الرئيسية / فن وموسيقى / لمناسبة مرور عام على رحيل الفنانة القديرة سعاد محمد رحلت .. وتركت لنا ارادة الحياة !

لمناسبة مرور عام على رحيل الفنانة القديرة سعاد محمد رحلت .. وتركت لنا ارادة الحياة !

تمر علينا اليوم 4-5 من تموز / يوليو 2012 ، ذكرى عام كامل على رحيل الفنانة المطربة القديرة سعاد محمد التي وافتها المنية يوم 5- 4 تموز / يوليو الماضي اثر عمليتين جراحيتين عن عمر ناهز 85 عاما اذ يقال انها من مواليد لبنان 1925 وقد توفاها الله في القاهرة في مثل هذا اليوم من العام المنصرم .. دعوني اكتب كلمة تأبينية بهده الذكرى ، وفاء منّا لامرأة عربية متميزة خدمت طوال حياتها الفن العربي ، اذ غنت عشرات الاغاني والقصائد ، وقد اشجت واطربت وساهمت مساهمة حقيقية في تجّلي ارادة الحياة ابان زمن عربي جميل مضى . نعم .. رحلت هذه السيدة العربية القديرة الفنانة الكبيرة سعاد محمد التي كان لها مجدها على امتداد القرن العشرين .. وقد جمعت مصر ولبنان ارثا وتاريخا ، وواقعا وتعبيرا .. كانت واحدة من امهر المطربات العربيات ، وجايلت الرؤوس الكبيرة ، وتفوقت في اعمالها الجميلة وابداعاتها الخصبة . غنّت اجمل القصائد وأعذب المعاني بتلحين كبار المبدعين .. امتلكت مساحة صوتية واسعة ، ووهبت حنجرة ذهبية تطرب حتى الطيور .. وستبقى قيمتها ثمينة على مر العصور ..
كانت سعاد محمد سيدة مجتمع ، وربة بيت من الدرجة الاولى .. أحبت الفن وعشقته منذ بداياتها الاولى ، وغنّت الموشحات والادوار ، وامتلكت حسا وطنيا فياضا ، وشعورا عربيا طاغيا .. لها اخلاقيات عالية في معاملاتها . التقيت معها مرة واحدة في بيروت صدفة ، فوجدتها ، متواضعة وصاحبة حضور وجاذبية ونكتة بريئة وسرعة بديهة وتحمل جوانب انسانية مع قوة ارادة وخبرة حياة وعطف على المظلومين ، ولكنها كانت ناقدة معارضة لما ينتج اليوم من اغنيات لا علاقة لها ابدا بالفن الحقيقي والطرب العربي الاصيل .. مع محبة جمة تكنها لمصر ولبنان.. وهي تمتلك ذاكرة خصبة عن تاريخ ثقافي مضى وكم كان يحمل من روائع وكم كان اهله يحملون من قيم وتقاليد جميلة .. رحلت بعد ان عاشت على امجاد الايام الرائعة في الخمسينيات الجميلة من القرن العشرين .. تعد اغنياتها الحقيقية لا التقليدية معبرة عن واقع حقيقي تعيشه كل الامة العربية ، بمجتمعاتها قاطبة .. واسمحوا لي ان اعتبرها الفنانة العربية الوحيدة التي عبّرت تعبيرا حقيقيا عن مظلومية المرأة العربية في مجتمعاتنا في اغنيتها الرائعة ” مظلومة يا ناس ” ! ولكن شدوها لقصيدة ” ارادة الحياة ” كان خير معبّر لها عن آمال امة كاملة في الحرية والاستقلال والتقدم منذ عشرات السنين .. تلك القصيدة الشهيرة التي صاغها الشاعر التونسي الشاب ابو القاسم الشابي وقام بتلحينها الموسيقار القدير رياض السنباطي ..
رحلت سعاد بعد رحلة تاريخية مضنية ، عبرت فيها عن حياة امة خرجت من ابوابها المغلقة نحو مساحات واسعة لتصنع ارادتها بنفسها ، ولكنها اختنقت بالبلايا والرزايا على ايدي زعماء ظالمين .. امة اضاعت ارادتها في كنف رؤساء اباحوا كل شيء لأنفسهم ، وسحقوا مجتمعاتهم ، وكبلوا ارادة الناس في بلدانهم .. ماتت سعاد بعد ان سكتت على ظلم الطغاة الذي يبيحون قتل شعوبهم ولا يتورعوا عن قتل اطفال ونساء وشيوخ وهم مستعدون لإبادة مدن كاملة من اجل كراسيهم ومن اجل استحواذهم على السلطة باية اثمان .. لقد قتلوا الامان والحرية .. لقد سحقوا الانغام الجميلة والشجية .. رحلت سعاد بعد ان تركت للأجيال ارثا فنيا رائعا يعبر عن مرحلة تاريخية زاخرة بالإبداعات والتناقضات معا .. ويكفي شدوها قصيدة ابو القاسم الشابي ( ارادة الحياة) التي كان لها دورها النهضوي في انشداد شعوبنا قبل اكثر من خمسين سنة ، اذ تربينا منذ طفولتنا على اصدائها ، وتشبّعت الروح بها كي تصنع ارادتها في التحرر والاستقلال .. فكم حاجتنا اليوم لاستعادة ارادة الحياة من جديد ؟ وكم الضرورة ملحّة للإصغاء الى حديث الكائنات وروحها المستتر ؟ وما تقوله لنا الريح بين الفجاج وفوق الجبال وتحت الشجر ؟ كيف نتعلم زرع الطموح الى غاياتنا ؟ كيف نركب الطريق الصعب لتحقيق ما نصبو اليه من امانينا .. ؟؟ كيف ننسى الخوف ونتحدى الصعاب .. ؟؟ كيف نتجنب سعير الغزاة ولفحة اللهب المستعر ؟ كيف يكون صعود الجبال حيث الجلد والشدة ؟ كيف الخروج من كل البرك وكل الحفر ومن المياه الاسنة ؟ ان دماء الشباب تفور في كل مكان مع ضرورة الوعي بما يضج من رياح اخر أو وقع رعود ، او هطول مطر .. صور ارادة الحياة ما اجملها : الروح يرفرف غريب الجمال .. بأجنحة من انوار القمر .. والكل ينشدون نشيد الحياة المقدس في هيبة ووقار صور وان الطموح يعلن في الكون لهيب الحياة فينشر روح الظفر . اتمنى على الجيل الجديد ان يدرك المعاني الخصبة التي تضمنتها ارادة الحياة كي يصنع طموحه في النفوس وعند ذاك يستجيب القدر .
نعود كي نتوقف عند المرأة العربية المظلومة التي عبرت سعاد عن مأساتها تعبيرا محزنا وقد تهادي صوتها بهدوء وشجن . نعم ، كانت سعاد قد غنت افضل اغنية معبّرة عن المرأة العربية ، اذ وصفت معاناتها من اجل حريتها وحقوقها المضاعة .. لقد غنت اغنية ( مظلومة ) فكانت ان فضحت عيونها الباكية بكؤوس من الدموع معبرة عن امرأة عربية مظلومة ومتهومة دوما .. وشبابها التي قضته بلا رحمة ولا حنان .. وحقوقها الضائعة والمهضومة في كل مرافق الحياة .. وتصيح سعاد وتكرر : مظلومة يا ناس مظلومة ! انه تعبير انساني عن تراجيدية امرأة عربية لا تعيش النعيم الا في عيون الناس والاحزان تأكل صدرها .. ولا حق لها في الاختيار ولا في صنع أي قرار .. الحسرة تقتلها .. والفرحة منها محرومة .. كيف يمكن لنصف المجتمع العيش بأمان وحرية وهو مستلب الحقوق والواجبات ؟ بل يباع ويشرى في مجتمعات معينة حتى يومنا هذا ، او يزوجونها وهي طفلة تلعب ! فالمرأة العربية لا ترى الا الضنى طول عمرها تعيش مهمومة ويأكل الغم قلبها ويسحق اقرب المقربين لها حقوقها ويبتلع ميراثها .. بل وتكّبل ارادتها حتى في اختيار شريك حياتها ، وتحرم من ابسط حقوقها !
لقد عبرت سعاد محمد عن محنة امرأة وقضية أمة معا تعبيرا رائعا .. واتمنى ان تعيد الاجيال القادمة المطالب نفسها التي نادت بها الاجيال السابقة كي تتحقق الارادة الحقيقية للشعوب المقهورة التي سحقها الطغاة والظالمون .. وعبث بها الجهلاء والتافهون .. وتلاعب بأمرها كل المجانين والطفيليين .. لقد رحلت سعاد في زمن يقتل الزعماء فيها شعوبهم ، ويتم الامعان بقتل النساء والاطفال والشيوخ في شوارعهم وحتى في بيوتهم ! رحلت سعاد في زمن بدأ الانسان فيه يتحرر من الخوف ويفك عنه قيود الابواب اللعينة .. ويتسلق الاسوار العالية .. لقد بدأ الانسان يمتلك وعيه شيئا فشيئا من اجل ان يشعر بكرامته التي داسها الدجالون والمحتلون والغرباء والطغاة والافاكون والقتلة واشباه الرجال .. لقد رحلت سعاد محمد في زمن موحش تتفجر فيه ارادة الشعوب من جديد ضد طغاة العصر وتابعيهم الذين لا يمكن لأي انسان ان يتخيلهم يقتلون ابناء بلدهم في الشوارع والجوامع والبيوت والحارات والميادين ..
سيبقى سجل ابداعات سعاد محمد الفني يمتلئ بعشرات الاغنيات والانشودات الوطنية التي صدحت بها في مناسبات عدة قبل اكثر من خمسين سنة ، وقد تمثلتها اساسا روح قومية طاغية ، وهي تعبر عن الآمال والالام معا .. وللعلم ، فان سعاد محمد كانت قد غنت واحدة من الاغنيات العراقية من تلحين الموسيقار وعازف القانون الشهير الاستاذ سالم حسين ، واجادت فيها اجادة تامة .. لقد رحلت سعاد ولكنها تركت لنا ارادة الحياة التي اتمنى ان يسمعها بصوتها كل من يريد رسم خارطة طريق جديد له في حياتنا العربية . ان الحياة العربية اليوم بأمس الحاجة الى الارادة التي تغنت بها سعاد محمد .. رحم الله الفقيدة رحمة كبيرة.. وستبقى ذكرى سعاد محمد مزروعة في كل الضمائر الحية .
تنشر بشكل خاص على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

عمالقة الغناء المصري في مائة عام

مقدمة : ريادة التجديد عاشت مصر على مدى مائة عام من 1869 إلى 1967 ذروة …