الرئيسية / افكار / انتهازية الطفيليين.. جوقاتٌ سَحَقت القيم وبددّت المَبادئ

انتهازية الطفيليين.. جوقاتٌ سَحَقت القيم وبددّت المَبادئ


مخاطر الطفيليين
كنت قد عالجت هذا ” الموضوع ” في جريدة النهار البيروتية في 10 / 1/ 2003 ، وكنت مخصصا مقالتي عن رهانات بعض المثقفين الذين أصابهم عمى الألوان .. وها أنا ذا أعالج اليوم انتهازية طبقة جديدة ولدت وتنامت في مجتمعاتنا ، وتمثلها جوقات من الطفيليين السيئين الذين سحقوا مجتمعاتنا بشكل كبير، وجنوا على حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية بشكل خاص .
هنا ينبغي تعرية مواقفهم اللاأخلاقية ، وان يتم انتقاد أفعالهم الدنيئة،وتفكك علاقاتهم المشبوهة، والتعرّف على تناقضاتهم وتعاطفهم في كل آن مع هذا أو ذاك .. مهرجون ومتوحشون .. نفعيون وأنانيون .. جشعون لا يشبعون ، ولا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية،نعم لقد حظي المحيط السياسي والثقافي والإعلامي العربي والإقليمي منذ أزمان بزمر من الناس الانتهازيين والطفيليين الذين يقدمون أنفسهم للعالم كسياسيين أو رجال أعمال ، أو مثقفين ومحللين سياسيين وخبراء استراتيجيين ، بل وحتى مفكرين ووصل الأمر ليحمل بعضهم درجة دكتوراه مزيفة وكاذبة،! وهم تحركهم عقولهم المريضة وضمائرهم الميتة ، وتسيّرهم مصالحهم الذاتية الانوية ، ومنافعهم الشخصية التي يبنونها على أسس انتهازية متهافتة في كل ما يذيعونه في العلن وخصوصا على شاشات الفضائيات، فهم كاذبون ومخادعون في كل ما يصرحّون به في الأماكن العامة ، أو ما يكتبه البعض منهم وينشره .. وهم يملأون الدنيا ضجيجا وصخبا إزاء قضية من نوع ما أو أمر عن موضوع ما .. فإذا ما تبدلت الأمور ، تجدهم لا يكتفون بالسكوت والانزواء والخجل ، بل يطلعون علينا وقد بدلوا جلودهم ، وغيروا ضمائرهم وانقلبوا إلى الضد ، باعتبار أن مصالحهم الشخصية المتدنية وأفواههم وكروشهم المتدلية قد وجدت نصيبها في مكان آخر. لقد كانت ” الكلمة ” تمّثل شرف صاحبها وتاريخه عند مثقفينا وسياسيينا ورجال الأعمال الأوائل في مجتمعاتنا ، متخذين من مبدأ ” يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ” أساسا في تعاملهم مع كلامهم النظيف الصادر من الأعماق وكلمتهم الواحدة التي يعرفهم الناس من خلالها ، إذ يحسبون جزءا منها ويحاسبون عليها كونهم يسجلون موقفا في تاريخهم الشخصي ، لكن الأعراف والأخلاق ومجمل التقاليد الأصيلة التي كانت مشاعة ، قد ذهبت مع أصحابها كما يبدو أدراج الرياح منذ زمن ليس بالقصير أبدا !

المواقف الراسخة رسوخ الجبال
نعم، شهدنا تفسخا قيميا وأمراضا نفسية وانسحاقا تربويا وتخلفا ثقافيا .. ممثلا في عدة فصول تاريخية خلال نصف قرن مضى ، وقد تشكلت أزماته لدى الأجيال اللاحقة .. وقد توضّحت المهزلة بتصادم مجموعة من التناقضات الأيديولوجية ، والخطابات الثورية ، والبيانات العسكرية ، والتشدقات الحزبية ، والشعارات الكاذبة .. وزاد الفساد مع فورة الثروات النفطية ، فلقد حلّ فساد عارم في الضمائر ، فتشكلت على مدى الأيام تقاليد غريبة من المنافع الضارية التي تحركها الأكاذيب ، والمفبركات ، والمواقف الآنية ، والسجالات ، والعنتريات ، والمشاكسات والسباب والشتائم في الإذاعات ، واستعراض العضلات في الصحف والمجلات ومؤخرا فجاجة بعض القنوات والفضائيات ، وهي تتحدث بغلوائها باسم الثقافة والمثقفين أو باسم الدين.. ناهيكم عن أولئك النهابين والمختلسين والوكلاء والمرتشين وأصحاب الملايين .. واغلبها مواقف مشتراة وبعض ذمم مغرقة بالأوحال لمرتزقة يبيعون ضمائرهم بسرعة شديدة.
ولم يكتف أصحاب تلك الموجات التي ساقتها الظروف أيام الحرب الباردة بما ينشرونه ، أو ما يذيعونه من أقاويل صارخة وبكائيات عاطفية جارفة وتصريحات في الإذاعات الهائجة ، بل ثمة من راح يؤلف الكتب والمذكرات ويعقد الحوارات ويسجل المقالات ليشوه تواريخ كاملة بأكاذيبه واختلاقاته ومفبركاته التي ربما ينخدع بها الناس حتى اليوم.

نماذج من واقع سياسيي وسلطويي اليوم :
كلنا يتذكر كم كانت ولم تزل تصدر حتى اليوم مجموعة كبيرة من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية العربية في الخارج والتي تمّولها جهات عربية معينة ، إذ وصل الأمر في عقدي السبعينيات والثمانينيات أن دولة عربية واحدة، كانت تمّول مجلات لا حصر لها لكي تشيد ببطولاتها وأمجادها وتستضيف في كل حين العديد من الكتاب التافهين وأنصاف المثقفين الذين يمجدونها ويكتبون عنها ، وهي تنفق الملايين عليهم وشراء الذمم والأصوات.
ولما انهارت تلك الدولة انقلبت عدة مجلات وصحف .. كانت تسبح بحمدها صبح مساء لتغدو من أعدائها تذمها وتلعنها نهارا جهارا، وكم من كاتب وشاعر وفنان وأعلامي يندفع إلى أقصى مداه في مدائحه وكتاباته إزاء طرف من الأطراف حتى إذا ما انقطع ما يرده منه ، تركه ليغدو أجيرا ومرتزقا عند آخرين !
اليوم بالذات يمكن لأي قارئ ومتابع أن يرصد اختفاء عدد من أمثال هؤلاء عندما كانوا يدافعون دفاعا مستميتا عن قضية تحت حجج الأمة والعروبة والإسلام والشعب ، أجدهم ينبطحون وينقلبون رأسا على عقب ، وقد وجدوا بأن المعادلة ستنقلب ضدهم ، أي بمعنى أن الموقف غدا ضد مصلحتهم ومنفعتهم .. ولما كانوا معروفين واحدا واحدا للناس ، فسوف لن يتوقعوا أنهم سيحافظون على سمعتهم، لقد أصبحت المبادئ التي يتشدقون بها بمثابة متطفل يجلس على كل الموائد ويأكل منها وسرعان ما يبصق فيها، إنهم لا لون يميزهم ، ولا طعم ولا رائحة عندهم .. تراهم جميعا وقلوبهم شتى : يبدلون مبادئهم صباح مساء ، فتراهم على أشكال متعددة ! إنهم لكل شيء يصلحون ما دامت الصفقة فيها منافعهم التي يلهثون من ورائها أناء الليل وأطراف النهار .

أهل مكة أدرى بشعابها
إنني لا أهاجم الناس أجمعين بالطبع ، معاذ الله ففيهم من العقلاء والكرماء والنزهاء والشرفاء ، وإنما أهاجم فقط ذاك البعض الذي رضي أن يكون بوقا لهذا الطرف أو ذاك ، أو ممّن تعّود على عقد الصفقات وتسلّم الكومشنات . وكم هي الحاجة ماسة في مثل هذه الظروف العصيبة إلى المواقف النظيفة للمسؤولين الذين عندهم الفرص السانحة ، بأن لا يتطفلوا على الآخرين ولا على الدولة ولا على المال العام .. ولا يسعوا إلى السلطة من اجل النهب ، واستخدام أقصى درجات الانتهازية والديماغوجية ضد الآخرين،سؤالي : لماذا لم يكشف عن هؤلاء ، ويحقق معهم ليحاسبوا إن اكتشفت تجاوزاتهم واختراقاتهم . قد يسألني سائل ومن حقه أن يسأل ، أقول : لقد غابت الموازين اليوم في الدفاع عن الحق والعدل مقارنة بما كانت عليه موازين الماضي حيث يقف المتابعون من النقاد الملتزمين ، ليشهروا بياناتهم وآرائهم ويوضحوا مواقفهم إزاء القضايا التي يجمع عليها كل الناس بل أن بعض المثقفين والصحفيين دفع حياته ثمنا لمواقفه الملتزمة إزاء قضية معينة واحدة.

زمن المفارقات الصعبة
ان القضايا في الماضي كانت متلاقية ومتشابهة ومتلازمة في مبادئها وأهدافها ، فنالت تعاطف العالم اجمع عليها في ظل وجود انعكاس ثنائي في الإرادة الدولية للتوازن الدولي ، أما وقد غدت قضايا اليوم مضطربة وغير متلاقية وغير متجانسة لا في المبادئ ، ولا في الأهداف ، ولا في النتائج المصيرية ، فمن الأجدى أن يكون الإنسان حريصا على تاريخه ونظافة سجل حياته بأن لا يقحم اسمه في حلبة الرقص هذه أو يندفع بهز جسمه في حلبة أخرى . لقد كان الملتزمون العرب قد هزتهم فجيعة يونيو / حزيران 1967 هزا عنيفا مثلا ، فهناك من اعتل ، وهناك من مات ، وهناك من انتحر ، وهناك من انقلب على عقبيه من كتابات داعرة إلى أشعار ملتزمة .. الخ لقد كانوا برغم كل أخطاء البعض منهم: أصحاب مواقف صلبة وذوي كلمة حرة ونزيهة واستنارة وإجماع إزاء الاستقلالات الوطنية والثورات المسلحة والكفاح الوطني. كان ينبغي علينا أن نتذكر بأن الاصطفاف من قبل أولئك الناس من مسؤولين ومثقفين وساسة واعلاميين .. ، كان إلى جانب الشعوب والدفاع عن مصالحها وقضاياها العادلة ، ولم يكونوا من الطفيليين حيث ان اصطفافاتهم وانحيازاتهم إلى غير ذلك أبدا .

حالتنا العربية انعكاس للحالة العالمية
أذكر أنه لم يكن أمر المثقفين العرب سابقاـ مثلا ـ سواء كانوا من الملتزمين أم المستقلين ، من الراديكاليين أم من الليبراليين معزولا عن مواقف مجايليهم من المثقفين في العالم أجمع ، بمعنى أن الأزمة التي يعاني منها المثقفون العرب اليوم هي المتأثرة بما يموج من تيارات معاصرة للمثقفين الذين يختلفون أيضا في المواقف التي يتخذونها ، وربما اصبحوا اكثر حيادية من التورط في التصفيق لقضية معينة يندمون عليها لاحقا ! لقد وقف اندريه جيد ضد الحرب البشعة في المغرب ، ووقف سارتر ضد الفرنسيين في الجزائر ، ووقف اندريه مالرو ضد فاشية فرانكو في إسبانيا .. ومشى ميشال فوكو مع تظاهرات الطلبة في الشوارع .. الخ على عكس ما نراه اليوم من لحاق عدد من كبار المثقفين الأوروبيين وراء بعض الحكومات تمسحا بها ونيل رضا هذا المتسلط أو ذاك المتعفرت، إن على المهتمين واجب مقدس إذ أرى لزاما عليهم أن لا يرموا بثقل كلمتهم في أي اتجاه، ويكونوا أصحاب ضمير ثابت ويقدموا أصحاب أية قضية على أنفسهم ، فأهل مكة أدرى بشعابها !

المثقفون الملتزمون
السؤال الآن : هل يمكننا أن نعد أولئك الذين يغيرون مواقفهم وجلودهم ويستبدلون قمصانهم ويمدحون هذا ثم ينقلبون عليه من المثقفين الحقيقيين؟؟ وهل هم جديرون بحمل لقب ” مثقف ” ؟ خصوصا وأنهم أصبحوا يخلطون بين هذه القضية المصيرية وتلك المسألة الإستراتيجية عن غباء ؟ وإذا كان عمى الألوان قد أصابهم ، فهم مستعدون كي يغيروا قمصانهم الملونة في كل حين إذا ما تغير الواقع وفرضت عليهم حقائق جديدة ..
عندئذ سيكونون ليس بمناصري سلطة فجة حسب ، بل بدء مرحلة هشة ! ولا ريب أن الإنسان الحقيقي هو ذاك الذي يعيش اليوم أزمة صعبة ، ويشعر بالحرج من أن يلوث اسمه وتاريخه بالمواقف السياسية الرجراجة وغير النظيفة ، أو أن يصبح اسمه مجيرا لهذا الطرف أو تلك السلطة أو ذاك الحاكم ..
أو أن يكون مخلب قط تستخدمه بعض القوى والجماعات والأحزاب إلى حين ، فإذا ما كان حرا طليقا وقال شيئا رموه بأشنع التهم وأوسخ الصفات! أقول ذلك وأنا اشعر بتعدد أنواع البشر في مجتمعاتنا : نوع يعشق الأضواء والكاميرات والشاشات الفضائية والمؤتمرات الفضفاضة ويطلق من خلالها العنان لنفسه أن يصنف نفسه في عداد المحللين والمثقفين المناضلين المدافعين عن الأمة والشرف والدين، ونوع هاجر من دون رجعة وربما ينّظر في مشاكلنا من وراء البحار .. ونوع سئم هذه الجوقات التي تجمع تشكيلتها كل الألوان وبقي ملتزما بتفكيره وثوابته الأولى ولديه القدرة في استكشاف الممرات بين لجاج المستنقعات الآسنة التي لا تجف أبدا، فهل سيتغير هذا الحال المألوف إلى حالة نزيهة وحقيقية أفضل ؟ إنني أشك في ذلك.

نشرت في الصباح البغدادية ( عمود : مكاشفات عراقية ) ، 10 شباط / فبراير 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …