عندما تخضع ثقافة الناس في أيّ بلد إلى معايير سياسيّة أو دينيّة ، وجعلها مجرّد سلّة يحملها ساسة او رجال دين .. في أروقة أحزابهم وخنادق أيديولوجياتهم السياسيّة ، وتصبح أداة لهذه الأجندة أو تلك .. فستضيع ثقافة البلد ، وسيغدو كلّ مثقّف مبدع حقيقيّ تائها في متاهة غريبة عنه تماما .. وسيكثر عدد المعاقين والطفيليين والطارئين على هذا العالم الجميل .. فيصبح مشوّها وبليدا وقميئا ومهترئا .. أو على اقلّ تقدير يجعلونه مثل حديقة حيوانات لا تجد فيها إلا بعض أقفاص حديديّة تجلس وراء أسلاكها كائنات كسيحة أو مريضة أو متوحشة ضارية تنظر إليك !!!
ليست أوضاع المثقّفين العراقيين بأسوأ من أحوال غيرهم من المثقّفين العرب ، فلقد اجتاحت الجميع أسوأ الأوبئة والأمراض الفتّاكة ، فضلا عن كونهم جميعا عاشوا نفس الظروف الصعبة والقاسية منذ اكثر من نصف قرن .. فليس هناك الأجود والأفضل على حساب السيئ والأسوأ .. ودعوني أقول بأننّي لست هنا أمارس جلداً للذات العراقيّة المثقّفة ، أو هكذا تعد نفسها كما وجدتها . ولكننّي أحاول ان اعيد ما كنت قد طرحته من معالجات نقديّة سابقا ، ولكن ينبغي نقد كلّ الظواهر التي نجدها غريبة لأيّ مشهد يبدو متراخيا أو متراجعا أو كسيحا ، وذلك بتفكيكه واكتشاف أسباب ما حدث فيه وإعادة الرؤيّة بالمزيد من الأفكار الجديدة عسى فيها المنقذ من الضلال ، أو الاتقّاء من الأدران .
أعتقد ان ما جرى للعراق وما مرّ بالعراقيين من أهوال ومكابدات ومآس .. وما عانوه في وطنهم من قمع وذلّ واضطهاد وملاحقات وما عاشوه من خوف وكبت وهواجس ، وما جايلوه من حروب وقسوة وحرمان .. وما أصابهم من احتلالات وفظائع وتدمير ، وما لحقهم من تهجير وانقسام وتشتّت، وما حلّ بهم من ابتزاز وتفخيخ وخطف وقتل .. كلّها كانت أسبابا حقيقيّة كي يجد المثقّف أيّ منفذ للهجرة ويغدو عابر حدود ( وقد اعتبر ذلك سبّة وطنية فوصف بالهارب والشارد ) ! وهو يحلم بالحريّة والاطمئنان ، فالمبدع الحقيقي يثق بنفسه ولا تسمح له أخلاقياته بالبحث عن مال وسلطة وقوّة وجاه سياسيّ ضحل .. لذا بدأ يتحمّل الكثير ( خصوصا اذا كان قوي اللسان ولا يقبل بالمداهنات المزيفة والمجاملات الكاذبة ) .
بدأ يهاجر ويهرب منذ زمن بعيد ، ودخل دوامة التشرّد الحقيقي ومعاناة الاغتراب حتّى لتصدر مجلة أدبية عراقيّة رصينة باسم ” الاغتراب الأدبي ” تبقى حيّة ترزق لسنوات طوال ! كان المثقّفون العراقيون يعيشون “أزمة وطن” في كلّ عهد من العهود السياسيّة السابقة ، ذلك لأنّ اغلبهم له تفكيره السياسي أو قد يكون ملتزما بأيديولوجيّة سياسيّة ، أو انه حرّ في إبداء رأيه السياسيّ .. فكان ذلك عاملا قد يجعله من المعارضين ليتمّ تهميشه وإقصاؤه ان لم يتم محق اسمه وإعدامه أو سحق عظامه ، أو ليصبح من المقرّبين والمهرّجين ليتم تكريمه وإعلاء شأنه في المجتمع زيفا وبهتانا .. ولعلّ داء العراقيين المزمن هو انعدام تلاقيهم على مبادئ موّحدة ، وأخلاقيات متكافئة كما هو الحال عند بقيّة الامم ، وقد وجدنا في العراق انعدام تلاقي العثمانيين مع العروبيين ، ولا الليبراليين مع المحافظين ، ولا الشيوعيين والماركسيين مع القوميين والبعثيين ، ولا تلاقي الأحرار والعلمانيين مع الإسلاميين والمتدينين .. الخ ولعلّ تجارب المثقّفين العراقيين القدماء من المخضرمين بين القرنين التاسع عشر والعشرين ، أو الملكيين في فترة ما بين الحربين العظميين كانوا اكثر عقلانيّة وواقعيّة ، فلقد نجحوا تماما في ان يعمل القدماء مع المحدثين ، والمسلمون مع المسيحيين واليهود ، والشيعة مع السنة ، والعرب مع الكرد والتركمان .. ويلتقي كل الإصلاحيين الوطنيين مع التقدميين اليساريين .. ونتج عن ذلك جمعيات وتشكيلات وأحزاب وتنظيمات ليست سياسيّة حسب ، بل ثقافيّة وفنيّة وتشكيليّة إبان خمسينيات القرن العشرين ..
لقد لعبت عوامل أساسيّة في خلق الانقسامات لدى المثقّفين العراقييّن كان من أوّلها التزّمت والتشدّد والتعصّب وقد نتجت عنها كراهيّة وأحقاد وصلت إلى حدّ إباحة الدماء .. علينا ان نتذّكر قصائد شاعرة كانت تطالب (محكمة الشعب ) بالقتل والسحل .. علينا ان نتذكّر أبيات شاعر مشهور جدّا وهو يحرّض على الإعدامات .. علينا ان نتذكر من تغّنى بوطن تشيده الجماجم والدمّ .. علينا ان نتذّكر مقالات صحف جائرة يتسيّد عليها مثقفون يحلمون بجز الرؤوس ، أو بجلد المجتمع وتوصيفه بأسوأ الأوصاف .. علينا ان نتذكّر ما كيل من مدائح مذلّة بحقّ جلّادين تافهين .. علينا ان نتذكّر كيف كان ولم يزل يتم قمع مبدعين عراقيين من قبل مثقّفي سلطات جائرة .. او تعمي الكراهيّة والاحقاد قلوب هؤلاء ، او تقتل اولئك نرجسيتهم السقيمة .. وتجد هناك جملة عريضة من المثقفين والفنانين العراقيين الطيبين الذين لا يعرفون الا الحب والسماحة والقلوب الكبيرة ..
علينا ان نقارن بين زمنين متباينّين بين زمن مكتبة مكانزي في قلب بغداد ، وبين زمن المحرمات وتحريم الفكر العالمي وغلق ليس الأفواه فقط ، بل غلق العقول .. علينا ان نتذكّر كيف بدأت مشروعات سحق القيم الحضريّة كي تغزوها البدائل المتخلّفة وزحف التريّف والتخلّف والتعصّب على المدن المستنيرة .. علينا ان نتذكّر مساهمة بعض (الأكاديميين) في الجامعات في اضطهادهم بعض المختصين والمثقفين المبدعين .. علينا ان نتذكّر محاصرة مثقّفين مستقلّين وتشويه سمعتهم وإقصائهم وتحطيم معنوياتهم .. علينا ان نتذكّر شراء ذمم بعضهم ليكونوا مجرّد أدوات إعلاميين أو مجرّد جواسيس ومخبرين وكتبة تقارير سريّة .. إمّعات ينشطون في التظاهرات والتجمعّات ويجتمعون معا في غرف مغلقة .. علينا ان نتذكر ان مثقّفين عراقيين كبارا ماتوا من جوعهم وهم على حافات الطريق في ظروف صعبة قاتلة .. علينا ان ندرك ان أناسا حملوا شهادات تخصصّية عليا ، وحسبوا على المثقّفين ظلما وعدوانا ، وهم لا يفرّقون بين الضاد والظاء !
علينا ان نتذكّر ان هناك مثقّفين عراقيين مناضلين بقوا ملتزمين بأفكارهم ومبادئهم واخلاقياتهم .. فمنهم من بقي عطاؤه سخيّا ، ومنهم من تراخى نتاجه بتعرّضه لظروف صعبة قاهرة ، ومنهم من سكت سكوتا أبديا ، ومنهم من انتحر أو هرب من العراق ولم يعد إليه ثانيّة .. أما من لحقه بؤس أو مرض أو انسحاق أو شدّة فتجده من بقايا زمن الحروب القاتلة فهو باق برفقة عاهة مستديمة ، أو يحمل ذاكرة أسير حرب عاش لسنوات طوال مظلوما مقهورا ، أو أصابه الجنون ..
اليوم ، يتشدّقون بزمن الحرّيات والديمقراطية ، ولكن تجد المثقّف الحقيقي ليس مكروها أو مغضوبا عليه حسب ، بل مسحوقا ومهشّما ومهمشا ومشتوما كونه يخالف شيوع فقه الأحزاب الدينيّة البائس ويعارض بشدّة فكر التوّحش لدى كلّ الأحزاب والتنظيمات الدينية ونظائرها الطائفيّة وأشباهها من الاتجاهات المنغلقة . بل ووصل بؤس المجتمع ان يقمع ويسبّ ويشتم مثقف عراقي قبل ايام ، وكان قد عبّر عن رأيه بحرّية في مسألة حسّاسة وهو يعيش وراء البحار ! بل ونجد أنّ التافهين والطفيلييّن الذين حسبوا انفسهم بمثقّفين في هذا الزمن الخليع قد تسيّدوا الموقف ، فمنهم من صار وزير ثقافة ، ومنهم من صار نائبا في برلمان ، ومنهم من احتل منصبا ليتكلم باسم الثقافة العراقيّة ، ومنهم من ادّعى نفسه خبيرا كي يروج للانقسام والكراهية ، وهو يريد صبغ تلك الثقافة بمسحة طائفيّة أو جهويّة أو عشائريّة .. وغدا الرجل المعمّم يطلق على نفسه ” مفكرّا ” وهو ينظّر في الثقافة المدنيّة ، ويرشد المبدعين إلى ما يستوجب عمله ، فهو يعلن على الناس ازدواجيته الماكرة ، إذ يلعب دورا دينيا محرّضا ، ولكنه يتقمّص الدور المدني ليلعب لعبته فيه أيضا !
وعليه ، فانّ المثقّفين العراقيين المبدعين هم أول ضحايا المجتمع ، إذ يقفون في صدارة مشاهد العنف الوحشي الذي تسود فيه المنظمّات والعصابات الإرهابيّة. وثمّة فجوة معرفيّة واسعة بين ما يمارس من تربويّات بائسة يجري العمل بها اليوم وخصوصا صناعة ما يسمى بـ ” اكاديميين فاشلين ” سيكونون وبالا على الأجيال القادمة .. فهل ثمّة أيّ مجال لتكوين المبدعين مستقبلا في زمننا اليوم الذي تحكمه أجندات فاسدة مع تفاقم وتراكم الاهتراء الثقافي واللغوي ، ومع استمرارية المناورة والازدواجيات وثنائية الديني والمدني، وممارسة الأقنعة اللفظيّة لإيهام الناس ، ومع انقطاع المثقّفين العراقيين عن مبدعي العالم اليوم ، ولا اجد من يقرأ أمّهات كتب ومقالات لانشغال الجميع في عالمهم الافتراضي وما ينشر فيه من تفاهات أو تعليقات ، ونحن ” نعيش في ظل ثورة رقمية تزلزل بعض مكونات العالم الحديث وحداثته العليا،” – وفق ما قاله هابرماس- وكنت أتمنى ان تتوّفر الفرص التاريخيّة أمام المثقّفين العراقيين المعاصرين ليكون لهم مجدهم العالي في القرن الحادي والعشرين . فكيف السبيل إلى ذلك ؟ دعوني أعالج ذلك في مقال قادم.
نشرت في المدى العراقية ، يوم الثلاثاء 25 نوفمبر / تشرين الثاني 2014
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=12252&IssueID=617
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …