الرئيسية / الرئيسية / من اجل حكومة عراقية عاقلة

من اجل حكومة عراقية عاقلة

من مّنا يتخيل قبل خمسين سنة ان العراق سيعيش احلك ايامه في القرن الحادي والعشرين .. من منّا يتخيّل ان وطنا قديما يدخل نفقا مظلما كما هو عليه اليوم ، ولا يمكنه الخروج منه ؟ من منّا يتخيّل ان العراق لم يجد من ابنائه رجلا مخلصا وحكيما وعاقلا ومتوازنا يمكنه العمل على انقاذه ؟ من منّا يتخيل ان شعبه الذي انجب عباقرة وفلاسفة وشعراء وعلماء وفنانين ورجال دولة وابطالا وكتابا ومسؤولين ممتازين .. يجد نفسه اليوم لوحده بعيدا عنهم وقد غابوا او غيبوا او قتلوا او رحلوا او سكتوا سكوتا ابديا ؟ من منّا كان يتصور ان العراق وقع بأيدي جهلة ومفترسين وطغاة ومتوحشين وعصابات وجماعات ، وقد انسحق المجتمع لأسباب تافهة ، بعد ان كان المجتمع العراقي لحمة واحدة حتى في الايام العسيرة ؟ من منّا يتخيل ان ينقلب التاريخ رأسا على عقب كي يتصارع ابناء العراق مع بعضهم البعض ، وتحل الكراهية والنقمة والثارات حتى لدى ابناء الجيل الجديد بعد ان كانت للجميع نزعتهم الواحدة في عشق البلاد والدفاع عن الوطن ؟
نحن اليوم امام مفترق طريق صعب جدا ، اذ لم تعد المسألة مجرد قضية سياسية تافهة او مجرد عملية مكاسب وربح وخسارة ، بل اننا امام معركة وجود ، ومأساة وطن ، وازاء خطيئة اشترك فيها الجميع ، ولكي لا نكون طرفا في اسوأ عملية مخادعة في مرحلة مظلمة لوطننا العراق ، ولكي لا نساهم في حمل تابوت وطنهم ، فان الضرورة تقضي لكل من يمتلك ذرة من ضمير واخلاق وشعور وطني ان يعلن فورا عن ضرورات وطن بدل البقاء في خضم عملية سياسية قادتنا الى التهلكة والانقسامات.. انها معركة مع وجود وطن ذبحه الاشقياء والجهلة والمخادعون والغادرون والطارئون والدخلاء والذباحون .. انه مصير وطن كنا ولا زلنا نفخر بالانتماء اليه .. وقد دفع الملايين من اهله ارواحهم ودمائهم من اجله وهم يدافعون عن ترابه وشرفه .. وجاهد الملايين من اجيال عدة في خدمته وادارته واعماره .. واغتربت الالاف المؤلفة باسمه كي يكون وطنا حرا ، بل وساهمت كل نخبه وقواه الفاعلة في النضال من اجله او الابداع لأعلاء اسمه .. كي نأتي نحن اليوم لنبصم على شهادة وفاته ، او شهداء زور على تقسيمه وذبح اهله تحت شعارات تافهة وصراعات ما كان لها ان تكون ابدا .. وبدل ان نستمع لحكماء وعقلاء واصحاب رأي وتجربة ، فقد امسينا اسرى لمجموعة من الساسة المجانين والبلهاء والكذابين والمتعصبين والغلاة والمضللين والمنحرفين والمراوغين والشتامين وعديمي الاخلاق ..
في هذه الايام الحالكة لا يكفي تشكيل مجرد ” حكومة ” تحارب العراقيين وتكون على غرار الحكومتين السابقتين ، بل ان العراق بات بحاجة الى حكومة وطنية حقيقية تجمع كلّ العراقيين في سلة واحدة وتنأى بهم جميعا في شدّة واحدة عن جحيم التقسيم ، وليعلم كلّ العراقيين بأنّ الوطن للجميع ، ولا يمكن ان يحتكره هذا دون ذاك .. ان العراق ملك اولادنا واحفادنا من بعدنا ، وحذار من التقسيم كي لا يلعننا التاريخ . ان العراق لا يمكن ان يسجله اي طرف باسمه في الطابو . ان روعة العراق في نسيجه المتلّون وتاريخه المتنّوع ووجوده المتعدّد . ان الضرورة الوطنية تقضي اليوم وبعد ما حصل مؤخرا من تحولات ازاء اخطاء جسيمة ومتغيرات تاريخية في الموصل وكركوك جراء اخفاق العملية السياسية والتخلي عن بنود الدستور المشؤوم علنا ، وهو ” دستور حمل تابوت العراق” – كما وصفته عام 2005 – ، فالمطلوب البدء بمشروع وطني ديمقراطي حقيقي على ايدي اناس اذكياء ونزهاء غير ملوثين ابدا بالطائفية والتفاهات والتعصبات . لقد مضت عشر سنوات لتصبح اليوم في ذمة التاريخ ..
انّ العراقيين يتطلعون الى تأسيس حكومة عراقية جديدة وعاقلة تضم رجال دولة لا بيادق سياسة ، وان تمرّ بمرحلة انتقالية حقيقية ، وتعمل كخلية نحل بإعلانها برنامجا وطنيا يبدأ العمل به منذ اللحظة الاولى ، ومن دونه ، فان الحرب الاهليّة ستأكل العراق ، وتحرق مدنه ، وتهدد وجوده .. حكومة تسعى لإجراء مصالحات وطنية ، وتبتعد عن الاوبئة الطائفية التي ستأخذ العراق واهله الى التهلكة في بيئة اقليمية تعجّ بالإرهاب والاختراقات والاضطرابات والمآسي .
حكومة جديدة بحاجة الى فلسفة وطنية ريادتها ذكيّة وحكيمة وتتمتّع بأقصى درجات الحلم ونكران الذات .. حكومة تنأى عن المحاصصة الطائفية المقيتة ، وتبدأ بنظام تربوي متطوّر لتخليص الجيل الجديد من ادران العصور الوسطى ومشكلات التاريخ .. حكومة ترعى حقوق العراقيين ومعاشاتهم ورواتبهم التقاعديّة من دون استغلال الظروف واللعب باستحقاقاتهم واستخدام ذلك ورقة ضدّهم لإذلالهم او تطويعهم سياسيّا او طائفيّا . ان اهم ما يحتاجه العراق اليوم حكومة من اعضاء مستقلّين ويقف على رأسها رجل يقبله كلّ العراقيين وله شخصيته الوطنية ، وله تجربته وحكمته ورزانته وعقلانيته وبساطته وسماحته ووسامته ليتعامل مع شعبه بإنصاف بلا تفرقة ولا جهالة ولا حماقة ولا انفرادية ولا طائفية ولا يقبل قصف طائرات الاخرين لشعبه ، وان لا يستمع الا لشعبه ، وان يبدأ مرحلة انتقالية بمشروع مصالحة وطنية حقيقية وتحقيق عدالة اجتماعية وبدء عمل المؤسسات على ايدي اناس اكفاء واقوياء ونزهاء وشرفاء .. حكومة تلغي كل الجماعات والعصابات الارهابية ، واعادة تشكيل الجيش العراقي على اسس وطنية سليمة ، وبدء العمل بتأسيس دستور جديد استعدادا لاجراء الانتخابات العامة .
لا احد يداوي جروحنا بدلا عنّا ، وان أي تدّخل اجنبي او اقليمي سيخلّ بالأمن الوطني ، حكومة لا تسمح لكائن من كان ان يتدّخل في شؤون العراق والعراقيين . حكومة تحرّم قصف الشعب بالطائرات ، فكيف تسمح لطيران الاخرين في اجوائنا وقصفهم لأهلنا العراقيين ! حكومة تعمل من اجل تأمين السلم الداخلي وتحرّم المسّ بالمال العام .. حكومة ذكيّة باستطاعتها تحقيق مشروعها بلا حروب ، فالحرب الاهلية ستأكلنا جميعا ، وسيكون العراق طعاما للآخرين الذين يتربّصون به ، وينتظرون سقوطه لينهشوا في لحمه وعظمه .. وسيبقى كلّ العراقيين لسنين قادمة يعيشون حطام الحرب الاهليّة وتداعياتها المأساوية ، وقد استنزفت مواردهم ، واحرقت مدنهم ، وسحقت وحدتهم ، وماتت ثقافتهم .. ولن يستفيد الا الدخلاء والاعداء والطامعين والارهابيين المتطرفين.
ان آخر ما كنّا نتخيّله ان ينقسم العراق بين اهله لأسباب دينية او طائفيّة او مذهبيّة وان يحترق بين سنّة وشيعة ويصبح فرقا ومللا ونحلا ، ويغدو مجرد خارطة يعبث فيها الجهلاء والمتعصبين وتجار الحروب والعصابات المارقة والمليشيات والمافيات واشباح العصور الوسطى .. فكروا معي في المصير الذي سينتظر شعبنا الذي دفع اثمانا باهظة من دمائه وشبابه ورجاله ونسوته وثرواته في الحروب والحصارات السابقة ، فهو الخاسر الاكبر . تمسّكوا بوحدة وطنكم ايها العراقيون وكونوا يدا واحدة واستفيدوا من رجال عراقيين مخلصين وامناء كان لهم تاريخهم واخلاصهم لمؤسساتهم ومهنيتهم واحترافهم لتخصصّاتهم العسكريّة والمدنيّة في مثل هذا الزمن الحرج ، نسوة ورجال لم تتلوث ايديهم في جرائم قتل العراقيين ، ولم يكونوا بسارقين او مرتشين او قتلة آثمين .. فهم اليوم افضل من له القدرة على اعادة التوازن ، وهم ليسوا طامعين في مناصب او مصالح في مال او ثروات .. لتحلّ محل هذه القيادات المتعبة التي اساءت على مدى عشر سنوات . اخرجوا من تحالفاتكم السياسية الموبوءة ومن نهجكم السياسي الخاطئ ، فالحل في تغييره لا بتغيير الوجوه ولا بتبديل الاقنعة !
على من يحكم العراق ان يدرك بأن العلاج الوحيد للعراق هو المصالحة الحقيقية وان تغيب اليوم التحشيدات السياسية والاعلامية والطائفية التي تنعكس كلها على الابرياء من اهلنا ، والى كلّ الذين ينتظرون التقسيم من العراقيين اقول بأنّكم لا تعرفون ما الذي سينتظر العراق في حال تقسيمه وما بعد التقسيم ، فكلّ العراقيين سيخسرون خسرانا مبينا ! ان الحكمة تقضي ان نغلب العقل والحكمة والسياسة بدل الاستعراضات في تصفيّة الحسابات من دون أية دراية بتداعيات مشاكلنا التي غدت مزمنة ومستديمة كون العراقيين لم يحسنوا انتخاب من يحكمهم ، وان التشبّث بالصراع سيقود الى الجحيم . مرة اخرى ، اننا بحاجة الى تشكيل حكومة قوية وحكيمة ووطنية تأخذ زمام المبادرة منذ اليوم الاول وتبدأ خطوات جريئة في معالجة الازمة الخطيرة التي يتعرّض لها العراق اليوم
ما نحتاجه اليوم حكومة وطنية جديدة تجمع كلّ الطيف ، ويمثلها عراقيون اقوياء تبدأ بسياسة جديدة وتمنح الحريات الى كل العراقيين ، وتعمل على كسر تحالفات كل الخصوم والاعداء ومريدي التقسيم . وان يلتصق القادة الجدد باهلهم العراقيين كلهم بتحريم التمييز في ما بينهم ، واستدعاء كلّ العراقيين المخلصين المستقلين مدنيين وعسكريين كي يأخذوا دورهم في اعادة لحمة العراق بمؤسسات الدولة ونسيج المجتمع .. وان يكون الاعلام محايدا وغير منحاز ابدا لأيّ طرف من الاطراف .. فهل سيتحقّق مثل هذا الحلم ؟ صفقوا من اجله يا اهل العراق .

نشرت في صحيفة المدى العراقية ، يوم الاثنين 30 حزيران / يونيو 2014
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=10070&IssueID=508
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …