“المجايلة التاريخية” نظرية طرحها المؤرخ العراقي سيّار الجميل، في كتاب يحمل العنوان نفسه، صدر في العام 1999. ومفاد النظرية أن لكل حقبة من تاريخنا العربي الإسلامي، جيلا يتصف بصفات عامة مشتركة، تنتج عن تكوين أفراده روحياً ونفسياً ومعرفياً في ظروف مشتركة ومتشابهة خلال السنوات الثلاثين الأولى من أعمارهم، تؤدي تالياً إلى تشابه مستوى ونوعية فاعليتهم العملية في السنوات الثلاثين التالية من أعمارهم، حين يتولون هم صناعة الأحداث وتوجيهها والتأثير فيها، في مختلف مجالات الحياة.
وإذا كان سيّار الجميل يقدم في كتابه المذكور تحقيباً تاريخياً مقنعاً، يبدأ من بعثة الرسول ويستمر حتى تاريخ صدور الكتاب، ليرصد لدى كل جيل صفات عامة بارزة، تحدد لكل واحد منه “عنواناً عريضاً” يعبّر عن الفترة التي عاشها، ومستوى فاعليته فيها، فإنه بالطبع لم يكن قد استشرف “جيل الربيع العربي” ومستوى فاعليته وصفاته العامة.
للوصول إلى “جيل الربيع العربي”، يحسن أن نستعرض سريعاً عناوين الأجيال العربية التي وضعها الجميل، منذ انطلاق تاريخ العرب الحديث في نهاية القرن الثامن عشر، وهي: الجيل الحادي والأربعون (1799-1829): التأسيس النهضوي؛ الجيل الثاني والأربعون (1829-1859): التنظيمات العثمانية؛ الجيل الثالث والأربعون (1859-1889): اليقظة الدستورية؛ الجيل الرابع والأربعون (1889-1919): الاستنارة الفكرية؛ الجيل الخامس والأربعون (1919-1949): الليبرالية الوطنية؛ الجيل السادس والأربعون (1949-1979): المد القومي الراديكالي؛ الجيل السابع والأربعون (1979-2009): يتساءل الجميل إن كانت صفة “الماضويات” مناسبة لهذا الجيل، أخذاً بالاعتبار أن كتابه صدر قبل عشر سنوات من انتهاء تلك المرحلة.
لنا أن نلاحظ أن الصفات العامة التي اختارها الجميل دقيقة بما يكفي للقول بصلاحية نظريته حول “المجايلة” في تاريخنا الحديث والمعاصر. وهذا يعني أننا نعيش حالياً فترة فاعلية الجيل الثامن والأربعين، التي تمتد من العام 2009 وحتى العام 2039، ويكون التأثير فيها لمن هم بين الثلاثين والستين من أعمارهم. اعتدنا، في تاريخنا المعاصر، امتداح مرحلة “المد القومي”، وبخاصة عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وبداية عقد السبعينيات، حتى أنها تُسمى عادة “الزمن الجميل”، لأن الجيل الذي كان فاعلاً وقتها ضمّ أسماء بارزة في مختلف حقول الفاعلية الإنسانية: في السياسة والفكر والأدب والعسكرية والإعلام والفنون.. الخ، ابتداءً بجمال عبدالناصر، ووصولاً إلى أم كلثوم، ما صنع فترة مزدهرة قياساً إلى المرحلتين التاليتين. لعلنا ندخل اليوم، واستناداً إلى ما يصنعه “الربيع العربي” في واقعنا، مرحلة جديدة جميلة من تاريخنا المعاصر، نرجو أن يكون ممكناً أن نسميها لاحقاً: مرحلة “استئناف النهوض”، وفيها تتغير أحوالنا من التخلف الحضاري إلى السعي للتقدم، ومن الرداءة في السياسة والعسكرية والإعلام والفنون، إلى الجودة التي هي، بطبيعتها، عابرة لحقول الفاعلية الإنسانية، إذ لا يمكن أن تتميز الفنون في ظل رداءة السياسة، ولا أن تتميز السياسة في ظل رداءة الثقافة!
يتخلى الجيل الفاعل حالياً عن رداءة السياسة من خلال ثورات الربيع العربي، لكن ثمة مؤشرات على التخلي عن الرداءة في حقول أخرى أيضاً. ففي الغناء مثلاً، ظهرت على الشاشة نجمة مصرية صغيرة اسمها “كارمن”، ما تزال في العقد الثاني من عمرها، وتشي جودة أدائها بأنها ستقدم لحقل الغناء خلال “جيل الربيع العربي”، مثل ما قدم لفن الغناء نجوم جيل عبدالناصر، وكذا نتمنى أن يكون الحال في حقول الفاعلية الإنسانية الأخرى، بما فيها العلوم والرياضة والصناعات والعمران والتعليم، وغيرها.
رجاؤنا أن نكون فعلاً أمام “زمان جميل جديد”، وأن لا يتلقى هذا الجيل ضربة في مقتل، تقوّض إمكانات تميّزه، لأسباب خارجية أو داخلية!
نشرت في جريدة الغد الاردنية / اراء ومواقف ، .السبت 17 آذار / مارس 2012 .
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …