مأساة المثقفين العراقيين المستنيرين الاحرار
ان المأساة التي تشهدها النخبة العراقية المثقفة اليوم، مع ظاهرة القتل والتفجير ، لا تعود إلى ما بينهم كعراقيين وبين الآخرين، بقدر ما كانت ولمّا تزل بينهم وبين أنفسهم .. وبالرغم من وجود تاريخ غير منسجم في ما بينهم ابدا ، إلا أن تفاقم الانقسامات السياسية قد ولّد تشظيات اجتماعية مفجعة بتأثير طبيعة الحكم السياسي ، فكان ان أثّرت تلك الانقسامات تأثيرا كبيرا على أولئك الذين يتّصلون بواقعهم وحياتهم ووجودهم اتصالا عضويا قويا.. هنا في مكاشفاتي اليوم ، لا ادافع عن مبدعين او مثقّفين او فنّانين عراقيين نالهم الاقصاء والتهميش كونهم من البعثيين او القوميين او انهم صفقوا للدكتاتور او ناصروه او غنوا ولحنوا له او كتبوا عنه اطول الاشعار .. بل اتحدّث عن مثقفين ومبدعين عراقيين مستقلين يعانون اليوم من شقاء الوعي بل انهم اضطهدوا طويلا ، ولوحقوا ، او صمتوا ، ولم يكن يعرفوا الا لغة الهمس .. وكانوا وما زالوا يرفضون الاغبياء والجهلاء ويحلمون بمجتمع مبدع ومستنير !
إن ما حصل في العراق من هزّات سياسية ، وصراعات إيديولوجية ، ونضالات ضد الدكتاتوريّة ومجابهة التخلف والاعتراض على كل أشكال التدنّي الوطني والإنساني، قد شارك فيه الاحرار من المثقفين العراقيين بمنتجهم الإبداعي أو العلمي أو الثقافي أو حتى السياسي والاعلامي على مدى أكثر من خمسين سنة مضت من دون تمييز ديني او طائفي او عرقي .. وهي حالات لا تقارن أبدا بهذه السنوات الأخيرة العجاف التي عشناها، فالعراق اليوم لم يكتف بهزّات سياسيّة وصراعات حزبيّة، بل انتقل التفكك والخراب إلى المجتمع بحيث نجده يتمزّق ويتآكل أمام أعيننا، إذ تثور الأحقاد الدفينة، ويزوّر التاريخ، وتشّوه الصفحات، ويتفجّر الكبت المخزون منذ قرون ، وتطغى لعنة الطائفية، وتوزّع الاحكام الظالمة على الناس بين العراقيين ، ويتهمّون ظلما وعدوانا بتهم لا أساس لها من الصحة في هويتهم وانتماءاتهم وأخلاقياتهم وقيمهم ومناطقهم .. ولم يقتصر الأمر على مجرد أفكارهم وشعائرهم وطقوسهم .. الخ بل امتد الأمر إلى أفكارهم وتخصصّاتهم ، بل وتجرّأ البعض لتشويه اصولهم ومنابتهم واعراقهم .. انه صراع عقيم موبوء بكل العبث بالذات العراقية نفسها.. وبالإنسان نفسه في بلاد يتشدقون ليل نهار أنها موطن الحضارات الأولى ومنشئها، فأين التوحّش العراقي الذي نشهده اليوم من معاني الحضارة الإنسانية؟
لقد كان الوعي العراقي مضطهدا على امتداد عقود طوال من السنين لأسباب سياسيّة او ايديولوجيّة او حزبية سلطوية او جراء سياسات قمعية ، واليوم اجد العراقيين وقد انتقلوا الى ان يعيشوا شقاء الوعي بأنفسهم ، من اجل الدفاع السخيف عن انتماءات دينية او مذهبية او عرقية او جهوية او حتى عشائرية بمعزل عن الروح العراقية الوطنية والانسانية ، والابتعاد كثيرا عن منطق العصر ، والتخلّي عن مهام الاستنارة التي تستوجب القطيعة مع بقايا التاريخ وآثامه ومشكلاته وتقاليده البالية !
المشكلة تتفاقم مع تقدّم الزمن
ان المشكلة تتفاقم اليوم إلى الوراء مع تقدّم الزمن، فالمستنيرون العراقيون الحقيقيون يتقدّمون معه وهم يتناقصون يوما بعد آخر ، ولكن كثرة من المزيفّين والطفيليين والمتوّحشين يتقادمون ضدّه بسبب ما يحققّونه من اشباع ساديتهم والرضى المقنع بالزيف سواء في واقع يزدحم بالتناقضات المذهلة ونيل كل طرف من الطرف الاخر ، او سواء باستخدام الجميع تكنولوجيا الإعلام والفضائيات والانترنيت وشعورهم بالارتياح في اضطهاد وايذاء من يخالفهم والحطّ من سمعته ومكانته .. ويعتقد البعض أن هذه الوضعيّة المقرفة تمثّل الديمقراطية الحقيقية، وكأن هذه الأخيرة قد وجدت لتمزيق المجتمعات لا لإيجاد السبل الناجحة لتطور الحياة من خلال المجادلة والحوار بالتي هي احسن . إن العراقيين اليوم يعيشون مأساة حقيقية، فالمجتمع يحمل انقساماته التي كانت مخفية وعميقة منذ زمن بعيد، ولم يكن منسجما في أي يوم من الأيام، ولكن لم تتوفر الفرصة له من قبل أن يعّبر عن مكنوناته ويشيح الأغلفة عن انقساماته ورؤاه..
اليوم، أنفضح كل شيء، ولكن بدل أن يحاور البعض الآخر، راح يقتل بعضه بعضا، أو يرفض بعضه بعضا.. واخذ يستعين بالآخر لتصفيّة حساباته مع ابناء وطنه ! وراح يضطهد ، وراح يثأر ، وراح يمارس كل التعابير اللاأخلاقية .. وتحوّل العراق من معتقل كبير للرأي الى مسلخ بشع من الشتائم المقذعة .. ان المستنيرين في المجتمع يجدون انفسهم في مواجهة لا معنى حضاري لها مع حالة شقاء واسع النطاق . إن المثقفين الذين يعّبرون عن وطنيتهم وإنسانيتهم وسمو عقلانيتهم واخلاقياتهم من العراقيين، بعيدا عن اية انقسامات أو نزوعات في شتى الأرجاء، يضطهدون اليوم إن سلموا على حياتهم وعلى سمعتهم وعلى مستقبلهم ، ولقد دفعت الصحافة العراقية ثمنا كبيرا من قافلة شهداء لم يكن ذنبهم إلا كلمتهم الحرة المذاعة أو المقروءة! ولقد خسر العراق عددا كبيرا من المثقفين والفنانين والمبدعين الاحرار ..
قمع الكلمة في زمن الفوضى الخلاقة
السؤال : لماذا يكون الشقاء؟ ولماذا تشنّ الحملات؟ ولماذا يقمع الرأي في العراق؟ لم يعد الامر مقتصرا على الرعب من دكتاتور واحد يخشى الجميع من سطوته واضطهاده ، او من رقابته الامنيّة، ولكن اليوم غدا كل من هبّ ودبّ دكتاتورا من مكانه، يمارس اشنع الممارسات ضد الاخرين، ممّن لا يتلاقون ليس معه فقط ، بل حتى مع الجو العام ، جراء ما يحمله من امراض واوبئة .. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يلتقي أي مثقف مستنير وملتزم حقيقي بآخرين من دعاة الكتابة والثقافة من المنافقين والمتهتكين والمتزمتيّن والمتعصبين والمتطرفين والتمييزيين والطفيليين والطائفيين الذين لا يؤمنون جميعا بالديمقراطية أساسا.. ولم يلتق أي مثقف مستنير حقيقي مع أدعياء الكلمة ومع المهرجين والراقصين السياسيين الذين وجدوا الساحة مفتوحة لهم وحدهم.. الخ
إن ما توفّر من أجواء مساعدة، وما ورثه كل العراقيين منذ عقود طوال من السنين على سياسات المنع والعقوبة والرقابة الأمنية على الكلمة الحرة، وما زرعته الفردية ، والعسكريتاريا ، والدكتاتورية ، والأحادية بكل الممانعات والمحرمات.. وما مورس من اضطهاد ليس للرأي وحده ، بل حتى للوعي ، ومن ثمّ ما طبقّه الأمريكان في العراق من سياسات بثّ الفوضى الخلاقة بتجزئة المجتمع إلى ما اسموه بـ ” المكونات الثلاثة ” ( = السنة والشيعة والاكراد ) وقتل ما تبقّى من الروح الوطنية واحتقار من اسموهم بـ ” الاقليات ” .. وما نصّ عليه دستور البلاد من بنود انقسامية وتمييزيّة وخلافيّة ، وما أذيع ونشر من خطابات الأحزاب الدينية والطائفية في العراق، وما أحدثته الإعلاميات اليومية من هياجات واختراقات في الصميم .. الخ كلها دفعت بالعراقيين، وخصوصا المثقفين إلى التشظّي والصراع في الداخل والخارج معا . وكما انقسم المجتمع جراء السياسات الانقسامية على أسس طائفيّة وعرقيّة وجهويّة معلنة من دون أي حياء وبدون ايّة مثل اخلاقيّة ، فان الضرورة من شقاء الوعي ، تقضي بانقسام المثقفين والقوى الفاعلة ، وستكون انقساماتهم حادة جدا هذه المرة..
لقد انحدرت العلاقات الثقافية إلى حيث الإسفاف في بعض الأحيان، والى حيث فراغ ما تبقّى من قيم رائعة في أحيان أخرى. ولم يقتصر الأمر على مثقّفين دون آخرين، فبعضهم هرب إلى انتماء طائفي واضح المعالم أو خفي الجنبات.. ولم يتبق إلا فئة قليلة ونادرة الوجود من أقوى الصامدين الذين لا يعترفون بأيّة انتماءات جهويّة أو طائفيّة أو عرقيّة او مكوناتيّة إزاء ما يحدث من غلو وكوارث وتمزقات على أيدي الساسة المتخندقين والملالي المتصارعين.. ولم يخرج أيّا من الأحرار بنتيجة إن أراد تصويب الأمور، أو الردّ على المنقسمين والمنافقين، فهم أقوى منهم لأنهم يجدون المساندة من قوى سياسية حاكمة، أو من أحزاب طائفيّة ماكرة، أو من نظام حكم يؤمن نفسه بانقسامات العراقيين، ويعمل على هذا الأساس.
الصراع ضد اشباح وغلاة وطفيليين
حدثّني احد المبدعين العراقيين بأنّ من أصعب المشكلات التي يعانيها الاحرار من المثقّفين العراقيين عندما يجد المثقّف نفسه مهمّشا بجريرة دينه او طائفته او مدينته من أناس لا يجدهم أمامه.. انه يحارب أشباحا ظلاميين يريدون الانقضاض عليه للفتك به.. وان وجد غيرهم، فانه يحارب حتّى يفتك بخصمه، ولكن لا يجد من يقف معه انه وحده في الميدان يصارع كل قوى الظلام! وطبعا الآن أدركت لماذا يسكت الآخرون؟ ولماذا يلزموا الصمت حيال ما يعيشونه من شقاء للوعي؟ إنهم يدركون حقا بأن الثمن الذي سيدفعونه هو اكبر بكثير من هؤلاء جميعا! أي انه بالمحصلة اكبر بكثير من هؤلاء الفارغين والذين يركض وراءهم كل المغالين والمتطرّفين والمتعصّبين الذين لا يرون غيرهم ولا يعترفون بهم على وجه العراق.. وكأن العراق لم يكن مأوى للملايين من الراحلين والقادمين.. للنازحين عنه والمنجذبين إليه!
إن شقاء المثقّفين العراقيين الأحرار قد وصل إلى خنق الوعي، بحيث لا يكتفي الغلاة والأدعياء وهم غابة متشابكة من الطفيليين بكل أكاذيبهم التي يمرّروها على الناس، بل يصّرون على أخطائهم ويقومون بترويج تلك الأخطاء! إنهم لا يقبلون التعايش تحت سقف المنطق الحضاري ، بل يريدونه كوة زنابير لهم وحدهم فقط، وكأن غيرهم من العراقيين مزبلة أو جيفة ينبغي رميها وراء الحدود! إن أصعب ما يمارس من اضطهاد هو ذاك الذي يمسّ عصب الوعي.. إنهم لا يكتفون باضطهاد الإنسان أو حتى قتله والتشفّي فيه، بل التشكيك بعراقيته من خلال أصله وفصله، إذ جعلوا أنفسهم أوصياء على الناس وهم بلا معرفة ، وبلا ثقافة ، وبلا أخلاق في مجتمع عاش تاريخه كله وهو يجذب الناس ويستقطبها إليه، أو يطردها ويبعدها عنه .. إنهم لا يعرفون أن الأمم بأخلاقها تبقى، فان اضمحلت أخلاقها، انحطّت حياتها.. وانهارت بكل تعاساتها وذهبت مع الذاهبين! إن من ضرورات مستقبلنا الوقوف ضدّ هذه الفوضى الخلاقّة التي تعمل اليوم على سحق منظومة القيم العراقية التي يتحلّى بها من تبقّى من مثقفين عراقيين مستنيرين احرار من كل اطياف هذا المجتمع العجيب .. وقد نجحت حتى يومنا هذا في مهامها الخطيرة.
نشرت في ملحق الف ياء ، الزمان اللندنية ، 21 مايس / آيار 2013 ..
http://www.azzaman.net/azzaman/ftp/today/p9.pdf
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
كما يتم نشرها على صفحة د. سيار الجميل ( الفيسبوك ) .
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …