر.
ويسجل اوديب انتصارا تلو الانتصار ويثبت يوما بعد يوم انه الحاكم الفعلي, وليست الدمى التي يرَقَّصَها هو على هواه باختلاف اسمائها او اسمائهم من رؤساء العراق واعوانهم .
ان قتل الملك فيصل الثاني والشعائر الحسنية وجهان لعملة واحدة: الهدف هو التخلص من الشعور بالذنب ومحاولة ارجاع الاب المقتول الى قيد الحياة. ولذلك فاني للأسف لا استطيع مشاركة الاستاذ الجميل تفاؤله بقوله:
“ان المشكلة ليست بالتغيير ، بل بفورة الدم وسفحه ظلما وعدوانا . إننا لسنا بحاجة إلى كلمة اعتذار ، بل إلى ثقافة اعتذار ، وان هذا أو ذاك سيحصل من قبل العراقيين ، ولكن بعد مرور أكثر من جيل ، وعندما ستعرف الأجيال القادمة حقائق تاريخية أكثر مع ازدياد الوعي التاريخي، وزوال الخصوم السياسيين الذين ناصبوا العداء لهذا العهد أو ذاك”
ف(تقادم) الزمن ليس من اعداء اوديب, وازدياد الوعي التاريخي لا يعني اوتوماتيكيا ضمور سلطة الاب وسطوتها في العقل الباطن الجماعي. كما ان التعويل على زوال الخصوم السياسيين لا يشكل اية ضمانة. فخصومتهم لم تكن مع فيصل, بل مع نقيض البطل الذي جسده فيصل. والتراجيدية لم تكن فردية بمعنى قتل الملك كشخص, وانما هي التراجيدية بمعناها الاشمل, لكونها كانت انتصارا لصالح البطل الاوديبي على نقيض البطل الذي جسده الملك فيصل الثاني.
المصادر
1- Sartre, J-P: Being and nothingness: an essay in phenomenological ontology, Citadel Press, 2001
2-الشيوعي يحتفل بذكرى ثورة تموز ويتساءل: هل الأرحام العراقية عاجزة عن ولادة زعيم مثل قاسم
http://www.iraqicp.com/index.php/2013-03-22-11-04-13/2013-03-22-11-08-32/2410-2013-07-14-10-18-23
نشرت في الحوار المتمدن ، العدد 4155 بتاريخ 16 / 7 / 2013 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com