الرئيسية / الرئيسية / رموز وأشباح الحلقة 40 : عبث الأقدار بمصير قصر سرسنك الملكي

رموز وأشباح الحلقة 40 : عبث الأقدار بمصير قصر سرسنك الملكي

رموز وأشباح
الحلقة 40 : عبث الأقدار بمصير قصر سرسنك الملكي
أ.د. سيّار الجميل

مصير القصر الملكي بعد مصرع صاحبه

الملك فيصل الثاني

بعد قلب النظام الملكي الى نظام جمهوري على يد كل من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف صباح 14 تموز / يوليو 1958 ومصرع الملك فيصل الثاني وازالة النظام البائد – كما أسموه -، بدأ حكم جمهوري عسكري انفرادي ، ثم توالدت صراعات سياسية ومؤامرات وانقلابات وحروب وحصارات واحتلالات وتمزقات بفعل انقسامات اجتماعية مريرة قادت يوما بعد آخر الى الدمار والشعب يحلم كالعادة بان العراق سيحلّق عاليا بعيدا عن الرجعية والاقطاع والاستعمار والطغاة، ولكن الحقيقة لم تكن كذلك ابدا !!
تحول قصر فيصل الثاني في سرسنك إلى مجرد ثكنة عسكرية من دون ان يسرق او ينهب كما جرى لقصر الرحاب ببغداد ، ثم اهمل ليغدو دار استراحة رسمية مع أثاثه البسيط القديم، وبعد اندلاع ثورة الكرد وسيطرتهم على المنطقة تحول إلى مقر للثوار البيشمركة, وفي العام 1962،دخل إلى المنطقة لواء عسكري، فعاد الى ايدي سلطة الجيش العراقي . وبعد اتفاقية السلام بين الحكومة والاكراد عام 1970 ، فيما سمي باتفاقية آذار الشهيرة ،تحول القصر الى فندق 4 نجوم ، واستمر كذلك حتى عام 1974 ، اذ كانت قد نشبت من جديد حركة تحرر كردية اخرى ، فاستولى عليه الثوار ، وحولوه إلى مقر دائرة تربية تابعة للمديرية في محافظة دهوك، ولكن بعد مضي عام ، عاد القصر إلى سيطرة العاصمة بغداد التي استصلحته, وحولته إلى دار ضيافة للمسؤولين من رتبة وزير فما فوق .. كل هذا جرى ، ولم يسأل أحد نفسه : لمن تعود ملكية هذا القصر ؟

الزعيم عبد الكريم قاسم

القصر .. لمن يعود ؟ من فيصل الثاني الى صدام حسين
وبالرغم من ان القصر خضع وقت ذاك الى عدد من الصيانات المستمرة ، الا ان العراقيين الذين يدخلون اليه ويخرجون منه لا يسألون ابدا من هو مالك هذا العقار ؟ وبأي وجه حق يستخدمه هذا او ذاك من دون علم اصحابه او ورثته، وكان قد بني بمال صاحبه الملك فيصل الثاني ، وكان قد وفى دينا بذمته ، اذ كان قد اقترض قرضا لاكماله !!! وان ارضه وبناءه وآثاثه من ممتلكات من تبقّى من اهله وورثته ! ولقد تتبعت مصير هذا القصر ، فوجدت انه قد تحوّل قبل اندلاع الحرب العراقية الايرانية عام 1980 الى ناد يسكر فيه بعض الضباط العراقيين ممن كان قد تواجد في تلك المنطقة، ولكن في واحدة من جولات الرئيس السابق صدام حسين .. اوقف سيارته عند بوابته ودخله ، وتجوّل فيه، ووقف يلقي بنظراته الى الجبال المحيطة بسرسنك ، وقد أمر بترميمه كلياً ، واعتباره واحداً من قصوره التي بناها في تلك المنطقة، ولا ادري بأي حق تتم السيطرة على القصر وهو ليس من ممتلكات الدولة، اذ لم يكن عقارا حكوميا او عقارا مشاعا ، فقد كان مسجّلا في دائرة الطابو باسم صاحبه الملك فيصل الثاني بن غازي . ويعد ذلك هو الترميم الاخير ، ويقال بأن براءة القصر قد تغيرت وذهبت ، اذ انتشرت فيه الرسوم التي كانت رائجة ومعتمدة للدلالة على عهد صدام.. لقد كسي بالحجر, وزينت سقوفه بالجبصين, وبلطت أرضياته بالرخام والمرمر ، ويقال ان صداما قد زاره مرة واحدة فقط. وكل ذلك جرى في تاريخ القصر ولم يعد اليه صدام ثانية ، ومن دون أن يسأل أحد : لمن تعود ملكية ذلك القصر الشهير الصغير الذي غدا رمزا في ضمائر الناس في تلك المنطقة سواء من الكرد او الآثوريين ؟ ولم يكتف به صدام حسين ، بل راح يبني له عدة قصور توزعت بين سرسنك واينشكي وأشاوة وغيرها من المناطق السياحية الساحرة ، وكانت قصورا شامخة وساحرة .

الرئيس صدام حسين

الشرعية .. لمن ؟
في العام 1991 ، اندلعت انتفاضة الكرد ضد حكم صدام حسين ، ففقدت بغداد سيطرتها على كل المنطقة الكردية ، فكان من الضرورة، ان تتم السيطرة على قصور السيد صدام حسين ، وان يتحول القصر الملكي عام 1993 إلى مستشفى تديره منظمة دانماركية، وقد ظل كذلك الى عام 1998، حيث تحوّل القصر عند ذاك إلى دائرة رسمية تمثلها مديرية للأحوال المدنية مع مركز للشرطة. وفي العام 2005،آثرت قيادة إقليم كردستان العراق بقيادة السيد مسعود بارزاني رئيس الاقليم، أن تعيد الامور إلى طبيعتها الحقيقية – كما سمعت – ، فأعلنت إعادة ملكية القصر إلى اصحابه الشرعيين، وللورثة الهاشميين, ممثلين بعميد اسرة آل البيت الهاشمي الملك عبد الله الثاني عاهل الاردن ( لكنني اعتقد انه ليس الوريث الشرعي الحقيقي لممتلكات فيصل الثاني ، فثمة اشخاص يقتربون من فيصل الثاني اكثر من الملك عبد الله الثاني )، وكانت حكومة كردستان قد اضافت إلى مساحة القصر قطعة أرض تبلغ مساحتها أربعين دونماً،وقد كتب الصديق الاستاذ حازم مبيضين يقول : ” أبلغني مدير السياحة في المنطقة، أن الملك عبد الله الثاني قرر تخصيص جزء من المساحة المضافة لتكون حديقة عامة لأهالي المنطقة ” ، فلا أدري ، هل تأسست تلك الحديقة العامة ام لا ؟
ويستطرد قائلا : ” من التعديلات التي غيرت معالم القصر اكساؤه بالحجر وتغيير نوافذه وتغيير أرضياته ومحاولة تركيب مصعد داخلي فيه مع أنه يتكون من طابقين فقط, ووضع الجبس على الجدران وابطال عمل ” الفاير بليس ” باغلاق منافذها وتغيير بنيتها, ويلاحظ الزائر أن الغرفة التي كانت مخصصة للملك فيصل الثاني قد تحولت إلى غرفة للعمليات الجراحية عام 1993 حين حولت منظمة دانمركيه القصر إلى مستشفى, ولاتزال آثار هذا التحويل للغرفة ماثلة إلى اليوم ” . ويقول ايضا : ” زار مهندسون أردنيون بالتنسيق مع حكومة إقليم كردستان قصر سرسنك, لدراسة خطة إعادته إلى ما كان عليه قبل موجات العبث التي طالته, لكن أحداً لم يلاحظ أي خطوة عملية للبدء بأعمال الترميم, التي نظن أنها تحتاج إلى وثائق تبين ما كان عليه عند إنشائه, والعمل على إعادته إلى طبيعته الأصلية ليكون شاهداً على تواضع الهاشميين النابع من عظمتهم وقناعتهم, مثلما تحتاج إلى عاشق يكرس عقله وفنه وكل وقته ليشرف على إعادة الألق إلى قصور الهاشميين في العراق ” .

ماذا أقترح ؟
إنني اقترح على كل من الحكومتين الاتحادية في بغداد ، والاقليمية في اربيل ، ان تقومان بمفاتحة الملك الاردني عبد الله الثاني لجعل القصر متحفا لما تبقى من مأثورات الملك فيصل الثاني وارشيف صوره ومصوراته واسرته .. وان يبقى قصره المتواضع شاهدا ماديا وحضاريا على ذكرى ملك شاب ولد وتيّتم منذ طفولته ، فرباه شعبه طفلا وصبيا كي يغدو شابا مثقفا رائعا ورحيما اذ لم يوّقع على اعدام انسان أبدا ، ليقتله ضباط جيشه بوحشية وهمجية وضراوة بلا وجه حق .. رحم الله الشهيد فيصل الثاني ، فقد كان يعشق سرسنك .. هذا المكان الجميل من العراق صيفا .. كما كان يعشق العراق كله .. قصر شهد ميلاد عهد زاخر مترع بالآمن والطمأنينة والجمال وبرحيل صاحبه في حدث دموي مثير للاشمئزاز ، اذ كانت نهاية مأساوية تراجيدية دامية لم يكن العراق بحاجة اليها بقدر احتياجه الى اصلاح سياسي فقط .. يضيع القصر بين الايادي وهو يبكي صاحبه وعاشقه ، وسيبقى يبكيه على مدى الزمن مع تلك الشجرة التي كانت ولم تزل يابسة حتى يومنا هذا . فهل ستورق يوما من جديد ؟ وهل سيشق في العراق يوما ذلك الفجر الجديد ؟ وهل ستزهر الحياة في العراق من جديد ؟ وهل سيصدق بعد ازمان طوال قول ابن كثير في تفسيره الشهير : ” فما هو الا بياض يومها” !

سحر الطبيعة لا يكتمل الا بجماليات الانسان
نعم ، هذا قول رائع ينبغي ان نفكّر فيه مليا .. فضلا عن مشاركتي السيد محمد سليم سواري هواجسه في مقاله الموسوم ” كنت هناك ؟ ” والمنشور بتاريخ 21/9/2008 .. والذي يوضح لنا فيه الحالة السيئة التي تعيشها اليوم تلك المصايف الجميلة فيقول عن سرسنك تلك المدينة الجميلة التي تطل على جبل ” متين ” شمالاً حيث العيون شاخصة الى اللامنتهى في القبة الزرقاء ، وجنوباً تتكيء على جبل ” كاره ” حيث القمم راسخة الى أعماق الكون ، ويتابع قائلا : مَن منا لم يسمع بمصيف سرسنك حبيبة ” الملك الشاب ” ؟ مَن منا لم يشاهد هذا الجمال الرباني الساحر؟ وكم كنا نعتز عندما نسأل من أي منطقة نحن ، فنبادر الى القول والفخر يملئ نفوستا بأننا من مصيف سرسنك ، وهذا الاسم الموسيقي الجميل !
ويتابع قائلا : نعم قبل شهر ذهبت وعائلتي لزيارة البلدة .. وكنا ننتظر هذه الفرصة لنتمتع بسحر المصيف ، كما نعرف عنه دائماً ، كنت أُمني النفس بأنه سيكون يوماً سعيداً نقضيه في ضيافة مصايف دهوك من زاويته وسواره توكه وسرسنك وسولاف ، ولكن ما وقعت عليه عيني من صور بائسة كانت صدمة ، حيث الإهمال وغياب كل ما من شأنه أن يطور السياحة ويجمل الصورة “. ويطالب سواري بأن تكون للسياحة وزارة كاملة ، وان تغدو المصايف عامرة بالحياة السياحية والفندقية والخدمات والجمالية من اجل جذب المصطافين من كل انحاء العالم .

آخر الكلمات
واخيرا، وبعد هذه الجولة الرابعة بحلقاتها ضمن كتابي ” رموز وأشباح ” عن قصر سرسنك الذي غدا رمزا تاريخيا في تواضعه الشديد ازاء قصور ملكية عظمى في العالم ، كما اتمنى مخلصا ان تتحقق امانينا جميعا بأن يكون مصيف سرسنك قبلة العالم في يوم من الايام ، وان يكون هذا القصر المتواضع جدا مجرد ذكرى تاريخية طيبة تخرج كل العراقيين من انحيازاتهم لهذا وكراهيتهم لذاك، وتخلق عندهم فهما جديدا للماضي القريب وتصورات مشتركة للآتي من السنين من خلال تعلّم الدروس والعبر ومن خلال القطيعة معه من اجل بناء حياة افضل في المستقبل .

تنشر يوم 5 حزيران / يونيو 2020 على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/

شاهد أيضاً

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …