الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / العراق الملكي : هل حكمه أولاد الانكشارية ؟

العراق الملكي : هل حكمه أولاد الانكشارية ؟

طالعنا الصديق الدكتور عبد الخالق حسين يوم أمس بمقال جديد عنوانه : ” الحل لأزمة تشكيل الحكومة ” ، وقد مضى كعادته في الدفاع عن رئيس وزراء العراق الحالي ، ونال كعادته من مؤسسي العراق الحديث ، وهو يقّدم رأيه لازمة تشكيل الحكومة ، ولا ادري ما علاقة فيصل الاول ونخبته بموضوع تشكيل الحكومة الحالية ؟ ان من حقه أن يشيد ويدافع ويجامل لمن يريد من اشخاص يقودون العراق اليوم ، ويعدد لنا ايجابياتهم ويتناسى مثالبهم وسلبياتهم ! هذا ليس مهما بالنسبة لنا ، فالعراقيون يدركون اليوم انتفاء أمنهم ، وحجم مآسيهم ، وانهيار مؤسساتهم ، واستلاب ثرواتهم ، وانعدام خدمات دولتهم لهم ، وانشغال مسؤوليهم بالسلطة التي وجدوا انفسهم عبدة لها ، بعيدا عن آلام العراقيين وتشردهم وخواء حياتهم ، وبطالة أبنائهم ، وقتل بعضهم بعضا .. وكنت أود مخلصا ، لو اعتنى الدكتور عبد الخالق مذ ذهب الى العراق وعاد منه بالدفاع عن العراقيين شعبا وواقعا ، بدل الدفاع عن اشخاص معينيين بالاسم .. ربما كان بعضهم مخلصا ، ولكن المسؤولية لا تعفي صاحبها من تحّمل المسؤولية عن جنايات فساد ، وتهم رشاوي ، واظهار تحقيقات عن احداث عديدة والتكتم على احداثياتها ، واقالة وزراء ، وهروب وزراء .. وعن عمليات نهب منظم لأموال العراق ، وعدم محاسبة المقصريّن .. الخ
إن ما دفعني حقا اليوم للرد على الأخ عبد الخالق قوله بالنص : ” نبدأ بتأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، والتي كانت نتيجة مباشرة لثورة العشرين، حيث ولدت على يد بريطانيا المحتلة، وبمساهمة نخبة من عراقيين، مدنيين وعسكريين، معظمهم من أصول تركية وأحفاد المماليك والجيش الانكشاري، وخريجي المدارس العسكرية في الدولة العثمانية. وقد فرضت عليهم بريطانياً ملِكاً عربياً استوردته من الحجاز – هو الأمير فيصل بن الحسين- ورضي به العراقيون وخاصة قادة ثورة العشرين، لثلاثة أسباب: الأول، لأنه فُرِضَ عليهم بإرادة أجنبية (الدولة المحتلة)، والثاني، لأنه من النسب العلوي وسلالة النبي محمد من جانب ابنته فاطمة الزهراء، وثالثاً، لأن كل واحد من قادة ثورة العشرين، وهم شيوخ عشائر عربية، كان يرى في نفسه هو الأولى من غيره بالمنصب، ويرفض أن يخضع لغيره من أقرانه الشيوخ ليكون ملكاً عليهم. ولما رشح السيد طالب النقيب نفسه للمُلك، تم نفيه إلى جزيرة هنغام الهندية،… ” ( انتهى النص ) .
لا يا اخ عبد الخالق .. ما هكذا يكتب التاريخ ، وبالذات تاريخ العراق ! لا يمكن ابدا ان يسجّل بهذه الروحية العدائية التي لا تقوم على أي اساس من الصحة ابدا . ودعني هنا احدد اجابتي على ما نشرت اعلاه بالنقاط التالية :
اولا : لم يكن هؤلاء الذين حكمت على معظمهم بنخبة عراقية من أصول تركية واولاد انكشارية واحفاد مماليك .. فهم عراقيون من صلب عراقيين ، ساهموا مساهمة حقيقية في بناء دولة ، فالملك فيصل الاول ما كان بامكانه لوحده ان يبني دولة ، لولا طاقم عمل اشتغل بمعيته ليل نهار ، وأدى الجميع خدماتهم على احسن ما يرام في ظل ظروف صعبة وموارد قليلة .. فمنهم من اعتقل وسجن ، ومنهم من نفي وتشّرد ، ومنهم من قتل ، ومنهم من انتحر ، ومنهم من سحل وقطّع جسده .
ثانيا : كان من حسن حظ العراق أن يتولى حكم العراق رجل له ميزاته وخصاله السياسة وسمعته الدولية ، ولم يتم استيراده على أيدي الانكليز بضاعة متهرئة ، كما تمّ استيراد الأمريكان لعراقيين من سقط المتاع بعد عشرات السنين . فيصل الاول ، رجل تاريخ وقضية ، جاء بمحض إرادة عراقية وطنية ، ولم يفرض فرضا على العراقيين .. حكم العراق وخلق منه شخصية دولية ، وسواء اختلف العراقيون بتقييمهم له ، فسيبقى هو الزعيم الوحيد الذي تبلورت نزعة العراق الوطنية على يديه . لم يوّقع على إعدام عراقي واحد ، وكان يراعي حقوق الجميع .. وفي عهده كان هناك أفضل مجالس نيابية ، وافضل صحافة ، وغدا العراق على عهده مؤسسا وعضوا في عصبة الأمم ، ولم يرحل الرجل الى بارئه ، إلا والعراق قد نال استقلاله .
ثالثا : سواء كان معظمهم أحفاد مماليك أو أولاد انكشارية ، فالعراقيون متنوعون ، وهم كلهم بشر يتمتعون بحق المواطنة العراقية مهما أسميتهم ، سواء من قدماء ومهاجرين ، من عرب وغير عرب ، من مسلمين وغير مسلمين ، من اصول ومن فروع ، من ابناء مدن وارياف ، من عوائل او عشائر .. الخ فماذا تريدهم ان يكونوا حتى يحكموا العراق ؟ لقد حار بنا العالم ، واصبحنا اليوم اضحوكة لكل الدنيا ، فالعراقيون يتشكلون من عرب وكرد وتركمان وكلدان وآثوريين وأرمن وشبك وكاكائية وبقايا ايرانيين وقوقازيين ومهاجرين نجادة وشوام وهنود .. الخ من مسلمين ومسيحيين وصبة ويهود ، فهل يشكّل ذلك عيبا ؟ ما الفتك مثل هذا يا صديقي بسخريتك من احفاد كذا واولاد كذا ..
رابعا : أتمنى عليك ان تعيد النظر طويلا عندما تقترب من كتابة تاريخ العراق ، فثمة حقوق واصول في ذكر الناس من دون الاستهانة باصولهم واعراقهم ، وهنا اسألك : من كان من احفاد المماليك او كان من اولاد الانكشارية ؟ حددّهم بالاسم لو كنت قد تأكدت من ذلك عن معظمهم كما قلت ، ونحن نعرف اعضاء تلك ” النخبة ” واحدا واحدا ؟؟ هل كان رستم حيدر ؟ ام جعفر العسكري ؟ ام عبد المحسن السعدون ؟ ام نوري السعيد ؟ ام توفيق السويدي ؟ ام ناجي الاصيل ؟ ام ناجي السويدي ؟ ام عبد الرحمن النقيب ( نقيب اشراف بغداد ) ؟ ام عبد الهادي الجلبي أم جعفر ابو التمن ؟ كلهم عراقيون باستثناء رستم اللبناني الشيعي والتكنوقراط الرائع الذي قتله العراقيون ظلما وعدوانا ! وثمة نقطة اخرى اريد التنبيه اليها ، ذلك ان التاريخ لا يمكن كتابته من دون مصادر معلومات .. ولا يمكن الاشارة فقط الى كتاب يتيم ، من دون الاعتماد على وثائق ومصادر اصلية .
خامسا : دعني اوقفك قليلا عند اعضاء الوزارات العراقية على عهد الملك فيصل الاول ، لنرى من كان من احفاد المماليك واولاد الانكشارية ، سواء كنا قد اتفقنا مع سياستهم ام اختلفنا عنهم ، واذا كنت تخالفهم لأسباب وجيهة فلماذا تسخر من اصولهم ؟ وكلهم اصولهم معروفة ان كنت تريد معرفتها على عكس نخب حزبية حاكمة اتت من بعدهم ، لا يعرف أحد اصل المنتمين لها ولا فصلهم ! وعليه أسألك :
هل هو عبد الرحمن النقيب ( نقيب اشراف بغداد ) ؟ ام وزير داخليته الشخصية الكردية الجريئة توفيق الخالدي ؟ ام الفريق اركان حرب جعفر العسكري بطل الحرب الطرابلسية والقائد الاقدم من اتاتورك نفسه ؟ ام ساسون حزقيل اليهودي العراقي القديم الذي خدم العراق واموال العراق بالتعامل مع العالم بالذهب لا بالورق ؟ ام ناجي السويدي رجل القانون الشهير واستاذ كلية الحقوق العراقية ؟ ام عبد المحسن السعدون ، المثقف من زعماء آل السعدون العرب في المنتفج ؟ ام محمد علي هيبت الدين الشهرستاني وهو عراقي معروف بعائلته العريقة ؟ ام عبد اللطيف المنديل وهو من اعيان الناس واثريائهم ، ومن صلب عوائل البصرة المعروفة ؟ ام جعفر ابو التمن وزير التجارة وهو من صلب عوائل بغداد الشهيرة ؟ ام وزير الصحة الدكتور حنا خياط ، وهو من اعرق المسيحيين الموصليين ؟ ام عزت باشا الكركوكلي الذي يعود باصوله الى كركوك منذ مئات السنين ؟ ام صبيح نشأت المهندس المعروف في العراق وهو من صلب العراقيين ؟ ام رجل القانون محمد علي فاضل وهو شخصية معروفة في الموصل ابا عن جد ، وخدم العراق في عهود مختلفة ؟ هل هو عبد الحسين الجلبي وزير التربية وهو شخصية معروفة منذ زمن طويل وكان رئيس بلدية الكاظمية على العهد العثماني ؟ ام كل من الاخوين العسكريين ياسين الهاشمي الشخصية القيادية البغدادية هو واخوه طه الهاشمي وهما من بغداد ، وعائلتهما عربية قديمة ومعروفة ؟ ام عبد المحسن شلاش العراقي المعروف بين الناس ؟ ام السيد احمد الفخري وزير العدلية وهو من آل الفخري من سادات الموصل القديمة التي استوطنت الموصل منذ 700 سنة وكان قاضيا وشاعرا واديبا ؟ ام وزير المعارف الشيخ محمد حسن ابو المحاسن الشاعر المعروف بنزعته العربية من اهالي الفرات الاوسط ؟ ام الشيخ صالح باش اعيان من قلب اهل البصرة القدماء ؟ ام الاستاذ رشيد عالي الكيلاني من قلب اهل بغداد القديمة وهو رجل قانون واستاذ حقوق واداري معروف ؟ ام مزاحم الباجه جي الذي تعود اصوله العربية الى شمر بالموصل ؟ أم حمدي الباجه جي الاداري القديم وهو من العائلة نفسها ؟ ام الشيخ محمد رضا الشبيبي رجل العلم والادب والشعر المعروف بنزعته العربية الاصيلة ؟ اما عبد العزيز القصاب فهو عراقي قديم لا يمت بصلة الى الانكشارية ! وكذلك رؤوف الجادرجي .. اما محمد امين زكي ، فهو من اعيان الكرد العراقيين وكان ضابطا قديرا ، ويكفي السيد محمد مهدي المنتفجي لقبه دليلا على عروبته ! وهناك ايضا السيد علوان الياسري من آل ياسر وشيخهم ! وايضا سلمان البراك ، وهو من شيوخ الحلة لآل البراك المعروفين .. اما يوسف غنيمة المسيحي العراقي وكل من داود الحيدري وناجي شوكت والشيخ احمد الداود وخالد سليمان فهم عراقيون من صلب عراقيين لا علاقة لهم لا بالانكشارية ولا بالمماليك . اما وزير الخارجية الدكتور عبد الله الدملوجي ، فهو من عائلة موصلية قديمة ، وله خصال وتجارب دبلوماسية يندر ان تجدها اليوم عند قادة العراق الجدد ، وكذلك علي جودت الايوبي موصلي الاصل وكانت له صفحات مجيدة في خدمة فيصل منذ ايام الثورة العربية .. الى جانب جميل المدفعي من الموصل ويقال انه من اصول كردية كانت له مشاركته في معركة تلعفر ضد الانكليز في العام 1920 .. وهناك جمال بابان وجميل الراوي ورشيد الخوجة وعبد القادر رشيد ونصرت الفارسي وجلال بابان وعباس مهدي .. وربما كان حكمت سليمان هو من اصول حكام المماليك السابقين ابن سليمان فائق ، ولكنه عراقي من عراقيي القرن الثامن عشر !وهو اخو محمود شوكت باشا اشهر ضباط استانبول الخ اننا ان اختلفنا مع ما كان لهؤلاء من سياسات وافكار وتطبيقات واخطاء .. الا اننا لا يمكن ان نطعن باصولهم واعراقهم ، مهما كانت تلك الاصول والاعراق ، فهي ليست سبّة الا عند البعض من العراقيين الجدد الذين وجدوا انفسهم يكتبون ما يشاؤون من دون ان يحاسبهم أحد على ما يكتبونه !
اما مجلس الاعيان على عهد فيصل الاول ، فكل اعضائه من اعيان العراق واصحاب النفوذ وشيوخ عشائر ، ومن الارستقراطية العراقية القديمة .. ولكن ان اختلف العراقيون معهم طبقيا ، فلا يمكن الطعن في عراقيتهم ، كونهم احفاد مماليك او اولاد انكشارية .. فمن يكون هؤلاء ؟ عداي الجريان وحسين العطية وعبد الواحد سكر ومحمد الامير وجلال بابان ومن رجال الدين السيد محمد الصدر والشيخ يوسف السويدي وحامد النقيب وعبد الحسين الكليدار .. وايضا رجال تجارة وملاك اراضي امثال : ياسين الخضيري وعبد اللطيف المنديل وصالح باش اعيان ومحسن شلاش .. ومن الشخصيات المثقفة : الدكتور داود الجلبي والاستاذين فخري الجميل وآصف قاسم اغا وغيرهم .
سادسا : ربما لنا انتقادات تاريخية على اداء تلك الحكومات ، والعلاقات مع البريطانيين وقوة العشائر ونفوذها ودورها في اضعاف الحياة النيابية والدور المحدود للأحزاب وثروات البعض مع الوصولية والمحسوبية واستغلال السلطة والطبقية ودوائر النفوذ وصراعات النخبة .. لوجدنا ان كلها موجودة ومتغلغلة في كل من الدولة والمجتمع .. ولكن مثل هذه الحالات كنا نجدها ولم نزل نراها حتى يومنا هذا في العراق ، وعلى امتداد كل العهود السياسية ، فهي ليست مشكلة نظام سياسي معين ، او عهد ملكي او جمهوري بالذات .. انها تعبير عن طبيعة مجتمع ، لا يمكن تغييرها بسرعة ابدا . وعليه ، لو عدت يا حضرت الى قراءة سير وتراجم هؤلاء الذين ذكرناهم جميعا ، فستجدهم كلهم من ابناء العراق الحقيقيين لا الانكشاريين او المماليك .. وحتى ان افترضنا جدلا ان هناك من صلب قواد عسكريين عثمانيين ، فلقد قدموا خدمات تاريخية جليلة للعراقيين ، ومنهم القائد محمد فاضل باشا الداغستاني ( ابو اللواء اركان حرب غازي الداغستاني ) الذي دافع ابان الحرب العالمية الاولى عن العراق ضد الانكليز دفاعا مستميتا ، واشتهر بحصاره لهم في الكوت ، ونازلهم في اكثر من معركة ، واستقر به المقام ببغداد ، وغدا عراقيا ، لا يمكن لأي منّا ان يطعن به ، كونه ابن انكشارية ! وحتى ان كان البعض من صلب المماليك الكوله مند امثال حكمت سليمان ، فلقد كان لاولئك الحكام المماليك دورهم الناصع في الدفاع عن العراق ضد هجومات ايران التوسعية في العراق منذ عهد حسن باشا وولده والي بغداد الشهير احمد باشا والحكام المماليك الذين اتوا من بعده !
سابعا : لقد اعتمد فيصل الاول على صنفين من العراقيين المتميزين سواء كانوا من العسكريين او المدنيين . وكانت خبراتهم وتجاربهم كبيرة وواسعة سواء في الدولة العثمانية ام بلاد الشام ام العراق .. ليسوا كلهم قادة وعسكر ممن اشترك مع فيصل ابان الحرب الاولى ، بل هناك اساتذة حقوق وقانون كالسويدي ورشيد عالي وفهمي المدرس ورجال اقتصاد ومال امثال رستم حيدر وساسون حزقيل ورجال صحة امثال الدكاترة حنا خياط وفاروق الدملوجي وداوود الجلبي .. ورجال معارف وتربية امثال ساطع الحصري وفاضل الجمالي ورجال ادارة امثال عبد المحسن السعدون وسعيد قزاز ورجال صحافة امثال توفيق السمعاني وسليم حسون والجواهري ورجال اعمال امثال ياسين الخضيري ورؤوف البحراني ورجال هندسة امثال ارشد العمري وغيرهم .
ثامنا : ليس ذنبهم ان لم يكن في الساحة غيرهم ، اذ كان المجتمع عهد ذاك يجمع خمسة طبقات اجتماعية : الاعيان والشيوخ والملاكين اولا ، التجار والاصناف ثانيا ، الضباط والافندية ثالثا ، رجال الدين والملالي رابعا ، الفقراء والمسحوقون خامسا . فما ذنب فيصل الاول ان لم يجد الا طواقم عمل يمثلها هؤلاء ؟ هل من الصواب ان يأتي باولاد شوارع من هذا الصوب ، او يأتي بملالي من ذاك الصوب ليؤسسوا الدولة العراقية ؟ ولقد ثبت لكل مؤرخي العراق ( باستثناء المؤدلجين منهم ) ان تلك النخبة البارعة كانت ناجحة في تأسيس دولة عراقية وصلت الى ذروتها في منتصف القرن العشرين .. وكان لابد ان تتطور نحو الافضل وتتخلص من الاخطاء والتقاليد والمواريث البالية ، ولكنها انهارت يوما بعد آخر حتى غدت اثرا بعد عين !
تاسعا : ولا ادري .. هل حاد هؤلاء عن قيمهم واخلاقياتهم العراقية المعروفة ؟ هل نهب هؤلاء الذين وصفوا باولاد الانكشارية واحفاد المماليك المال العام ؟ هل امتدت اياديهم الى اموال الناس واملاكهم وبيوتهم ؟ هل هاجمت فصائل احد منهم البنوك ، هل باعوا تراث العراق وآثاره في عواصم العالم ؟ هل لعبوا على اوتار الانقسام وبثوا الكراهية والاحقاد بالرغم من مساوئ بعضهم ؟ لقد كانوا اولاد نعمه حتى وان جاءوا من طبقة متوسطة او من حوزة علمية .. ما كانوا يعيشون على فتات الاجنبي ، او انهم تقاضوا ( كعملاء ورجعية ) من الانكليز رواتب وامتيازات او عمولات وكومشنات ! معروفون كلهم برواتبهم الشهرية البسيطة وببيوتهم وسياراتهم وارقامها .. او باملاكهم واطيانهم ابا عن جد .. لم ينهب فيصل ونخبته ( الانكشارية ) ميزانية الدولة ! ولم يجمع فيصل الاول من حوله ابناء عائلته مستشارين له ليكونوا سراّقا ، بل جمع من حوله عدد من ذوي الاختصاص الذين خدموا العراق . هل وجدنا هذا ” الملك ” او واحدا من اعوانه ونخبته يبث علنا روح الطائفية العمياء ، ويتخّذ من الطائفية وسيلة داعرة لانقسام المجتمع ؟
عاشرا: نعم ، ربما اختلفنا مع سياسات فيصل او نفوذ هذا وافكار ذاك او ممارسات هذا المسؤول او ذاك ! ربما اختلف بعض العراقيين مع توجّه الدولة القومي على عهد فيصل الاول .. ربما اختلف البعض من العراقيين عن وجود طاقم من الاساتذة العرب لبنانيين وسوريين وفلسطينيين ومصريين .. جاءوا لكي يخدموا في المعارف العراقية ( التربية والتعليم ) ، وقدم بعضهم خدمات ممتازة في المؤسسات العراقية نسوة ورجالا ، واساء أحدهم او اثنان منهم اساءات عن قصد او بلا قصد ! ولكن ؟ هل كان المسؤولون العراقيون عهد ذاك ابناء انكشارية واحفاد مماليك ؟ هل كانوا ابناء شوارع واشقياء وسرسرية ؟ ربما نختلف مع ساطع الحصري في قرارات اتخذها ازاء الشاعر محمد مهدي الجواهري او فهمي المدرس او فاضل الجمالي .. ولكننا نعلم في محصلة الامر ، ان الاجيال العراقية التي تربّت تربويا على عهد فيصل الاول ، كانت ناضجة ومتميزة مقارنة بغيرها في بلدان عربية اخرى .. لقد انتج عهد فيصل الاول اروع المبدعين والاساتذة والقضاة والاطباء والمهندسين والمعلمين والموظفين الاداريين وغيرهم وكلهم تربوا وتعلموا ضمن نظام تعليمي وتربوي ممتاز لا يمكن ان يطعن فيه أحد .
أحد عشر : عندما يتكلم البعض في قضايا تاريخية عراقية مهمة ، ويطلق احكاما جزافا من دون الاعتماد على مصادر موثوقة وأمينة .. سيوقع نفسه في مأزق لا يحسد عليه . لقد انهى السلطان محمود الثاني 1808- 1839 الوجود الانكشاري في عاصمته منذ العام 1826 بعد ان كانت قوتهم قد اهترأت في كل من الدول والمجتمع .. فلم يبق هؤلاء وزالوا بكل اورطاتهم واوجاقاتهم وثكناتهم القديمة ، واختلطت بقاياهم بشرائح المجتمعات التي حكمها العثمانيون .. علما بأن نظامهم الانكشاري القديم لم يكن ينص على ان يتزوج الجنود الانكشاريون او يتوالدوا ويتناسلوا . ان الضباط العراقيون القدماء الذين درسوا في المعاهد العسكرية بالعاصمة استانبول تعلموا على ايدي القادة والمعلمين الالمان اصول العسكرية الجديدة . فما معنى الصاق التهم الباطلة بعراقيين لم يعايشوا النظام الانكشاري ابدا ؟
ثاني عشر : تقول : ” لأن كل واحد من قادة ثورة العشرين، وهم شيوخ عشائر عربية، كان يرى في نفسه هو الأولى من غيره بالمنصب، ويرفض أن يخضع لغيره من أقرانه الشيوخ ليكون ملكاً عليهم ” . لم اقرأ ان أي شيخ من شيوخ ثورة العشرين ، قد طمح بعرش العراق ، ولكن يقال ان عدة شخصيات قد رشحّت أسماءها للمنازلة من اجل ذلك العرش ، ومنهم : امير المحمرة (الشيخ خزعل) ، والامير برهان الدين والفريق أركان حرب عبد الهادي باشا العمري وايضا طالب باشا النقيب .. ولكن الانكليز اقترحوا فيصل بن الحسين ملكا على العراق ليحسم خلافات العراقيين في ما بينهم . وتقول : ” ولما رشح السيد طالب النقيب نفسه للمُلك، تم نفيه إلى جزيرة هنغام الهندية ” . اريد القول بأن النقيب كان ينتظر الوعد الذي قطعته له بريطانيا ، بعد ان نصّب وزيرا للداخلية في الحكومة المؤقتة ، ولكن ما ان سمع بترشيح فيصل بن الحسين ملكا على العراق ، حتى استقال في 16 /4/ 1921 ، وبدأ يثير العشائر ويلوح مهددا بالتمرد ، مع مطاردته للصحف العراقية العديدة المؤيدة لفيصل ، وكان البريطانيون يراقبون حركاته التي كانت تهدّد الوضع ، فاعتقل من خلال مكيدة ، ونفي الى جزيرة سيلان ، وامضى فيها اربع سنوات ، وعاد الى البصرة عام 1925 الا انه كان قد اتخذ منهجا ميالا للاعتزال والاعتكاف السياسي وظل في هذه التقلبات الكثيرة الى ان ألم به المرض وتوفي 1929. ( وهنا انصح بقراءة التفاصيل التاريخية في كتاب د. هادي حسين الشلاه الموسوم ، طالب باشا النقيب البصري ، والذي نشرته الدار العربية للموسوعات ، 2003 ) .
وأخيرا ، أتمنى ان اكون قد اوضحت بعض الاضافات ، وصوّبت بعض المفاهيم .. واعتقد ان الضرورة تفرض علينا توظيف التاريخ توظيفا عقلانيا وموضوعيا وحياديا ، دون ان ننزلق لاتهام اشخاص او نخبة باتهامات لا اساس لها من الصحة ..

تنشر بشكل خاص على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …