الرئيسية / مقالات / القصبة بعيدا عن القرصنة !

القصبة بعيدا عن القرصنة !

عدت من تونس مؤخراً بعد سفرة علمية، فوجدتها مبتهجة جداً بمرور سنة على اندلاع ثورتها التي يفتخر بها أهلوها، كونها تمثّل انطلاقة أولى . وتحتفظ ذاكرتي عن تونس بأجمل الذكريات منذ ثلاثين سنة، عندما كنت أستاذاً أزور كليّتين عريقتين أولاهما في منوبة والثانية في القصبة.. احتفظت ذاكرتي بصورة جميلة رائعة عن تونس الحبيب بورقيبة، ولكنها تبدو اليوم، بعد أن مشيت في أزقة القصبة في قلب تونس العاصمة، وهي تعاني من ثقل رواسب وبقايا حكم الرئيس الهارب زين العابدين بن علي، بعد أن استلبها عهده جماليتها واقتسم مواردها وقهر شعبها. إن هذه “القصبة” هي المكان العربي الوحيد الذي احتفظ بتقاليده القديمة منذ أكثر من ستة قرون حتى اليوم، بل ويشرّف هذه القصبة أنها حملت على كاهلها، تاريخاً طويلاً، مشعل الأحداث الكبرى وانطلاقاتها قبل أي منطقة عربية أخرى! وكانت تتوزع الأحداث منها وتتماوج تداعياتها في فضاء عربي.
تبدو اليوم كل تونس، وهي تنفض عن نفسها تلك الرواسب الصعبة، تستنشق هواء جديداً بأنفاس حية، في “أنضج ثورة” مقارنة بالثورات العربية الأخرى التي أعقبتها. تبدو اليوم مجمعة على التغيير الحقيقي. لقد رسخ اعتقادي بأن ثورتها حقيقية، بمباركتها من جميع الإخوة التونسيين. لم ألق تونسياً واحداً في رحلتي الأخيرة، بدءاً بالسائق الذي أوصلني إلى الفندق وانتقالاً إلى الزملاء الأكاديميين والأصدقاء المثقفين الذين التقيتهم في حواراتي معهم في مباني القصبة العريقة التي أعرفها، وصولا إلى عمال الفندق ونادلي المطاعم، لم ألق أحداً منهم، إلا وهو يبارك التغيير وينفض عنه غبار السنين العجاف. وإذا كانت تلك “المباني” قد هرمت دواخلها، وذوت أشجارها، مقارنة بما كانت عليه في عهد بورقيبة، إلا أنني وجدت الإنسان في تونس اليوم متوقد الذهن، مشحونا بالفاعلية، وحيوي الإرادة، ومفعماً بالتفاؤل من أجل المستقبل.. وجدت التونسيين كما عهدتهم دوما، أحرارا في آرائهم، وسعداء بمنجزهم الذي حققوه لأنفسهم بكفاءة عالية، ولهم استقلاليتهم في قول ما يؤمنون به.. وجدتهم كما توقعتهم؛ متجانسين متوافقين في ما بينهم، ولم يعانوا من أمراض كالتي تمزّق العراق، ولا تنحرهم انقسامات كالتي تعاني منها مصر، ولا تطحنهم قبلية كالتي في اليمن، ولا تبعثرهم جهويات كالتي في ليبيا، ولا تشظيهم انتماءات كالتي نشهدها في سوريا.. لم أجد تونسياً واحداً من أنصار النظام السابق يحمل سلاحاً ضد أبناء جلدته، ولم أجد تونسياَ واحداً يتعاطف مع أي بلد عربي أو إقليمي ضد مصالح بلده، ولم يضطهد أي تونسي غيره بسبب عقيدته أو مذهبه أو جنسه، مع وجود أقليات مجهرية من البربر والأفارقة واليهود وبعض أبناء الجاليات الأجنبية. لم أجد تونسيا واحدا يحرق مبنى أو يسرق متجرا أو يفجّر مؤسسة.. لقد وجدت شبابا متحمسين جدا لمنجزهم، وهم يفاخرون الآخرين بكونهم أصحاب الانطلاقة الحقيقيين.
صحيح أن الاتجاهات السياسية تنوعت في تونس، ولكن الإجماع يبقى وطنياً من أجل مصلحة البلاد وليس غيرها أبدا.. وصحيح أن حزبا معينا قد حقق نسبة عالية من التأييد، إلا أن المجتمع التونسي لديه من الوعي ما يكفي كي يسقط أي محاولة لقرصنة الثورة، أو استلاب التمدن، أو العبث بالتشريعات المدنية. إن التوانسة يعترفون جميعا بأن ثورتهم لا يمكن قرصنتها فقط، بل ولا يمكن البتة احتكارها من أي طرف من الأطراف. وعليه، فإن الاطمئنان ساري المفعول لما يجري في البلاد. نعم، لقد وجدت الشعب نسوة ورجالا، يمتلك من الوعي ما يكفي لكي يحفظ انطلاقته التاريخية الجديدة، من حي القصبة التاريخي وما يتفرع عنه من مسارب وأحياء نحو الدنيا، دون أي انتكاسة أو نكوص.. ناهيكم عن خلو المجتمع التونسي من مأساة الثارات والأحقاد التي تعيشها مجتمعاتنا الأخرى.
قال لي أحدهم: لا يستطيع أحد من الحكام الجدد أن يستلب شيئا من منجزات ما تحقق، أو يلغي أي قانون مدني، أو يفرض على نسوتنا إرادته، أو يمعن في جعل الشارع على مزاجه.
قلت: وما الذي يجعلك واثقا إلى هذه الدرجة؟ أجاب: لأننا شعب امتلكنا وعينا وإرادتنا، وكنا ولم نزل نعتز بتاريخنا الوطني ونقاباتنا المهنية وتجانسنا الاجتماعي، وسنثور ثانية.. قد تخفق تجربتنا الأولى ديمقراطيا، ولكن وعينا بما يحدث أكبر من التسلط ومن نهب البلاد والعباد.
لقد شهدت في حي القصبة الذي يجمع الدولة والمجتمع معا، حيوية الناس بملصقاتهم وتجمعاتهم واعتصاماتهم وطرح مطالبهم. وعليه، فإنني أزجي تحية كبيرة لميدان القصبة التاريخي، الذي لم يزل يتدفق حيوية ونشاطا وتعبيرا وإرادة. إن جيلاً جديداً منفتحاً يريد السعي لبناء تجربة جديدة، بعيدا عن الاستغلال والقهر والتسلط، والخروج من عباءة العبودية. كنت أشهد حلقات يومية على شاشة التلفزيون التونسي، في برنامج يلتقي بالسجينات التونسيات ذوات الأحكام الثقيلة، وأجمعهن من الشابات اللواتي حكمن بأحكام مؤبدة، ظلمهن المجتمع والبيت والقانون معا، وتمنيت أن يعاد إصلاحهن وتأهيلهن وإعادتهن للمجتمع من جديد.
إن تجربة تونس الثورية، درس تاريخي رائع، ليس للشعب التونسي وحده، بل لكل التجارب العربية الأخرى التي تطمح للتغيير من أجل الحياة الجديدة وإرساء المبادئ الجديدة في القرن الواحد والعشرين، بعيدا عن القرصنة التي يمارسها الأدعياء والأشقياء والعملاء والمرابون والمتاجرون والطفيليون والمتخلفون، في بيئات عربية أخرى .
نشرت في البيان الاماراتية ، 24 كانون الثاني / يناير 2012 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …