العراقيون لا يعرفون اليوم الانسجام والتعايش بتأثير انسحاق التوحد الوطني فكيف بالمشاركة السياسية ؟ مع معاناتهم من غلو النزوع الطائفي ، اذ يعتبر التمييز الطائفي من اخطر الاوبئة التي ابتلى بها مجتمعنا ، ويزداد الشحن سياسيا واعلاميا في الترويج لحكم ما يسمى بـ ” الاغلبية السياسية ” ، بمعنى واضح انه حكم (الأغلبية الطائفية) ، وكأن من يروج لذلك لم يشبع شهوته من الحرب وسحق العراقيين ، فهو يصفق لكل ما جرى ويجري من عمليات اقصاء مفضوح لكل الاصوات المعارضة لسياسات الحكومة الفاشلة من كل الوان الطيف العراقي وتطلق الاتهامات جزافا من اجل لعبة انتخابية واضحة ..
ان التغيير لا يمكن ان ينبثق من خلال انتخابات اتت بها عملية سياسية بشعة نكلّت بالعراق والعراقيين عقب حكم دكتاتوري .. ان لم يؤمن الجميع بالتغيير قولا وفعلا ، والدخول في طور انتقالي تاريخي ، فلا نجاح لأية تجربة ديمقراطية في العراق الذي يعيش انقسامات صعبة ، ان مراهنة اي “مكّون ” اجتماعي على حكم العراق بلا أي توحد وطني او منهاج عمل او برنامج سياسي متمدن ، فسيخيف ذلك كل العراقيين ويحبط مستقبلهم ويجعل رؤية الأشياء عندهم تتحرك في الاتجاه الخاطئ .
لقد جرت انتخابات 2014 في اجواء صراع طائفي انقسامي ، وصراع مصالح لكتل واحزاب واشخاص ،فهل سنكون بانتظار التغيير من الداخل ام ينتظر الناس مفاجئات قادمة ؟ هل سيعيش العراق الحرب الاهلية كونها نتيجة طبيعية لبقاء الاوضاع او ازديادها سوءا ؟ ان زعماء كتل واحزاب وناخبين يعلنون عن التغيير ، من دون تقديمهم اي منهاج سياسي بديل ،او رؤية فلسفية للتغيير ! وكيف سيتفاقم الالتهاب السياسي مع بقاء الحزب الحاكم ورئيس الوزراء لولاية ثالثة ؟ وستكون حتما اسوأ بكثير من الفترتين السابقتين باحتدام العنف في العاصمة وحزامها وبقية المدن العراقية وسيزداد الفساد وستتفاقم المشاكل الاصعب .. وستمر البلاد في اشرس مرحلة تاريخية صعبة باندلاع الصراع بين النظام السياسي والمجتمع العراقي ذي المكونات الثلاثة ( كما اسموها ) والتي لم تعرف الشراكة ولا التوافق لفقدان روح التعايش والانسجام ، ويكذب من يقول عكس ذلك ! وتسري الدعاية لحكم الاغلبية السياسية ( أي لحكم الطائفة الواحدة ) بعد ثماني سنوات من اقصاء الطائفة الاخرى التي لا تعرف كيف تتوحد ، ولا تدرك معنى التغيير السياسي الحقيقي ، ولا الدفاع عن وجودها ، ولا معالجة وضعها وتناقضاتها بين الشراكة المزيفة وممارسة التطرف ازاء غلو الجانب الاخر ..
كلام العراقيين كثير عن ” التغيير ” ، ولكنه مجرد شعارات فضفاضة واعلاميات كاذبة ، وأسأل : ما الذي اعده المرشحون وزعمائهم من برامج وافكار ورؤى للمستقبل . أي نهج عملي وقيمي واخلاقي ووطني للخروج من المأزق الطائفي ؟ هل نجح الزعماء في اختيار نوعية مرشحيهم في الانتخابات ؟ كيف يتم التحول بالمجتمع الذي ذبلت قواه الفاعلة وهي تعيش حالة من عدم اليقين والتشرد والاحباط ونفض الايادي ، والخوف من المجهول الصعب ؟
ان النماذج التي رشحت للانتخابات لا تتمتع جميعها بكفاءة عالية ولا بمكانة سياسية تؤهلها للتغيير ، كما توفر لدى الامم الاخرى من الرجال البناة والنسوة الرائدات . وتوضح نتائج الاستطلاعات التي اجريت بأن العراقيين قد سئموا من كل الوجوه التي لا تردد الا الشعارات الكاذبة ، ولا تعرف الا لغة التمييز او الاقصاء والتهميش والتطهير ، ويدرك العقلاء ان المتهالكين على السلطة قد أنهكتهم مصالحهم واغلبهم يعيشون قضايا معوقة مستعصية ، وان بعضهم من اشهر الفاسدين على امتداد اكثر من عشر سنوات .
في امم اخرى ، تتبدل وجوه ومعها تتغير افكار وتتوالى برامج وتتجدد حالات وتعالج مشكلات ويحاكم جناة ويعاقب شقاة وطغاة وزناة وعصاة.. فكيف يتغير العراق مع الوجوه نفسها ، وهم يصرحون ان حكمهم سيكون مدى الحياة او الى الابد ، وقد ضمنوا من خلال طائفيتهم وجودهم ، فهم يعلمون ان أي منهج وطني سيزيحهم ، وقد غدوا من اكبر المفسدين في الارض . وعليه ،اخاطب الجميع بان التغيير هو تغيير النهج والقيم لا تغيير الوجوه والاشكال .. وان التغيير المنشود يسعى – كما دعونا من قبل – للقضاء على التناقضات التي ظهرت في مجتمعنا جراء تطبيق مشروع ” المكونات ” و ” المحاصصات ” بديلا عن مشروع التوحد الوطني . ان مجرد عمل الاحزاب والتكتلات والتحالفات بما نص عليه مشروع الانقسام قد اشعل النار الحامية في العراق . ان مجرد تبرير أي تأسيس لحكم طائفي قد خلق الفتنة بين الناس ، وان العمل المنظم لحكم طائفة من خلال احزابها المتحالفة قد خلق حالة حرجة من التجزؤ والتشرذم سيبقى داء وبيلا ان لم يعالج معالجة جذرية . وللعلم ، ليس كل العراقيين بطائفيين او انهم كانوا يعرفون هذه الطائفية المقيتة ، ولكن مجرد وصول احزاب طائفية الى السلطة او النزول الى مباريات انتخابية ابطالها من الطائفيين الغلاة معناه اشعال نار جهنم في العراق ..
ان المحاصصات التي جرى العمل بها ولم يزل جاريا قد خلقت تخندقات ليس في المؤسسات واجهزة الدولة ، بل حتى في شرائح المجتمع . ان مجتمعات عدة في العالم لها تنوعاتها وتعدد اديانها وطوائفها ومللها .. ولكنها تعيش منسجمة ومتشاركة بلا اية مشاكل لأن انظمة الحكم فيها متمدنة ولها قوانين مدنية لا تفرق ولا تميز ولا تهرج لهذا او ذاك .. انني واثق بأن العراقيين سيقبلون أي حاكم من أي طائفة او مذهب او دين ان اعلن نظام الحكم فيه عن مشروعه الوطني الذي يقف بالضد منه كل الغزاة والغلاة والطارئين والجناة .. فالشعب العراقي عموما كان راضيا عن وزير مالية يهودي ، وعن وزير صحة مسيحي ، وعن رئيس وزراء شيعي ، وعن وزير داخلية كردي ، وعن رئيس برلمان سني ، وعن رئيس جامعة مندائي ، وعن وزير دفاع تركماني وقبل هذا وذاك عن ملك عربي حجازي .. الخ
ان فرصة التغيير ربما لم تتحقق ، وعلى العراقيين ان يناضلوا من اجل امتلاكها بأي ثمن وان يبقوا مؤمنين بإنعاش الحياة في العراق ونقد ما يمارسه النظام السياسي .. والعمل على ايقاظ المجتمع كله من سبات عميق ونزع التخلف عنه وخلق الشعور لديه بالاهم له على المهم عنده . وما دامت هناك نزعة انقسامية في اختيار النواب والحكام ، فسوف يبقى داء العراق خطيرا سواء بقيت الوجوه ام تغيرت .. فالمطلوب هو التغيير الجذري ، وتتبدل الاحزاب الدينية ويحاكم كل مسؤول على ما اقترفته.. وان يحاسب كل من ساهم في التقصير السياسي والحكومي وفي الفساد . انني انبه اليوم كل مسؤول اقترف أي جرم بحق العراقيين ان يتأمل مصيره في لحظة التغيير ، وتاريخ العراق يشهد مفاجئات مذهلة .
العراقيون ليسوا بحاجة الى مصالحة كاذبة مزيفة ، وليسوا بحاجة الى ان تسحق بعض مدنهم من قبل جيوش وميليشيات حكومية .. او نشر المجازر ضد الناس ، ولا كسر ارادتهم ولا تهجيرهم وتغييب مطاليبهم بدعوى الارهاب . ان المسؤولين يعرفون مصادر الارهاب معرفة اكيدة ويدركون من يفجّر العراقيين .. وثقوا ان العراق سيتخلص من كل الارهاب بتغيير النهج لا بتغيير الوجوه .. ان تغيير النهج لا يقوم به بضعة نواب برلمانيين ما لم تخلق الارادة الوطنية بعملية التغيير وانقاذ العراق وادخاله طورا انتقاليا تاريخيا جديدا ضمن مشروع وطني حقيقي .. ولا يمكنني ان افهم احزابا تدعي الوطنية وهي توقف عضوية منتسبيها لأبناء طائفة واحدة ! فكيف تريدون التغيير ؟ وأي مشروع للتغيير سيتاح ان كانت هناك خنادق واسعة قد افتقدت الروح الوطنية عن عمد وسبق اصرار ؟ لقد حذر نيكولاي ملادينوف ، مبعوث الأمم المتحدة للعراق ، قائلا بأن الاستقطاب من شأنه أن يضر بفرص الحياة العراقية ، وسيزيد من تأجيج العنف. واتهم المسؤولين العراقيين بمفاقمة العنف كي يضمنوا لهم ولاية ثالثة. وينقل ما قاله له احد الحكوميين : ” ان عملنا سيبقى مستمرا بعيدا جدا عن السنة. وسيتم استبعادهم مرة أخرى ” ويعلق قائلا : ” نعم ، ان هذه مشكلة كبيرة جدا . ”
لقد اضاع العراقيون فرصا سانحة عدة للدخول في طور تاريخي انتقالي من اجل التغيير ، وان المؤامرة الخارجية بالتواطؤ مع بعض الاحزاب والوجوه قد خلقت هذا الانقسام الذي يعد اخطر بكثير من الحرب ! ومن سذاجة النظام السياسي الحالي اتهامه للآخرين بالعمالة الى دول اخرى ، وينسى عمالة اغلب احزابه ايام النضال الى دول ودوائر معروفة !
نشرت في جريدة المدى البغدادية ، يوم الاثنين 5 مايو / أيار 2014
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=9186&IssueID=464
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وعلى صفحاته في الفيس بوك وتوتير
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …