الرئيسية / الرئيسية / الجسد في الثقافة العربية

الجسد في الثقافة العربية

اختفاء المعاني المعاصرة
كنت قد نشرت دراسة عن فلسفة الجسد والتفكير الانساني في مجلة عالم الفكر الكويتية ( العدد 4 المجلد 37 ابريل – يونيو 2009 ) . واليوم انشر عن الجسد في ثقافة مجتمعاتنا .. ليس هناك أي معنى فلسفي محدد لمفهوم الجسد في الثقافة العربية ، باستثناء ما يتداوله الناس من تراثهم وتقاليدهم ومجريات حياتهم .. بالرغم من ان كلا من العراقيين والمصريين القدماء – مثلا – كانت لهم طقوسهم ، ومنحوتاتهم ، وأفكارهم المتنوعة عن الجسد .. فالجسد في العراق القديم ، كان يمّثل قمة التناقض الصارخ بين الاهتمام به وبين ذروة الحياة ليس عند الانسان حسب ، بل حتى عند الحيوانات التي صرف الانسان دهورا طويلة بالاهتمام بها، وبرسوماتها ، ومنحوتات أجسادها .. رؤوسها ، وجذوعها ، وأجنحتها ، وقوائمها .. وبقي ذلك في اطار المسألة الحضارية التي افترقت عن التجارب السياسية التي تضمنت بشاعات تاريخ الدول الامبراطورية القديمة ، وما فعل بالأجساد ، وخصوصا ، في الإمبراطوريتين البابلية والآشورية .. بل ووصل الأمر ، إلى أن يكون الجسد موضوعا حيويا في تناقضات الحياة لا بعد الموت ، وهنا نقطة الخلاف التي يبتعد فيها العراقيون القدماء عن قدماء المصريين الذين آمنوا بالجسد وخلوده بعد الموت ، فحنطوه ونصبوا فوقه الاهرامات .. ومن هنا نستجلي الفرق الشاسع بين العقليتين العراقية والمصرية منذ العصور الغابرة في تاريخنا . واذا كان الجسد يمثل رمز الخلود في مجتمعاتنا القديمة ، لكنه بات اليوم لا اهمية له ، اذ عني بالروح التي جعلتها الاديان السماوية وغير السماوية حالة مخلدة ازاء الجسد الفاني الذي عدّ مجرد مادة لا معنى لها ابدا . ان ” المخيلة ” تتحكم في ذهن وتطلق لنفسها العنان في تقديم تصويرات واشكال واضفاء مزايا واوصاف لا حقائق لها ابدا .

التناقض بين الابداع والتوحش
تبدو الصورة التاريخية واضحة تمام الوضوح في خضم كل التناقضات العربية ، وخصوصا بين الحياة والموت، وبين الإبداع والتوحش وغيرهما من الثنائيات .. ان اجساد العراقيين القدماء ـ مثلا ـ لها قوتها وحيويتها في الحياة ، بل ان الانسان بحث عن سر للخلود ـ كما يتبين ذلك في نصوص ملحمة كلكامش الشهيرة او ملاحم اخرى ـ .. لقد أحب الحياة ، وعشق رموزها .. ولعل الجسد بحد ذاته ، كان أهم رموزها ، وهنا يفترق العراق الحضاري عن العراق السياسي منذ القدم.. ذلك ان الجسد العراقي كانت له قيمته في ذاكرة العراقيين المتحضرين ، بل وثمة حالات تقدم لنا شهادات عن الجسد في اقصى غايات طهره من خلال تعميده بمياه نهر دجلة المتدفقة ، وغسله يوميا ، حتى ليبدو في اقصى حالة من الحيوية والسمو والنظافة .. ولكن التناقض الصارخ قد تمثّل بين عشق الأجساد ، والاعتناء بها ، والترميز بها ، وتطهيرها تعبيرا لأرقى درجات التحّضر الانساني .. وبين مشروعات العنف المتمثلة بقتل الاجساد ، وتشويهها ، والتمثيل بها ، ورخص بضاعتها ، مقابل المتاجرة بها في اسواق النخاسة على امتداد العصور الوسطى ، بل وسحلها وتقطعيها وجزّ رقابها وهم في اقصى حالات التوحّش السياسي في العصر الحديث والتاريخ المعاصر !

الخروج من التاريخ ؟
ان ثقافة مثل هذه تحمل سمات احقاب تاريخية طوال ، لا يمكن تخّيل ما الذي نستكشفه من احداث ووقائع غاية في الشراسة والتوحش والعهر على امتداد تاريخ سياسي طويل مضمخ بالدماء ومتشرّب بالترسبّات الصعبة .. انها حالة غريبة في مجتمعات توصف بالمتحضرة ازاء مجتمعات اوروبا التي كانت متوّحشة وبلا خصال حضارية ، بل وان سمات تلك الاحداث التي تضمنها تاريخنا ، تبدو في الذهنية العربية اليوم ، بل وحتى في اللاوعي الجمعي مجرّد حالات طبيعية ، في حين ، أنها تعني حالات مرضّية ، لا يمكن البقاء في اطار سذاجتها المقنّعة بالاكاذيب والتفاهات والخرافات والاساطير .. فمن اجل تطهير الروح تعّذب الاجساد طويلا ،ومن اجل تطهير النفس من الآثام ، ومن الشعور بالذنب تضرب الاجساد بالحديد حتى تنّز دما ، بل ويستخدم اللطم على الجسد رمزا لتطهير الذات او طقوسا مقدسة.. وحتى يصل الى اقصى مدياته بالبكاء الذي لا سبيل لإيقافه عندما تتفجر العاطفة المشحونة لأعلى مدياتها .. ولعل الجسد هو الوحيد الذي تعّرض في الثقافة السياسية العربية الى التعذيب بشتى صنوف الوسائل المؤلمة سواء لانتزاع اعترافات ، أو لأخذ ثارات ، أو لتصفية علاقات، أو للتلذذ بالمشاهد والالام المبرحة .. ان ثقافة الجسد عند العرب ، ثقافة متنوعة بين المستويات الاجتماعية ، ولكنها بقيت من القضايا المسكوت عنها دهرا طويلا.. ان ما نشهده اليوم في محيطنا وتجاربه السياسية والدينية والطائفية وحتى الاجتماعية الطبقية والمكوناتية .. الخ من اعمال عنف تستهين بالجسد استهانة بالغة بقتل الاف الناس يعد تعبيرا مأساويا لما يكمن في المخيلة من اوهام يعتقدون بها .. ولا يمكن انتزاعها ابدا .. ان ما وجدناه من حالات صعبة في مجتمعات كالعراق ولبنان وسوريا وليبيا والجزائر وايران وغيرها .. يدل دلالة قاطعة على ان امراضا واوبئة تجتاح بيئاتنا الاجتماعية ، لأسباب سياسية وتاريخية واجتماعية وطائفية متنوعة ..

هل من تطهير لثقافتنا العربية ؟
لم نتوقف ابدا سواء في مرحلة الاعلام المرئي والفضائي على دعوات صريحة تطالب بتطهير ثقافتنا العربية الاثمة من ذلك العهر التاريخي الذي تعّرضت له اجساد مسؤولين وزعماء ، او مثقفين كبار ، أو سياسيين مناضلين لهم ادوارهم الوطنية .. أو حتى صغار الأطفال ، أو من نسوة وشيوخ ذهبوا ضحايا حروب ، أو اعتقالات ، أو عذابات ، أو انفجارات ، أو سجون او سراديب او زنزانات او قبور جماعية .. الخ بل وغدا مصطلح ” التصفية الجسدية ” مشاعا في ثقافة الاحزاب الثورية صاحبة مبادئ العنف الثوري ، من دون أي احساس بالخيبة ، أو بالذنب والتقصير ، ومن دون أي وازع اخلاقي يوقف مهزلة التاريخ العفنة
ان هذا المصطلح ليس عربيا بحد ذاته ، بل استعير من ثقافات ثورية راديكالية دموية ، قالت بـ ” العنف الثوري ” ، و بـ ” التصفية الجسدية ” ! لقد عاش عقلاء واحرار في عدة بلدان لا يرضون بتلك الممارسات الدموية ضد اجساد البشر ، وقد امتلكوا الوعي بما كانت عليه الاحوال ، ولكن الخوف كان يرافق الصوت ليبقيه كتوما حتى الموت ، ومن دون طرحه على أصعدة عدة في ثنايا الأدبيات المعاصرة ، وان ما نشر من شذرات عنه ، فهو قليل جدا مقارنة بما حدث على امتداد تاريخ طويل .. صحيح ان الجسد لم يكن محورا للتفكير، ولكنه الوسيلة الأسهل، لتبرير كل المصالح الشخصية والفئوية والسياسية .. بل وان ما يتوفر من مراجع لا تعتني بالجسد ابدا في فلسفاتها ، جعلت الإنسان في مجتمعاتنا ، بعيدا عن التسامي ، انه بدل ان يجعل الجسد اداة حيوية للحياة والابداع والطهر والجمال .. جعله اداة للعهر والسجن والاعتقال والاعدام والقتل والتقطيع والسحل وقطع الرؤوس او الاطراف او حرق الاصابع والاعضاء الحساسة .. لقد سجلت التواريخ المعاصرة للعديد من انظمة الحكم في العالم ، اقسى درجات العنف ضد الانسان والنيل من الجسد ، وخصوصا في بعض دول العالم الثالث .

الذاكرة التاريخية الصعبة
ثمة اسئلة مثيرة تقول : لماذا قتل اشهر الكّتاب والمفكرين ابان العصر العباسي ـ مثلا ـ ، وها هو ذا ابن المقفع ، إذ كان قد قتلة شنيعة بوضع جسدا عاريا على مسامير حادة في تنور ، وبعد أن نزف طويلا ، اوقدوا التنور ليسجر حيا ! اهذه مكافأة المثقف عالي المستوى في الحياة العربية ؟ .. وذاك الملك الصالح الذي اتوا به عاريا ليدهنوا جسده بالسمن والعسل ، ويتركوه مربوطا على عمود خشبي في قلب الصحراء تحت شمس منتصف شهر تموز / يوليو ، حتى تجتمع عليه الحشرات والذباب لتأكله وهو حي !! وذاك الوالي العثماني علي باشا ابان القرن الثامن عشر الذي سام اهل الولاية بعنجهيته وسطوته ، فثاروا عليه وربطوا رجله بحبال وجروه حيا في ازقة المدينة حتى فارق الحياة .. وهذا الامير عبد الاله الذي حكم العراق وكان وصيا على عرش الملك فيصل الثاني للفترة 1939 – 1952 سحبوا جثته من السيارة وهو ميت ليسحلوه في شوارع بغداد عاريا ، ثم يعلقوه ويقطعوه اربا اربا ، بل ليقطعوا ذكره ويضعوه بفمه .. ليصبح الجسد شكلا مقززا امام الجماهير المحتشدة التي تصفق وتزغرد ، ولم أجد حتى اليوم اية رؤية جماعية واعية تدين هذا الفعل المثير للاشمئزاز والقرف !! وثمة امثلة لا تعد ولا تحصى .. يتمثلها قطع الرؤوس علنا امام العالم كله نساء ورجالا .. وحتى صور اليوم البشعة في العراق والجزائر واليمن ولبنان لا يمكن ان يتقبلها اي عقل ..
هنا ، هل يمكننا ان نكتفي بسرد الامثلة والنماذج التاريخية والمعاصرة من دون التعمق طويلا في فلسفة هذا التوحّش الاجتماعي من خلال ما اسمي بـ ” التصفيات الجسدية ” ؟ وما تفسير هذه العدمية لكل مقاييس الحياة وانعدام الاخلاق ؟؟ .. بل وان السكوت ، سيجعل من هذه الامراض الاجتماعية ، اوبئة تاريخية ليس لحاضرنا ، بل لكل مستقبل العرب والمسلمين الذين طالما تشدقنا بحضاراتهم .. فلا يمكن ان نشهد التضادات السياسية التي كانت تعبر عن صراعات اجتماعية بمثل هكذا تنافر ! بل ليبدو الامر اليوم كما نشهد ذلك في العراق وسوريا كما لو اننا نعيش حقا حياة الغاب .. وحتى حياة الغاب لا يمكننا ان نشهد جنسا معينا من الحيوانات يقتل ابناء جنسه ، بمعنى ان أي جنس ، لا يمكنه أن يكون ضد بني جنسه. ان الجسد ليبدو بلا ثقافة عند العرب ، وان العرب والمسلمين لا يمكن اعتبارهم كلهم يحملون هذا الوباء ، بل ان هناك من الاطياف الجميلة المسالمة التي تتطهر باكرام ليس روحها حسب ، بل حتى جسدها ، بما تضفي عليه من الاهتمام والرعاية ان ثمة تخريجا لكل التوحش الانساني ، وما تفعله بالأجساد ، ذلك ان الامر لا يقتصر على العرب والمسلمين وحدهم .. فتواريخ المجتمعات والامم الاخرى قد شهدت توحشا وافعالا ، لا يمكن أن يصنعها بشر في الدنيا . ان من قتل ، وسحق ، وعّذب ، وأوذي ، وحرق ، وقطّعت أوصاله وهو حي .. او دقت عظامه ، أو خرمت اقفيته بالخوازيق ، أو دق عنقه بالمقصلة ، أو بحد السكين والسيف .. أو رمي به في اقفاص مليئة بالوحوش أو الكلاب الجائعة .. كلها أفعال إنسان ( لا إنسانية ) بحق الإنسان ، تمّرس على فعلها الانسان في كل بيئات الارض .. فالمشكلة ، لا يمكن حصرها عند عرب ومسلمين فقط!

نشرت في عمود ( مكاشفات ) الف ياء الزمان 4 حزيران / يونيو 2013 ،
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …