عندما جرت الانقلابات العسكرية العربية إثر الحرب العالمية الثانية، استقبلها العرب استقبالا جماعيا، بعد أن سماها ضباطها الأحرار بـ”الثورات”، والتي أنتجت تحولات سلبية وإيجابية من مكان إلى آخر في البني الفكرية والسياسية العربية لخمسين سنة مضت، بل وكانت الملايين العربية تخرج عن بكرة أبيها كي تغرق الشوارع العربية وتبح حناجرها بالشعارات الوطنية والثورية، القومية والتقدمية، التي لم يتحقق منها شيء أبدا.. ولم يكن للإسلاميين عهد ذاك أي دور يذكر على مستوى الفعل الثوري أو الجماهيري، بل كانت التقدمية قد انحصرت باليساريين والديمقراطيين والتقدميين، وكانت “الوطنية” أسمى مبدأ يؤمن به الملايين.. اليوم، اختلفت الصورة تماما، فالقوى السياسية التي كانت بالأمس ضعفت كثيرا جراء هشاشة ايديولوجياتها، واستقوت القوى الدينية والطائفية التي غدت اليوم أقوى بكثير، سواء بتنظيماتها أو بعلاقاتها أو بأموالها أو بفرض أجندتها العاطفية والسايكلوجية على الناس.
إن سر انقسام الرأي العام العربي إزاء الثورات العربية اليوم، يكمن في حالة الانشداد القصوى لشد الحبل بين بقايا جيل مضى من الوطنيين المتمدنين والليبراليين واليساريين والقوميين والتقدميين والمصفقين لحكم العسكريين، وبين جيل لاحق يتألف من الإخوانيين والجهاديين والسلفيين والأصوليين والطائفيين والتوفيقيين التلفيقيين لحكم الإسلاميين..وبين الاثنين، نخب لا تقوى على الحياة، تؤمن بأوطانها وتعمل من أجل الحرية والديمقراطية، وكل من هذين المفهومين كانا قد استلبا في الماضي والحاضر.. استلبهما جيل الانقلابات العسكرية، لا للعمل بهما، بل لرفعهما مجرد شعارات، اذ قام العسكريون بسحق إرادة الناس من خلالهما، واستلبهما اليوم جيل التحزبات الدينية والتشظيات الطائفية والتحالفات القبلية، لاستخدامهما مطية من أجل الوصول إلى السلطة وفرض الإرادة بقوة العواطف. وعليه، فإن كلا الطرفين لم يؤمنا أبدا بالحريات والديمقراطية. فهل تصح انتخابات تشريعية أو غيرها يشترك فيها من لا يؤمن أصلا بالديمقراطية؟ أو بالحريات السياسية؟ أو بالمدنية والتقدمية؟ لقد كانت شرارات الاحداث بمثابة مفاجئات قوية ، استمرت بالتلاقح يوما بعد يوم حتى تحقيق الاهداف التي نادت بها ، كما انها تواصلت ليس زمانيا حسب ، بل تلاقحت مكانيا من بلد عربي الى آخر على الرغم من تباين الاهداف الخاصة بكل بلد عربي ، مع تبلور عوامل جديدة ساعدت كثيرا في رسم ملامح كل حدث من الاحداث.
قامت الثورات العربية أصلا ضد أنظمة سياسية عاتية، تعد بقايا أنظمة سياسية عسكرية اتخذت لها منذ بواكيرها صفة الدكتاتورية والاستبداد. ولكنها كانت من دون أية ركائز فكرية وايديولوجية كان قد سعى إليها مفكرون عرب أو رجال قانون، ولا حتى إصلاحيون حقيقيون.اليوم، عالمنا العربي منقسم على نفسه انقساما حادا، بين مؤيد للثورات وبين معارض لها، ولكل فريق أسبابه وموجباته، ولكنهما بعيدان كل البعد عن الواقع أولا، وكل طرف غير واع لتبدلات التاريخ ثانيا. ولقد وجدنا أنه ليست هناك أية لغة مشتركة اليوم تجمع كل المواقف من أجل مصالح وطنية، بل تغلب عليها كلها المنطلقات السياسية والعواطف الساخنة.. وهذا ما يعّرض الرأي العام إلى التشظي والتبدد، خصوصا إذا علمنا أن مجتمعاتنا تسبح في لجج خطيرة من التناقضات الخطيرة.
إن اختلاف جيلين حول تقويم ما يجري على الأرض، يجعلنا نعيد النظر في الحالات الصعبة التي تمر بها الثورات العربية اليوم، والتي سيكون مصيرها مهددا وسط هذا الانقسام. وهو انقسام شرس جدا، لم يصب القيادات فقط، بل إنه يلاحق كل المواطنين، مما يفقدهم إجماعهم التاريخي لبناء المستقبل المنظور. المهم، أن العقل العربي معطل تماما منذ عقود طوال من السنين، وما كان يؤمن به ويعتقده الجيل السابق من أن الانقلابات العسكرية ستقلب الواقع رأسا على عقب، وستعمل، كما صدقوا مخيالهم الجمعي، على نقلة نوعية من التخلف إلى التقدم بين عشية وضحاها..لا يختلف كثيرا عن تفكير وتصورات الجيل الحالي اليوم، الذي يعتقد اعتقادا راسخا بأن الحياة بعد الثورات العربية ستنقل الواقع المأساوي إلى جنات عدن في لحظة تاريخية واحدة، وأن الديمقراطية والعدالة ستعمان مجتمعاتنا كلها في طرفة عين!
إن أعظم خطيئة ارتكبها الحكام والمسؤولون العرب، هي إبقاء الشعوب ليست فاقدة لحرياتها السياسية فحسب، بل إبقائها متخلفة ومن دون أي وعي أو إدراك أو فهم يجعل باستطاعة المرء أن يقدّر الأمور حق قدرها، وغياب المنطق عنه جعله عرضة للتقلبات العاطفية والمزاجية بعيدا عن العقل. إجمالا، علينا أن ندرك أن لا حلول جوهرية إلا بالتخلص من التناقضات، فإذا كانت تناقضات ماضينا انقسامية جراء صراعات سياسية وايديولوجية، فإن تناقضاتنا اليوم أخطر بكثير من تناقضات الأمس جراء صراعات اجتماعية ودينية ومذهبية وطائفية وعرقية وجهوية وقبلية.. مطلوب رعاية الجيل الجديد وتخليصه ما أمكن من تشظيات هذا الواقع المرير، ومخلفات ما زرعه جيل الأمس، كي تعبّر الثورات العربية عن جوهرها الحقيقي، والذي لا يمكن أن يسطع إلا بالتغيير الحقيقي، من دون أية ترقيعات أو رواسب، ولا أية بقايا أو مخلفات ازبدها هوج العهود السابقة.. وستختفي التباينات المقيتة بعد تصفية كل ما حفلت به حياتنا من التناقضات المريرة.
نشرت في البيان الاماراتية يوم 20 آذار / مارس 2012 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
sayyarjamil1@hotmail.com
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …