الرئيسية / قراءات اخترتها لكم / حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال

حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال

أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات التي يمارسها السياسي على المثقف حتى لا يؤدي دوره في المجتمع. ولم يختلف تناول المعاصرين لقضية علاقة المثقف بالسلطة عمن سبقهم إذ ظلت العلاقة بين السلطة السياسية بمفهومها التنفيذي والإجرائي، والسلطة المعرفية التي يمثلها المثقف علاقة توتّر مستمر إن لم نقل صراع. فالمثقف كان ومازال موضوعا للسلطة وفشل في أن يكون مصدرا لها.
بيد أنّ الموضوع الذي لم يشغل بال القدماء ولم يتوسّع في معالجته المعاصرون(على حدّ علمنا) صلة المثقف بصاحب الثروة. فكيف تتبدى هذه العلاقة؟
قوّة المال
يرمز المال إلى السلطة فهو أداة هيمنة بيد صاحبه يوظّفه لتحقيق أغراض ومصالح متعددة. قال ابن المقفع، في هذا الشأن :” ما التبع والأعوان والصديق والحشم إلاّ بالمال . ولا يظهر المروءة إلا المال. ولا الرأي والقوة إلا بالمال… ومن لا مال له فلا شيء له. “(ابن المقفع الأدب الصغير بيروت مكتبة البيان 1970 ص77) ولذلك سعى السياسي إلى تكديس الأموال رغبة في الهيمنة على الآخرين وعملا على إدامة متعته. فالمال بما له من قوة تأثير اجتماعية، يتخذ دلالة القوة القضيبية والامتلاء على المستوى اللاواعي. ويثير امتلاء الجيب مشاعر الكبرياء الطفولي الذي يذكّر بحاجة الوليد إلى امتلاك ثدي أمه المعطاء. بيد أنّ التلهف على جمع الأموال ليس إلاّ علامة على سيطرة مشاعر الخوف على السياسي تلك التي تجعله يسعى إلى تحصين الذات من الألم: ألم الجوع والفقر والخواء.

ولئن وظّف السياسي الأموال لخدمة مصلحته الشخصية وضمان ولاء الأتباع فإنّ أبرز قادة التيارات الإسلامية عملوا بدورهم على تجميع الأموال وتوظيفها لصالح “أسلمة” المجتمع” الضال”. فكان الحجاب في مقابل الرغيف والدواء وغيرها من الحاجات الأساسية. وكان الإعلان عن الاستعداد التام لتنفيذ كلّ وصايا القادة الدينيين وأوامرهم يضمن لصاحبه المسكن، والمأكل والدواء… ففي ظلّ تقاعس الدولة عن الاضطلاع بمسؤولياتها الأساسية تجاه المواطن يظهر البديل: جماعة الإخوان الذين يمثلون الملاذ والمنقذ من الأزمات، وما أكثرها. ولكن ألا يعدّ توظيف المال لخدمة أيديولوجيا الإسلام السياسي علامة على استغلال المقهورين وشيوع الرياء الديني؟

لم يختلف موقف المثقفين من المال عن سواهم إذ سعى فريق منهم إلى طلب الدنيا بالعلم والوقوف على أبواب أهل المال والسلطان طمعا في تحقيق المكاسب. ورغم أنّ خطاب أغلبهم، يؤكد على أنّ العلم مقدّم على المال فإنّ المتأمل في الواقع المعيش يكتشف أنّ علاقة العلم بالمال علاقة عضوية تعبّر عن علاقة الفرع بالأصل.”فالمال يغاث به العالم وبه تقوم النفوس قبل أن تعرف فضيلة العلم وأن الأصل أحق بالتفضيل من الفرع.”(الجاحظ البخلاء القاهرة دار المعارف ص14)
صاحب الثروة يدخل اليوم معترك الثقافة. فهو يمنح، يرصد، يخصّص نصيبا من أمواله لتنمية المشاريع الثقافية ولتلميع صورته. فعبارات الثناء والمدح تغذّي نرجسية الثري وتشعره بأنّه قادر بما له من أموال على تعويض النقص لديه وسدّ الثغرات وإسدال الستار على العورات…

وسواء كان الدافع إلى التقرّب من أصحاب الأموال انسداد الآفاق وحاجة المثقّف إلى تحقيق أهداف ليست بالضرورة فردية بل قد تكون لخدمة الصالح العام فإنّ مصير العلاقة بين الطرفين غير معلوم. فكم من مشروع ثقافي لم ينجز نتيجة تراجع صاحب الأموال أو تماطله وكم من مثقف اضطر إلى تقديم التنازلات إرضاء لصاحب المال.
لا مراء أنّ سلطة صاحب الأموال مقترنة بالعنف اللفظي والرمزي. فكم من مثقف اهين وكم من مثقف تراجع عن مبادئه وكم من مثقف شعر بالغبن والقهر فسكت ولم يتجرّأ على الاعتراض…
المشهد الثقافي اليوم يُبين عن علاقات تصدّع وعن ممارسات متعددة تفضح منافسة بين أصحاب القلم وأصحاب المال، وتشير إلى هيمنة بعض رجال الأعمال على زمرة من ‘المثقفين’ ومتاجرتهم بقضايا الشعوب. فلا عجب أن سحب البساط من تحت أقدام النشطاء ليضيء نجم رجل أعمال ‘وهب ‘ أمواله للتعريف بمعاناة الفئات المقهورة رافعا شعارات عدّة. أوّلها:

1- شعار الديمقراطية
تفرغ الديمقراطية من دلالاتها الأصلية لتصبح مجرد شعار وتتحوّل إلى عقد شراكة وهمية لا فعلية. ولا يخلو خطاب بعضهم من إشارة إلى أهميّة الديمقراطية والحال أنّهم لا يفقهون معناها ولا يدركون المحاضن الفكرية التي ساهمت في بروزها ذلك أنّ الديمقراطية محصلة خبرات و تراكم ممارسات وهي بحاجة إلى مسار زمني طويل حتى ترسخ مؤسساتها وآلياتها وثقافتها وتصير متأصلة في العقليات والممارسات، سواء تعلق الأمر بالعلاقات داخل الأسرة أو بين الرجل والمرأة أو بين سائر المواطنين أو داخل منظمات المجتمع المدني أو بين المواطنين والدولة.


2- شعار احترام حقوق الإنسان
باتت المطالبة بالحرية والكرامة والمساواة والعدالة وحقوق الأقليات والدفاع عن ضحايا العنف الأسري وغيرها أكيدة. فالكلّ يجتهد في سبيل أن يكون من دعاة حقوق الإنسان ومن المدافعين عن قضايا الفئات المقهورة. ولكن هل تكون خدمة القضايا الإنسانية بمقابل؟ هل يتفاوض المثقف مع صاحب الأموال حول المقدار المالي الذي يتحصل عليه في سبيل نصرة المضطهدين؟ إنّ الالتزام بالدفاع عن الفئات المسحوقة يستدعي العطاء وتقديم أصناف من التضحيات لا تحقيق المكاسب المادية والشهرة على حساب الآخرين.


3- شعار الدفاع عن قضايا المرأة
تحتل قضية المرأة حجر الزاوية في الجدل المستمر بين مناصري العلمانية والأصوليين وبين الغرب والشرق(رمزية الحجاب). والكلّ يزعم أنّه من أنصار المدافعين عن المرأة مخافة أن يتهم بأنّه رجعي، ظلاميّ …
وإنّه من قبيل الوهم الاعتقاد أنّ دعوة النساء للمشاركة في الندوات والمؤتمرات وتعيينهنّ في بعض المناصب، ومؤازرتهن في الانتخابات هي دليل انفتاح وإيمان بقضايا المرأة وضرورة تشريكها في اتخاذ مختلف القرارات. فكم من مرّة تشعر المرأة أنّ حضورها وهمي وأنّ تقليدها منصبا ليس إلاّ صوريا. وهنا يبرز المعيار المزدوج في التعامل مع المرأة. نحترمها في الظاهر ونبخس حقوقها في الباطن…إنّ المرأة ليست بحاجة إلى من يتاجر بقضاياها وإلى من يتخذ مطالبها سلّما لتحقيق مصالحه الذاتية.

عدد كبير من مثقفينا صاروا يتقنون تمثيل الأدوار على الركح الاجتماعي يقفون أمام مختلف وسائل الإعلام فيقولون كلاما مثيرا وينظمون خطابا عجيبا ولكن بعيدا عن الأضواء ، يتصرفون تصرفات تشي بكره النساء… عدد من مثقفينا يتحاورون نهارا مع المرأة بكلّ جديّة ولكن ما أن تخفت الأنوار وترفع جلسات النقاش حتى ينقلبون إلى عبيد الشهوات فلا يرون في زميلاتهم إلاّ أجسادا أنثوية قابلة للاستغلال إرضاء لغلمة الذكور. وشتان بين موقف “المثقف” وسلوكه في الليل وفي النهار. سطوة الليل تربك، تعري المكبوت، تكشف الهوّة الساحقة بين المبادئ والممارسات، بين الشعارات والسلوك. توضح للمرأة مأساوية الوضع…

عدد كبير من مثقفينا صاروا انتقائيين في مسألة الحريات. فهم يطالبون بالحرية السياسية ويضربون صفحا عن الحريات المدنية. يحبّرون الصفحات حول خطر الأصولية الداهم ثمّ يتراجعون فيعلنون أنّ الحوار مع الإخوان قد يكون مجديا وأنّ الإيلافات مفيدة في هذه المرحلة، وما ضرّ لو كان الثمن تأجيل مطالب النساء …
إنّ ازدواجية المعايير والسلوك تنمّ، في اعتقادنا، عن هشاشة المثقف وعجزه عن التأثير في مجريات الأحداث بل عجزه عن تحديث مجتمعه. فليس لدينا نخبة مستقلة بالفعل تنهض بوظيفة فكرية عقلية أخلاقية تحديثية وتمثل مرجعية أساسية للأفكار السائدة في المجتمع . ليست لدينا نخب قادرة بالفعل على نشر الوعي الحقوقي واعتماد آليات الحوار والنقاش الفعلي وإذاعة قيم التربية على حقوق الإنسان بقطع النظر عن جنسه وعرقه ولونه ودينه .
ليس فشل النخب في إقامة حوار عقلاني وحده هو الذي يعوق تأثير النخب في المجتمع ونهوضها بدور طلائعي بل إنّ عجز أغلب المثقفين عن تحقيق استقلالهم المادي في ظل مجتمعات لا تكفل حريات المواطن وكرامته هو الذي أدّى إلى ضمور أثر النخب الثقافية العربية وإضعاف دورها.

وفي ظلّ غياب مؤسسات راعية للفكر والثقافة ومستقلة تمثل المحضن الذي يراعي جهد المثقف سيتواصل تراجع سلطة المفكّر في مقابل بروز الطفيليين ومحترفي الثقافة.
أمام هذا الوضع ليس أمام المثقف إلاّ أن يفكّر بجديّة في كيفيّة إدارة أعماله حتى لا يقع ضحية من يستغلون جهوده أو يتلاعبون بمصالحه ويشوهون اسمه.
وحدهم الفنانون انضموا إلى نقابات وصار لهم أعوان ومديرو أعمال. إنّ المتغيرات الجديدة وواقع العولمة واقتصاد السوق باتت تفرض تصوّرا جديدا لإدارة المثقف شؤونه حتى يتفرّغ لمشاغل الفكر فيغدو بذلك ممثّلا لسلطة مرجعية تسهم في توجيه السياسي ورجل الدين وتضع ضوابط لطرق التعامل مع أصحاب الأموال.
amel_grami@yahoo.com

· جامعيّة تونسيّة

شفاف الشرق الاوسط 9 ابريل 2007

شاهد أيضاً

الإفراط في الأسئلة .. الإيغال في الألم… آراء علي الاسكندري

لم يكن مقالا معرفيا حول الدم العراقي ولا لتاريخه ولا لراهنه الأسطوري كما عودنا الدكتور …