الرئيسية / مقالات / ثوار جدعان وعلوج بلطجية

ثوار جدعان وعلوج بلطجية


كثر في الحديث اليوم ونحن نعايش خضم تحولات تاريخية، استخدام تعابير ومصطلحات مثل “البلطجية” عند المصريين، و”الزعران” و”الشبيحة” عند الشوام، و”الأشقياء والعلوج” عند العراقيين.. ولا ندري كم أعداد مثل هؤلاء في مجتمعاتنا حتى يؤثروا في ميزان الأحداث المصيرية؟ ولكننا ندري من الذي صنعهم وقام بتفريخهم في أغلب مجتمعاتنا بهذا الحجم، خصوصاً إذا علمنا أن كل مجتمع يحتوي على بعض من هؤلاء، ولكن لا يمكن تخيّل سيولهم الجارفة الكبيرة في مجتمعاتنا التي تبدو وكأنها محرومة من الهواء الذي يمكن أن يتنفسه الثوار الشرفاء من “الجدعان”.. والمصيبة أن يتصور الناس أن الجميع ملائكة وقديسون ووطنيون شرفاء ومناضلون!
لا أحد يستطيع في طول عالمنا العربي وعرضه، معرفة ما الذي يجري هنا أو هناك في زمن يتفوق فيه خراب البلطجية في المجتمع، بعد أن نالوا من مؤسسات الدولة إثر اختراقها من قبل بلطجية زعماء ومرتزقة! فقد كانت أنظمة الفساد السياسي العربية حاضنة لصنع هذا الخراب، بخلقها لهذه الظاهرة في مجتمعات عريقة.. فالأنظمة السياسية هي المسؤولة عن نمو هذه “الظاهرة” القاتلة، وكان البلطجية وما زالوا يبيعون شقاوتهم وفنون سيئاتهم لتلك الأنظمة، بل إن بعض الأنظمة البوليسية استخدم حتى بعض الفنانين والفنانات في أجهزتها المخابراتية!
فما الذي نجده اليوم، ونحن نرى حجم الخراب الذي يمارسه البلطجيون، الذين بإمكانهم التخفّي بأثواب مختلفة الألوان؟ فهم قادرون أن يكونوا ثواراً مع أية ثورة، بل وقادرون أن يكونوا عقائديين مع أية يافطة أيديولوجية.. وقادرون أيضاً على أن يكونوا أدوات ومرتزقة لهذا المرجع الديني أو ذاك الزعيم الطائفي.. وهم يتحركون في إطار مصالح. إن وزارات الداخلية العربية تتحمّل وزر هذا الغثاء الأعمى الذي عمّ مجتمعاتنا، كما أن بعض حكوماتنا العربية قد اتبعت أساليب سيئة في التربية والإعلام، ناهيكم عن تدني مستويات العيش والانسحاقات والحروب، الذي وّلد كل هذا الدمار الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية.
كانت الأزمات على زمن الدكتاتوريين سياسية محضة، سواء بوصولها إلى ذروة صراعاتها، أم نزولها إلى أسفل أوضاعها. ولكن أزماتنا اليوم بعد مرور أكثر من سنة على اندلاع الثورات العربية، هي اجتماعية بالدرجة الأساسية، ذلك أن مجتمعاتنا العربية تبدو وقد تآكلت دواخلها كثيراً، وتعمّق شرخ الانقسامات الاجتماعية فيها، وتراجعت بنياتها بانهيار جملة هائلة من الأخلاقيات التي كانت مجتمعاتنا قد تعارفت عليها منذ أزمان طوال، وتضخم حجم من أسموهم “البلطجية” ومن على غرارهم، بعد أن اعتمدت السلطات الراحلة على مهمشين ومرتزقة وجواسيس وعملاء وكتّاب مأجورين، وأولاد شوارع ورعاع من سقط المتاع.
وإذا كان بعض الحكّام والرؤساء قد فشلوا في إدارة مؤسساتهم وتسيير حكوماتهم ودولهم، فعمّها الفساد والطفيليون، فإن هؤلاء جميعاً اشتغلوا في مجتمعاتنا بمعزل عن أي وعي بالمواطنة، وبمعزل عن أية أخلاقيات في التعامل، ولا نظافة لهم في كل ما فعلوه في الخفاء.. جاءوا اليوم يزرعون الرعب، ويقتلون الناس، ويخطفون النساء، وينهبون المال العام، ويدمرون المؤسسات.. يشعلون الحرائق ويفجرون البشر.. يهددون ويعذبون ويسيئون.. يبثون الإشاعات وينشرون المآسي..
ماذا نسمّي هذه “الحالة”؟ لماذا تكاثر هؤلاء في مجتمعاتنا؟ لماذا اختلط الثوار الحقيقيون مع الأشقياء الموتورين؟ لماذا غدت مجتمعاتنا نهباً للهواجس والإشاعات والأكاذيب؟ لماذا عمّ التخلّف والانغلاق إزاء قضايا حيوية ووطنية وشعبية ملحة؟ لماذا توالدت قوى خفية شريرة في كل ممارساتها؟ لماذا سقط القانون مع انهيار الأنظمة؟ لماذا يعمّ الفساد في كل مكان؟ لماذا ندر الشرفاء وبدأ الخوف يساور كل العاملين الحقيقيين؟ لماذا تعمّ الفوضى في الشوارع؟ لماذا انهارت جدارات وهمية كانت قائمة بين الدولة والمجتمع؟ من قتل روح الدولة وقوانينها لحساب الإبقاء على السلطة الفلانية أو النظام العلاني؟
ما مصير مجتمعاتنا وهي تنتظر الخلاص من تناقضاتها ومشكلاتها من أجل الاستقرار وفرص التقدم؟ من شجع الرشاوى في المؤسسات الحكومية وخلق الفساد الذي عمّ أغلب مجتمعاتنا العربية؟ من سحق مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين؟ من قتل الاعتبارات الاجتماعية الأصيلة؟ من ضرب بمبدأ المال العام عرض الحائط، وخلق طبقة طفيلية لا أخلاقية جاحدة في المجتمع وتعاملت السلطات معها في صفقات مشبوهة؟ من شجّع انقسامات المجتمع وأسهم في تشظياتها دينياً وقبلياً وطائفياً ومذهبياً وجهوياً.. بعد أن سحقوها سياسياً وبثوا العنصرية وسحقوا الأقليات السكانية المتعايشة بروح المواطنة؟ وأخيراً، من قتل الأوطان ليصبح الزعماء أنفسهم أوطاناً؟
دعونا نسأل: ما العمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
لقد كانت لجيل الأوائل نزعة رائعة بتبشيرهم وتأكيدهم على “الأخلاق”، وأن “صلاح أمرك للأخلاق مرجعه” ـ كما قال شوقي ـ إذ عدّت مرجعاً أساسياً للإنسان، سواء في بيته أو عمله أو في أي مكان يتواجد فيه.. علماً بأن العرب ما زالوا ينتظرون حتى الآن نظرية أخلاقية أو أكثر، ولم نجدها أسوة بشعوب أخرى كي يعمل بها، فيختفي البلطجية نهائياً من حياتنا، وسوف لا نجد بلطجياً في بيته أو مع زوجته وأولاده.. ولا نجده في مدرسة أو جامعة أو مؤسسة أو سوق أو شارع.. وسوف يختفي كل البلطجية العرب، بدءاً ببعض الزعماء الذين يتصرفون كذلك، ووصولًا إلى بلطجية لبسوا لباس الدين.. ونزولاً إلى الآلاف المؤلفة من المهمشين في المجتمع!
فهل سيتحقق ذلك؟ إنني أشك!

نشرت في البيان 14 شباط / فبراير 2012 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …