الرئيسية / افكار / لغة أولاد الشوارع.. القيم المفتقدة لدى باعة خردة !!

لغة أولاد الشوارع.. القيم المفتقدة لدى باعة خردة !!

شتم أحدهم رجلاً حكيماً فأجابه هذا: (يا ولدي, اذا رفض امرؤ قبول الهدية، فالى من تعود؟ فأجابه الرجل: (الى مهديها.) قال الحكيم: (أذن, أنا أرفض إساءتك) .

معايير : متى تتخلصون من أسلوب المشاتمات ؟
من البساطة أن يسّب الإنسان ويشتم الآخرين، ولكن يكون قد خرج عن معاييره الإنسانية ، وبان ضعفه وخوره أمام الأقوياء الذين ليس باستطاعته أن يحاورهم أو يجادلهم أو يقارع حججهم .. ومن السهولة أن تستخدم كل وسائل التجريح والإساءة والرموز البدائية إن كنت متخلفا وجاهلا وليس لديك أسلحة كافية ولا أدلة وافية، ولكن إن كنت أخلاقي المهنة وواسع الأفق ، وقوي الرؤية ، وعميق الثقافة، فمن السهولة أن تجادل الآخر وتأخذ وتعطي معه ، وخصوصا ، إن كانت هناك أخطاء جسيمة في المعلومات والحقائق وتباين في الرؤية والمواقف .. أما أن تكون هناك آراء وأفكار وأحكام واجتهادات.. فأتمنى علي أي فرقاء أن يستوعبوا ذلك ويقابلوا الرأي بالرأي والحجة بالحجة وان يدققوا في المعلومات وبأسلوب ديمقراطي خال من الترصد والسماجة والنقمة وبث الكراهية ونشر الفتنة والتعبير عن أحقاد وسموم وكراهية عمياء .. إن اختلاف الناس المتمدنين وتباين أفكارهم ورؤاهم هو غير اختلاف أولاد الشوارع فهؤلاء يصارع احدهم الآخر على توافه الأمور .. فما الذي يدعو الإنسان المتحضّر للتخلّي عن روعته وسموه وأخلاقياته ومعلوماته ومعارفه كي ينحدر لأسباب واهية لا معنى لها في استخدام تعابير غير لائقة ضد الآخرين ، سواء كانوا اعلي منه مكانة أو أدنى منه قدرا ؟

درس مفقود متي يستعيدونه؟
كنت أشاهد إحدى القنوات الفضائية الدينية ، فطلع احدهم على الشاشة في برنامج تلفزيوني مطول اسماه بـ ” الإسلام الشرير ” ، ويقال انه نفسه صاحب القناة التي لا يعرف أحد من يمولها ، ومن أين تبث برامجها ، فإذا به يهذي هذيانا ضد الإسلام عموما ، ولم يجد من السيئات إلا وصفه بها ، ولم يجد من الشتائم ما كالها لنبيه ورسوله الأعظم .. ولم يجد سبابا إلا الصقها بالملايين من أبناء الإسلام الذي أتهمه هذا بأقبح الصفات .. والتفت إلى مصر ليقدح بها وبمجتمعها ، وينال من رجالها وحكومتها وكل العرب والمسلمين فيها .. لقد صعقت وإنا أرى واسمع أقذع الكلمات ، وأوسخ التوصيفات ، وأسوأ التشبيهات ، واخطر التهديدات تكال على مدى ثلاث ساعات من الزمن وعلى لسان شخص لن يترك لنفسه أي هامش يتحرك عليه ، ولا أي خط رجعة يمكنه أن يتراجع منه .. هل وصل الانحدار بالإنسان حتى يلصق التهم جزافا بحق امة كاملة ومجتمع كامل عن حدث مأساوي لا يمكن أن تكون كل مصر مسؤولة عنه .. ولا يمكن أن يكون دين يؤمن به الملايين من البشر مسؤولا عنه .. ولا يمكن لحكومة بلاد أو رئيسها أي مسؤولية لهم فيه ! إن من له عقل راجح وهو يرى ويسمع ما يعرض على شاشات الفضائيات بالعربية ، سيبكي طويلا بالذي حلّ في مجتمعاتنا من تفسخ وتشرذم وكراهية وأحقاد يزرعها مثيروا الفتن .. إن من له أي قدرة في تقييم الحياة هو غير من لم يفّكر إلا في رهاناته وكيفية تجريحاته ليشفي غليله.. إن أسلوب الإثارة والتقولات والمنشورات والمقالات الهستيرية تزيد من مشكلات الواقع وتمزيقه، وتزيد من إضرام النار في الهشيم بإشعال الفتنة التي لا يمكن أن تنتهي إلا بالمآسي والكوارث .
إننا نرى حجم التهافت وانعدام الأخلاق باستخدام وسائل إعلامية جديدة ، ونشهد إسفافا مريعا في حجم ما ينشر على الملأ من خلال المواقع الالكترونية والقنوات الفضائية وحتى بعض الصحف والكتابات اليومية .. إن ما ينشر يثير الاشمئزاز والقرف حقا ، خصوصا عندما يتحّول المرء من نقد الفكرة والموضوع والرأي والموقف إلى إطلاق كل البذاءات الشخصية ويفتح قاموس كل الشتائم السوقية ، وكأنه بذلك يشفي غليله ويطفئ احتراقاته .. إن هذه ” الأنماط ” من البشر تريد بهذا الأسلوب أن تجعل من ذواتها أبطالا تتناقل الناس أقوالهم ، في حين أنهم لا يسيئون إلى من يتناولونه بالذم والقدح بقدر ما يسيئون بذلك لأنفسهم حقا . إنهم ليسوا من جيل الشباب فقط ، بل أنهم من الذين شاخوا على هذا ” النمط ” من الأخلاق .

تساؤلات بحاجة الى اجابات
متى يترك اغلب هؤلاء هذه التركة الثقيلة من البذاءات ؟ متى يؤمنون إيمانا حقيقيا باختلاف الرأي ؟ متى يحاولون تأسيس أخلاقيات جديدة في التعامل الحضاري المتمدن على اقل تقدير ليتركوا لغة أولاد الشوارع لأصحابها ؟ متى باستطاعتهم أن يتعلموا ردود الفعل التي ينبغي أن تتسّم بالهدوء من دون أي انفعالات ذاتية ؟ متى يبعدون الذات عن الموضوع ؟ متى يتخلصون من أحادية الرأي وكأن كل واحد منهم هو المالك للحقيقة الناصعة وكل الآخرين على ضلالة وكل ضلالة في النار ؟ متى يشعر الإنسان انه حامل رسالة محبة وود وإخاء لا حامل صولجان ونجوم أو يتحزّم بسكين قاطع يستعرض بها العضلات ؟ متى ينجح في تمثيل إرادة الجميع في إيصال رأيه أو فكرته أو تظلمّه أو صوته بتواضع حتى وان اختلف بها عن الآخرين ؟ متى تتسّع مداركه ليكّون صاحب أفق عريض من التفكير بدل أية ضحالة أو هشاشة ؟ متى يحترم كل أبناء وطنه إن كان مثقفا حقا ويتخلص من نزق الماضي ؟

شتم الآلهة والعبيد معا
قلت في مقال منشور لي منذ سنين : ” نعم ، انك تقف عند صحون يجتمع فيها عدد من نساك ومتبتلين وبكائين ومتصوفة وفي الطرف الآخر تستمع إلى أقذع أنواع الشتائم والسباب بحق كل الآلهة ! إن الثقافة العربية تزدحم بهذا النمط من الشتائم ، ولكن بدرجة أو أخرى من التفاوت .. وقد عرف العرب شعر الهجاء والكلام المقذع والأساليب البذيئة والاهانات المتعمدة .. فهل من سبيل للخروج عن هكذا أطوار من ردود الفعل التي تعبّر عن سايكلوجيات غاية في التعقيد والجنوح ؟ إنني بقدر ما انتقد الكلام السليط والتعابير الجارحة التي يستخدمها العامة في كل مكان من دون أي أصول ولا أي قيم أو أخلاق .. فإنني لا يمكنني أن اتخّيل إعلاميا يطلق السباب والشتائم بحق آخرين من الآلهة إلى العبيد وكأنه شقي من الأشقياء ! ” . إن لغة الشتائم وأساليب السباب وإذاعة البذاءات وقلة الأدب لا يعرفها جميعها إلا الضعفاء والتافهين والمهرجين والرداحين والمرتزقة والافاكين .. وما أكثرهم في مجتمعاتنا العربية .. لا يغرنك انك تراهم في مراكز حزبية ، أو في ثكنات عسكرية ، أو أنهم أصحاب مهن عليا ، أو أعضاء في منتديات وجامعات أو محررين في صحف ومجلات .. فهم يعّبرون عن مستوياتهم الأولى ومنابتهم الحقيقية والأساليب التي رضعوها من آبائهم وأمهاتهم .. أو أنهم مرضى نفسيين تجدهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال .. فهم يبقون أولاد شوارع طوال حياتهم !

لم لا يدركوا اسلوب النقد ؟
إن الملاحظات القوية اللاذعة شيء والكلام السوقي المبتذل شيء آخر .!! إن توجيه الطعون والتصويبات شيء وان توجيه اللكمات والصفعات شئ آخر !! وربما كان المتلقي مستعدا لتلقي كل ذلك وربما كان المتلقي غير مستعد أبدا لذلك .. ومن أسوأ الطباع أن تفقد حسن التعبير لتتكلم بمنتهى الفظاظة عن أمر عام .. ربما كان موضوع الذات لا يحتمل التأخير أو الصبر ، كونه يتعّلق بالكرامة الشخصية ، ولكن اختلاق الأسباب لأمر عام ، فلا يمكن أن يعامل الآخرون بسبب معاملة سوقية .. ومهما القي من التهم الجاهزة ، فالمتهم برئ دوما حتى تثبت إدانته .. فان كان الشتامون على صواب ، فليثبتوا لكل العالم التهمة بشكل واضح وعرض كل الشواهد والقرائن والوثائق .. إن مصيبة مجتمعاتنا أن أبناءها تربوا منذ خمسين سنة على ثقافة اتهام الخصم من قبل ثقافات الإذاعات المستهترة ، والأحزاب المؤدلجة ، وثقافة الدعايات السمجة التي كان يرتل مضامينها الإعلام الرسمي في الإذاعات .. أي ثقافة هذه التي يحملها مثل هذا النفر الذي يدرك انه يخاصم ، ولكن لا يدرك ما الآلية الذكية في المواجهة ؟؟ أي أخلاقيات هذه التي يدعّيها مّمن يستخدم ارق التعابير وأنبل الألفاظ .. وبسرعة ينقلب انقلابا فّظا ، فيقوم بسحق كل أدواته مستخدما أوسخ التعابير ؟

صناعة الخصومات
ان المسألة برمتها لا تتعلق بالشأن العام بقدر ما تتعلق بحالة التوتر ، وحالة الغضب ، وحالة النقمة ، وحالة الغيرة ، وحالة الحسد والإيغال في الكراهية من دون سبب حقيقي أو تهمة مؤكدة وهي منتجة لكّل هذا ” الزبد ” وكل منتجات الأعماق وبتعابير غاية في البذاءة وقلة الأدب .. إن ما يعلنه البعض من شتائم وسباب لا يمكن لأي مجتمع عاقل ان يتجاوزها من اجل مستقبل واحد يجمعهم في سلة واحدة ومصير محتوم !! إن هذه الثورة الهمجية من البذاءات وما يتفوه به البعض لا يمكنه أن يسجل أي نوع من اللقاء .. إلا إن كانت الأوجه والنفوس قد وصلت الى حدود دنيا من الصفاقة وانعدام الأخلاق !! وأسأل : لماذا كل هذه الكراهية ؟ وهذا الغل ؟؟ لماذا تراكم كل الأحقاد ؟ لماذا يخالف هذا ذاك فيشن عليه مهرجانا من الغضب الرخيص ؟ ولعّل المزايدات الوطنية هي عناوين شرف يحتلها هذا دون ذاك .. وكأن المباريات في المعتقدات محتكرة من قبل أناس دون آخرين !! وكأن استعراض الرجولة لا يتم الا من خلال جعل الآخرين أطفالا مغررا بهم !!

وأخيرا : ماذا نفعل ؟
على جميع هؤلاء وأمثالهم الذين يستخدمون هذا الأسلوب الدعائي المضاد للحياة المدنية ، إنما يثير بعمله هذا فتنة عمياء في المجتمع ، كما وانه يزيد من تعقيدات الانقسام الاجتماعي من خلال التفرقة السياسية ، وفي مجتمع لا تجانس فيه ، وهو يفتقد الانسجام يوما بعد آخر . إن هذا الأسلوب الذي اخذ ينتشر انتشارا مذهلا بسبب الثورة التكنولوجية والميدية التي تجتاح العالم كله اليوم سيؤدي إلى نتائج مدمرة ! إن على مجتمعاتنا أن تعي حجم وتأثير هؤلاء على الناس .. فضلا عن ضرورة القيام بثورة تربوية تتعلم منها الأجيال القادمة كيف تتعامل مع هكذا ظواهر سيئة للغاية .. إن ما يجري اليوم في الساحة الإعلامية العربية ، يثير القرف والاشمئزاز حقا .. ولابد من إيجاد جملة من السبل والمناهج التي تستأصل الأخطاء وتضع البدائل . فهل سنشهد اختفاء لهذه الظاهرة في يوم قريب قبل أن يستفحل داؤها ، وتفنى مجتمعاتنا بسببها ؟ إن الديمقراطية لا تسمح للآخر أن يتجاوز عليك ويشتمك ويسيء إليك باسمها ! إن الحرية لا تتيح للآخر أن يتطاول عليك .. بل إنها تمنح كل إنسان أن يعّبر عن رأيه ، ويخالف الآخر ! إن حقوق الإنسان لا تبيح لكائن من كان أن يعتدي على الآخر ، سواء كان ذلك الآخر مؤسسة ، أو كيانا ، أو طائفة ، أو مجموعة ، أو إنسانا .. إن لغة أولاد الشوارع وما تتضمنه من سباب وشتائم تعد اعتداءات صارخة ضد حقوق الإنسان . فمتى تعي مجتمعاتنا الدروس تلو الدروس ؟

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4310 ، 15 يناير / كانون الثاني 2011 . ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyarajamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …