الرئيسية / الرئيسية / رموز وأشباح الحلقة 38  :  الدور التاريخي لقصر سرسنك الملكي محادثات سرسنك بين مصر عبد الناصر وعراق نوري السعيد

رموز وأشباح الحلقة 38  :  الدور التاريخي لقصر سرسنك الملكي محادثات سرسنك بين مصر عبد الناصر وعراق نوري السعيد

رموز وأشباح

الحلقة 38  : محادثات قصر سرسنك بين مصر والعراق

نوري السعيد وجمال عبد الناصر

أ.د. سيّار الجميل

هذه ” المحادثات ” اشتهرت باسم قصر سرسنك الملكي بين الوفد المصري برئاسة الصاغ صلاح سالم الموفد من قبل جمال عبد الناصر وترأس الجانب العراقي نوري السعيد وطاقمه البسيط ، اذ حرص ان تحوّل مصر  مباركتها لمشروعه الى الانضمام اليه، والمشروع تضمنّه وترجمه ميثاق  بغداد (الذي اطلق عليه اعلاميا بحلف  بغداد عام 1955 ) ، وقد  نال حتى يومنا هذا هجوما كاسحا ،وتجذّر  في الذاكرة العربية انه حلف استعماري  عدواني ضد الامة العربية ، ولم أجد حتى يومنا هذا أية دراسة نقدية موضوعية غير منحازة تبحث في  هذا ” المشروع “الذي يعدّ الأهم  في تلك المرحلة  ، والذي  لحقت به  تداعيات تاريخية لا حصر لها .

ألاولويات التاريخية

قدّم نوري السعيد في منهاج وزارته الجديدة يوم  4 آب /أغسطس 1954 ، وكان يتابع باهتمام الاتفاقية التركية الباكستانية التي عقدت يوم 2 نيسان /أبريل 1954، فضلا عن دوره في الاتفاق التمهيدي الذي عقد بين بريطانيا ومصر في ما يتعلق بقاعدة قناة السويس بتاريخ 27 تموز /يوليو 1954. كما كان يتطّلع لاستبدال المعاهدة البريطانية العراقية القديمة لعام 1930 واهتم نوري السعيد في وزارته الثالثة عشرة بالامن الاقليمي، وأن جزءاً كبيراً من تفكيره كان منصباً حول طبيعة علاقات العراق مع جاراته ومع الغرب في ظل احتدام الحرب الباردة وقت ذاك.  وبعد تسلّمه الحكم ببضعة أيام أعلنت وزارة الخارجية بأن الصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد القومي المصري سيصل بغداد يوم 13 آب / أغسطس 1954 بزيارة لمدة 5 أيام. وبمعيته وفد يتألف من عشرين شخصاً، وكان الملك فيصل الثاني وولي العهد الأمير عبد الإله في بيتهما الصيفي في “سرسنك” القصبة السياحية في شمال العراق. وكان قد تم التوقيع على المعاهدة البريطانية المصرية في ما يتعلق بالسويس يوم 27 تموز /يوليو ، وهذا ما دفع مصر بحث العلاقات العربية. ويبدو ان نوري قد طرح  مشروعه على القادة المصريين ، وتلقّى اجابة  ايجابية كونهم وقعوا اتفاقية مع البريطانيين لحماية السويس، واعلنت الخارجية العراقية بأن نوري سيجد هذه المناسبة ملائمة لطرح رؤيته السياسية للعراق بوضوح على المصريين.

  بوادر الميثاق الدفاعي للشرق الأوسط:

كان اتفاق تركيا وباكستان في مطلع شباط / فبراير 1954 هو البداية ولحقت بهما ايران . وعليه،فقد فكر نوري بتشكيل ميثاق دفاعي أوسع نطاقاً يضم البلاد الآسيوية والعربية سواء، بشرط استناده الى المادة (51) من ميثاق الامم المتحدة.ومتضمناً الشروط التالية:

(1) أن تكون الدول المنتسبة اليه على قدم المساواة.

(2) أن تنتظم العلاقات الودية بينها في المجالات السياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية على حدٍ سواء…

(3) أن تتخذ إجراءات جماعية للقضاء على الاعتداءات ومناورات الحرب الباردة في المنطقة.

(4) العمل المشترك في سبيل تأمين الرخاء والاستقرار في أرجائها- فالحكمة تقضي بتوثيق مجالات حسن التفاهم بين أمم وفئات أثبتت منذ قديم الزمن استعدادها الفطري للتنافس والتناحر… كما أن التضامن لحمايتها من المشاكل الطائفية والمذهبية والعنصرية هو امر حيوي واجب إنساني محتم يعتمد على التعاون باخلاص بين الأطراف جميعاً.

وفي يوم 24 فبراير / شباط 1955، وقع العراق وتركيا اتفاقا عسكريا بينهما وبدأ يستخدم مصطلح “ميثاق بغداد”. ( ويصر فاضل الجمالي على تسميته بالميثاق وليس  بالحلف  )  وتنضم كل من إيران وباكستان، والمملكة المتحدة اليه .وتلغى المعاهدة الثنائية بين العراق وبريطانيا لعام 1930 ، وكان نوري السعيد يعتقد بأنه لا يمكن لمثل هذه الكتلة أن تنجح الا اذا كانت قوية أو تعتمد على مساندة أمم قوية دون شروط أو قيود… لتبقى حصناً مستقلاً صامداً ينعم بالحياد الإيجابي ، ويحفظ سلامة البلاد المنتسبة اليه فقط. كما  كتب  ذلك السفير الاميركي في العراق فالديمار غالمان في كتابه عن “عراق نوري السعيد “. وكان نوري يتمنى أيضاً أن تنتسب مصر الى الميثاق الجديد للحصول على الجلاء التام عن قناة السويس دون قيد. أما ابرام هذا الميثاق الدفاعي الجديد فخيره في شل أية حركة اعتداء تصدر من اسرائيل.. فقاعدة الميثاق مثبتة على البند (51) من ميثاق الأمم المتحدة ، وهو يفرض التضامن الكامل بين اعضاء الميثاق في حالات الاعتداءات الخارجية.

فما قصة ما جرى يا ترى ؟

زار نوري السعيد القاهرة رسميا، فاستقبله بحفاوة يوم 24 ايلول /سبتمبر 1954،وفي مباحثاته مع عبد الناصر ، وتوضيحه  على  الخرائط  التي  فرشها  على  الارض  وراح  يوضح  له  طبيعة العراق  الجغرافية  الاقليمية الصعبة ، وان أمنه  هو  استقرار للعرب جميعا  ، وان حاجته ماسة  لتشكيل  وثاق  اقليمي  وعربي ضد اسرائيل اولا وحزاما  يحمي  المنطقة من الشيوعية ثانيا، ذلك أن قرب العراق من حدود الاتحاد السوفياتي فبدا عبد الناصر موافقاً على إجراءات العراق حول تدابير أمنه المتبادل، ولو خارج النطاق العربي إذا اقتضت الضرورة،ليشمل تركيا وإيران وبريطانيا والولايات المتحدة. وظن نوري بأن عبد الناصر سيسنده، بعد أن وافقه على كل طروحاته واعتقد نوري أيضا بعقليته السياسية موافقة عبد الناصر ، ولكن اتضح في النهاية انعدام اي توافق في الرأي حتى على هذا الأساس. أما محادثات نوري مع مندريس فقد اتجهت اتجاهاً أفضل .

ما قصة محادثات سرسنك ؟ وما قصة صلاح سالم ؟

الصاغ صلاح مصطفى سالم (1920 – 1962)، ضابط مصري، عضو لجنة الضباط الأحرار، وعُرف بشدته وحزمه واندفاعه. تولى وزارة الإرشاد القومي 1953 – 1958. ومناصب اخرى واختلف مع عبد الناصر لأكثر من مرة .  توفي عن عمر 41 عاما بمرض السرطان.

كانت احدى صالات قصر سرسنك قد شهدت عام 1954 محادثات سياسية مكثفة مع الوفد المصري الذي ارسله الرئيس عبد الناصر، وقد جرت حوارات حادة، ونقاشات جادة في تلك الصالة بين السيد نوري باشا السعيد وبين الصاغ صلاح سالم، وقد اشتهرت بمحادثات سرسنك. حكي لي الاستاذ عبد المجيد فريد (الأمين العام الأسبق لرئاسة الجمهورية في مصر ) والذي التقيته في لندن عام 1980 ( بدلالة من الاستاذ هاني الهندي ) واهداني نسخة من كتابه ” من محاضر اجتماعات عبد الناصر العربية والدولية 1967- 1970 ”  والذي  نشرته مؤسسة الابحاث العربية ببيروت ، وبعد انتقادي مقالاته في جريدة الشرق الاوسط التي كانت قد صدرت حديثا في لندن، قال : حدثني الصاغ صلاح سالم وقد كتب ذلك في مذكراته، انه وصل بغداد مبعوثا من عبد الناصر الى نوري السعيد ، فقالوا له : سنأخذك اليه بالطائرة ، فهو في سرسنك يصطاف هناك بمعية جلالة الملك فيصل وخاله ، فاخذوني في طائرة حطّت بنا في قاعدة بامرني الجوية ،ونقلوني بسيارة الى قصر  سرسنك الملكي ، نزلت وقد خشيت من حراس كرد غلاظ شواربهم كثة وخناجرهم في احزمتهم الملونة ، ودخلت القصر  الصغير ، على الساعة السادسة والنصف مساء، وكان الملك يشرب الشاي بالحليب مع خاله والباشا منشغل بقراءة احدى الصحف ، فتوّجهت الى الباشا ، فقام من محله منزعجا، وقد رمقني بنظرة غاضبة قائلا : ينبغي ان تذهب الى جلالة الملك لتسلّم عليه أولا يا حضرة الصاغ ، تلعثمت وذهبت معتذرا حيث حياني الملك الشاب تحية رائعة، ثم دلفت على سمو الامير فسّلمت عليه .. قال نوري سنبدأ محادثتنا غدا اذ ستأخذ راحتك اليوم ، ولكن قبل ان نأخذ وجبة العشاء تعال معي ، فتبعت الباشا ، فاذا به يمشي متوجها الى جبل امامنا، فبدأ يصعد وهو يمشي وبيده الباستون ( = العصا ).. تعبت من الصعود حتى وصل قبلي الى ذروة عالية فقال معلقا : أتعبت يا صاغ من جبالنا، خذ انفاسك وانظر وانقل هذا المشهد لحضرة البكباشي جمال: هناك وراء هذي الجبال حدود تركيا معنا، وهي عصية جدا، وانظر الى الشرق بعد هذي الجبال الصعبة، ستجد ايران بحدودها الطويلة جدا معنا ، وهؤلاء الحرس وقد تملكك الخوف منهم هم الكرد ، وكل هؤلاء جميعا لا يوجد عندكم مثلهم وهم الاقرب الينا منكم، فالعراق ملزم ان يكون له ميثاق معهم سميناه بميثاق بغداد . يقول صلاح سالم : تملكتني الدهشة واقنعني الرجل بموقفه، ولما عدت لاحكي ذلك الى عبد الناصر قاطعني صارخا بوجهي ورفض ما قاله نوري السعيد وأخذ يشتمه اقذع الشتائم .

طبيعة المباحثات العراقية المصرية

اتسمت المباحثات “بالصراحة” و”الروح الأخوية”، وتم التوصل إلى “التعاون العربي” وأوضاع العرب في “القضايا الدولية”. ولم يتطرق أحد إلى تفاصيل أكثر من هذا، كما أن صلاح سالم في مؤتمره الصحفي الذي عقده بعد صدور البيان المشترك لم يوضح أكثر من ذلك. فقد سأله الصحفيون عن نوع المباحثات التي جرى البحث فيها مع نوري فاعتذر عن الإجابة، بحجة إجراء مباحثات أخرى مع زعماء عرب آخرين، ولكن خلاصة المباحثات كما أوضحتها وزارة الخارجية كشفت بأن المصريين يناوئون الاتفاقية التركية الباكستانية الإيرانية، أو أية اتفاقيات مشتركة تستند على الباكستان كأساس.  كونها ليس لها ما يربطها بالعرب عسكرياً أو جغرافياً. وسأل المصريون نوري إذا كان لديه اقتراح آخر حول الموضوع، اقترح اعتماد ميثاق الضمان الجماعي العربي على أساس المادة 51 من ميثاق هيئة الأمم، فيستعمل هذا الميثاق كقاعدة لميثاق دفاعي تكون العضوية فيه مفتوحة للدول غير العربية: كتركيا، وإيران، والباكستان، وبريطانيا، والولايات المتحدة. وذكر نوري بأن المصريين رحبوا بهذا الاقتراح من دون اي ذكر  للاستعمار  واعوان الاستعمار .

ما الذي  كشفه  نوري السعيد ؟

كشف نوري السعيد مجريات ما حدث  مع مصر  لما سبق محادثات سرسنك وما تلاها  في خطابه الذي القاه في مجلس النواب يوم 6 شباط /فبراير 1955 ، وكان عبد الناصر يشن حملات شعواء ضد العراق سواء في خطبه ام في اذاعته صوت العرب، فما كان من نوري  الا  الكشف عن خفايا ما جرى مستعرضا الرسائل المتبادلة التي سبقت إعلان ميثاق بغداد واوضح أن الاتفاق قد تم على النقاط التالية

1 – يفكر كلا الفريقين في تقوية ميثاق الضمان الجماعي.

2 – يتعاون الفريقان في مكافحة المبادئ الهدامة، وأن على مصر أن تقوم بإرسال بعثة إلى بغداد لتبادل المعلومات مع الخبراء العراقيين حول الموضوع.

3 – وكذلك تم الاتفاق على التفكير بإعادة تنظيم السكرتارية العامة للجامعة العربية.

4 – وأن يتبادل رئيسا أركان الجيش في البلدين الزيارات.

5 – وبقصد رفع مستوى المعيشة يجري تبادل المعلومات في الشؤون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

وقد اتضح لنوري وللمراقبين في العالم  عند عودة صلاح سالم للقاهرة بأن ناصر قد تخلّى عن  اتفاقاته ، وتنّصل عن مواقفه الاولى . ويعزو احد المراقبين السبب  الى ان عبد الناصر  كان يريد ان يكون هو  على رأس المشروع لا نوري ، اي  باختصار اراد ان تكون القاهرة محورا للحلف  بدل  بغداد !  في حين تذكر  عصمت السعيد ان جمال عبد الناصر  وجد ان الولايات المتحدة بدأت تزود العراق بمئات المدافع والاسلحة المتطورة دون مصر ، فقلب ظهر المجن على العراق .

كتاب سري من نوري السعيد الى عبد الناصر:

ويتحتم علينا في هذا المقام الإشارة الى الخطاب الذي أرسلهُ نوري السعيد الى جمال عبد الناصر بيد صلاح سالم على اثر انفضاض اجتماع سرسنك في العراق عندما شعر بأن الرئيس المصري قد تنصل من الانضمام لميثاق بغداد، وأنه يصر على إحياء معاهدة (التضامن العربي) فقط لصد هجوم اسرائيل. كان العراق يخشى بأن الجبهتين الروسية والإسرائيلية على حدٍ سواء عندما فكر في انشاء ميثاق بغداد، وكان يعلم الى جانب ذلك أن إمكانات العرب العسكرية محدودة ، فأراد أن يطمئن على قوة الدفاع الذي تستطيع مصر أن تقدمهُ وقت الحاجة كما أظهر استعدادهُ لتجميد ميثاق بغداد إذا تأكد من ذلك.. وفيما يلي ما كان يتضمنه الكتاب الذي حمله صلاح سالم الى مصر: قال أن العراق على استعداد لأن يعلن تجميد عضويته في حلف بغداد اذا تقدمت القاهرة بمشروع معاهدة عسكرية جديدة قادرة على أن تضمن للعرب من القوة والأسلحة والجنود المدربين ما يمكنهم من التصدي للأخطار الصهيونية والشيوعية على حدٍ سواء. وأن تكون هذه المعاهدة جادة في أن يحمل العرب مسؤوليتهم على الصعيد العسكري بحيث تتوحد القيادات والتدريب على كافة المستويات. لقد ظنّ صلاح سالم عند تسلم هذا الكتاب بأنه نجح في مهمته نجاحاً ملموساً وأعلن عن تفاؤله نتيجة اجتماع سرسنك… ولكن يبدو أن الرئيس لم يوافق أبدا على تصريحاته العلنية في هذا الشأن ، فكان أن أوقف في المطار كما تم التحقيق معه حول التصريحات التي أدلى بها أثناء محادثات سرسنك، فانتشر  خبر وجود انقسام في القيادة. لقد شحنت المنطقة بجمر حرب باردة ضد العراق بقيت مستعرة حتى سقوط النظام الملكي  برمته عام 1958 ، ومن ثم  عاودت  بعد 5 اشهر  عصفها الشديد  ضد عبد الكريم قاسم والتي يجدها العقلاء اليوم حربا باردة لا لزوم لها ابدا .

انتظروا  الحلقة القادمة  عن  قصر  سرسنك في 14  تموز / يوليو 1958  وحتى اليوم

تنشر  في يوم 28 مايو /  ايار 2020  ، ولاحقا  على  الموقع الرسمي  للدكتور سيار الجميل

https://sayyaraljamil.com/wp/

الصور المرفقة
صورة قصر سرسنك
صورة الرئيس عبد الناصر يستقبل نوري السعيد في مطار القاهرة 1954 وبينهما الصاغ صلاح سالم ويقف وراء جمال عبد الناصر سفير العراق لدى مصر آنذاك الاستاذ نجيب الراوي .
صورة من حفل عشاء الملك فيصل الثاني للصاغ صلاح سالم ووفده في قصر سرسنك ويظهر في الصورة فيصل ونوري السعيد وبينهما صلاح سالم .

شاهد أيضاً

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …