الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / ‬عبد الرحمن بدوى‮.. ‬الوجودي‮ المحبط‮!‬

‬عبد الرحمن بدوى‮.. ‬الوجودي‮ المحبط‮!‬


عبد الرحمن بدوي

مقدمة
ها نحن أمام رجل الاختلافات والتباينات والتنوعات في الفكر والحياة‮. ‬ها نحن إزاء كاتب سخر زمنه كاملا للكتابة والترجمة والنشر‮. ‬ها نحن وراء مثقف متمرد من نوع خاص لا نألف كمثله إلا قليلا‮! ‬هانحن نواجه ركاما متصادما من التقاطعات الغريبة‮. ‬إنه الكاتب الشهير عبدالرحمن بدوى الذي عرفته بعض أروقة الجامعات،‮ ‬ونشر كتبه على رفوف عديدة من المكتبات‮.. ‬ترددت بالكتابة عنه كي لا أحمله أكثر مما تحمل سواء قبل رحيله أو بعد الرحيل عام‮ ‬2002،‮ ‬وكنت قد نشرت فصلة خاصة عنه‮ (‬كتابي‮: ‬نسوة ورجال‮: ‬ذكريات شاهد الرؤية‮).
لقد عرفناه من خلال كتبه منذ عهد طويل،‮ ‬إذ كتب جملة واسعة من الكتب فى الفلسفة والفلاسفة‮.. ‬ولكنني استأثرته على‮ ‬غيره منذ دراستي الأولى في الجامعة،‮ ‬فقد لازمني كتابه الذي ترجمه بعنوان‮ النقد التاريخي‮ ‬لانجلو وسنيبوس،‮ ‬إذ‮ ‬يعد هذا الكتاب مدرسة حية لكل من‮ ‬يقرأ منهجية الكتابة التاريخية‮.. ‬ومضت سنوات،‮ ‬كى التقى الرجل في واحدة من زياراتي لفرنسا،‮ ‬كان ذلك فى صيف‮ ‬2891،‮ ‬وأنا في طريقي إلى جامعة مونبلييه في الجنوب‮..‬
كنت أشعر بالسعادة وأنا برفقة الأخوين الصديقين نجيب سلامة والميهى بدوى،‮ ‬وكان كل منهما‮ ‬يكن للأستاذ بدوى كل تقدير واحترام ويتحملان شظفه وصلافته‮.. ‬وكثيرا ما‮ ‬يهتاج،‮ ‬وخصوصا عندما‮ ‬يتعّكر مزاجه من أمور قد تبدو بسيطة وغاية فى التفاهة‮! ‬كان‮ ‬يشعر أنه فيلسوف وعاش حياته وهو‮ ‬يؤمن بعبارة قالها له طه حسين وهو‮ ‬يناقش أطروحته،‮ ‬وبقيت ترن فى أذنيه كونه أول فيلسوف مصري‮!! ‬في حين لم‮ ‬يعترف به زملاؤه وأدباء مصر ومفكروها من معاصريه أنه فيلسوف في الحقيقة‮. ‬كان‮ ‬غزيرا في تأليفه إلى درجة لا يمكن تخيلها أبدا‮.‬

وقفة عند حياة عبد الرحمن بدوى
ولد فى العام‮ ‬1917‮ ‬بمحافظة دمياط شمال مصر،‮ ‬ودرس فى مصر ونال شهادة الفلسفة فى جامعة فؤاد الأول العام‮ ‬1938‮ ‬بدرجة امتياز وعين معيدا فيها،‮ ‬ثم حصل على الماجستير فيها العام‮ ‬1941‮ ‬وعلى الدكتوراه العام‮ ‬1944‮ ‬عن أطروحته‮ مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية والزمان الوجودي‮. ‬أنشأ بدوى في العام‮ ‬1950‮ ‬قسم الفلسفة في جامعة عين شمس وبقى‮ ‬يتولى رئاسته ردحا من السنين،‮ ‬ثم عمل أستاذا في جامعات لبنان وليبيا وطهران والكويت،‮ ‬ثم استقر به المطاف في باريس منذ‮ ‬‭,‬1968‮ ‬ولكنه كان‮ ‬يزور الكويت من حين لآخر‮.. ‬بلغت مؤلفاته قرابة‮ ‬90‮ ‬مؤلفا في موضوعات أغلبها فلسفية،‮ ‬وهى مطلوبة،‮ ‬إذ أن أجيالا من المثقفين العرب قد تربت عليها‮.

شارك في الحياة السياسية الوطنية المصرية وهو في أيام الشباب المبكر،‮ ‬فانخرط عضوا في حزب مصر الفتاة‮ ‬1938‮ ‬ـ‮ ‬1940‮ ‬ثم عضوا في اللجنة العليا للحزب الوطني الجديد‮ ‬1944‮ ‬ـ‮ ‬1952،‮ ‬واختير عضوا في اللجنة التي كلفت في‮ ‬يناير‮ ‬1953‮ ‬أي بعد ثورة‮ ‬يوليو بوضع دستور مصر‮.. ‬وكانت‮ ‬اللجنة تضم خمسين عضوا من صفوة السياسيين والمفكرين ورجال القانون،‮ ‬وأسهم بدوى بواجبه وخصوصا في صياغة المواد الخاصة بالواجبات والحريات‮.. ‬وانتهت اللجنة من الدستور الذي لم‮ ‬يأخذ به مجلس الثورة بمصر لأنه دستور‮ ‬ينهج نهجا ليبراليا صرفا‮.‬

كان الرجل‮ ‬ينهج أسلوب العزلة والابتعاد عن الأضواء،‮ ‬وانصب كل جهده في المعرفة والكتابة‮.. ‬حصل فى العام‮ ‬1961‮ ‬على جائزة الدولة التشجيعية التي تعطى لصغار الكتاب والباحثين في مصر أيام الرئيس عبدالناصر،‮ ‬وكان بدوى في ذلك الوقت قد بلغ‮ ‬من الشهرة ما‮ ‬يتفوق بها على هذه الجائزة كثيرا‮.. ‬ومرت قرابة أربعة عقود من الزمن حتى تم تكريمه بما‮ ‬يستحق إذ نال عام‮ ‬1999‮ ‬جائزة مبارك في العلوم الاجتماعية مع نجيب محفوظ في الآداب وكرمته هيئة قصور الثقافة بمصر في احتفالية ثقافية بمناسبة بلوغه الثمانين،‮ ‬وأصدرت كتابا تذكاريا عنه‮. ‬لقد اختار أن تكون باريس مقر إقامته نتيجة ما صادفه من سوء المعاملة والإهانة وانعدام الاعتراف الحقيقي بفضله وأقصى درجات التجاهل له فى أمته العربية المجيدة‮! ‬كان بدوى ضد الرئيس عبدالناصر وضد سياساته الداخلية والخارجية‮.. ‬وكان التأميم قد شمل أملاك عائلته وأطيانهم في دمياط‮.‬

ما سمعته عن الرجل
أخبرني صديقي الميهى منذ زمن طويل بأخبار الأستاذ بدوى إذ كنت أسأل عنه إذ تعلمت الكثير من قراءة كتبه،‮ ‬وكنت دوما أسأل نفسي‮: ‬كيف نجح هذا الرجل في تطويع الزمن كله ليتملكه متفرغا كي‮ ‬ينتج هذا العدد الضخم من الأعمال؟ أخبروني أنه قد اتخذ باريس منفى اختياريا له منذ‮ ‬1975‮ ‬،‮ ‬وكأنه تمرد على من لم‮ ‬يمنحه حقه‮. ‬وعليه لم‮ ‬يلتفت لمن كان‮ ‬ينادى بتكريمه وترشيحه،‮ ‬إذ بدا لي أن إحباطا سيكولوجياً‮ ‬قاهرا كان‮ ‬يعيشه ليل نهار‮.. ‬كان‮ ‬يقيم في حجرة صغيرة علوية باوتيل لوتوسيا،‮ ‬ولا يعرف هل كانت هي الغرفة نفسها التي أقام فيها طه حسين أثناء إقامته بباريس أم‮ ‬غيرها‮! ‬فقد كان بدوى‮ ‬يدعى ذلك ويكرره مرارا‮! ‬وقد اكتشفت أن الرجل عاش عمرا مديدا وأثر طه حسين لا ينمحي من ذاكرته أبداً‮! ‬ويقع هذا الفندق بالحي اللاتيني على مقربة من السوربون،‮ ‬وتنتشر المكتبات من حوله‮.
‬كان على أشد حالة من الانعزال،‮ ‬إذ‮ ‬يقضى أوقاته منفردا‮ ‬يحرك رأسه صوب اليمين وذات‮ ‬الشمال،‮ ‬ولكنه مشغول البال،‮ ‬ووجدته قنوطا ومحبطا لا‮ ‬يتكلم أبداً‮ ‬إن لم‮ ‬يسأل،‮ ‬وإذا أجاب استهان بكل العالم‮!. ‬من أماكنه المفضلة التي‮ ‬يقضى فيها ساعات النهار مقهى‮ (‬لاديبار‮) ‬في شارع سان ميشيل أو مقهى لوكسمبرج تراه دوما شاردا في الأفق البعيد،‮ ‬ولا‮ ‬ينتبه لما‮ ‬يحدث أمامه،‮ ‬فإذا لم تجده هنا أو هناك فهو بالتأكيد‮ ‬يجلس على المقعد رقم‮ ‬211‮ ‬في المكتبة الوطنية بباريس إذ اختاره منذ زمن بعيد لانزوائه واقترابه من رفوف كتب الفكر والفلسفة‮.‬ ويقال انه كان شديد البخل حتى على نفسه ، ودوما ما كان يخشى من المستقبل ويخشى من النهاية المحتومة !
إن ما تعرض له فى ليبيا وكيف ضرب عبدالرحمن بدوى هناك بعد أن جرجروه وأهين وسجن رسمياً‮ ‬جراء وشاية ضده للسلطات من قبل أحد الطلبة الجامعيين الذي نال توبيخا من قبل أستاذه بدوى‮. ‬لقد سجن الأستاذ وضرب ضربا مبرحا ولم‮ ‬يخرج من السجن إلا بعد وساطة سياسية‮! ‬وقد سببت له هذه الحادثة ردة فعل عنيفة لن‮ ‬ينساها أبدا‮. ‬واعتقد أن الأسباب أبعد من توبيخ طالب،‮ ‬إذ تعود إلى بعض الانتقادات الفظة التى كان بدوى‮ ‬يشيعها هنا وهناك وبكل حرية ومن دون مراعاة للأجواء العامة‮.

لقائي الوحيد مع بدوى فى باريس
كنت أزور باريس في صيف‮ ‬1982‮ ‬وأنا قادم من لندن في طريقي إلى جامعة‮ مونبلييه‮ ‬في‮ ‬الجنوب،‮ ‬فالتقيت صديقي الميهى بدوى‮ (‬ولا علاقة قرابة بين الميهى وعبدالرحمن‮). ‬نزلت كعادتي فى بانسيون‮ روتشيل‮ ‬قرب‮ الشانزليزيه‮‬،‮ ‬وفى مقهى‮ لاديبار‮ ‬جلست ورفقه د‮. ‬نجيب سلامة والميهى نحتسى القهوة وندخن بشراهة‮.. ‬قالوا انظر هناك بعيدا ستجد الأستاذ عبد الرحمن بدوى جالسا لوحده وهو‮ ‬يوزع أنظاره بعيدا على السيارات والناس ويجلس الساعات الطويلة وأمامه فنجان صغير من الاكسبريسو‮.. ‬قالوا أنه‮ ‬يرانا،‮ ‬ولكنه‮ ‬يتغافل وجودنا كالعادة‮! ‬قلت‮: ‬دعوني أسلم عليه فهي فرصة أن أجد نفسي أصافح رجلاً‮ ‬قرأت له كثيرا‮.. ‬مضينا إليه،‮ ‬وكان لبقا لا‮ ‬يعرف الابتسامة،‮ ‬ولكنه‮ ‬يتعامل بأسلوب حضاري،‮ ‬مكثنا بمعيته قرابة الساعة حاولت فيها أن أسأله عن بعض ما كان‮ ‬يدور في بالى عن كتاب‮ النقد التاريخي‮‬،‮ ‬وسألته سؤالا عن موقفه من الرئيس عبد الناصر ولم‮ ‬يكن قد أصدر مذكراته بعد‮.. ‬فهو لم‮ ‬يكتف بموقفه من رجل‮ ‬يختلف معه بل وجدته‮ ‬يدين مرحلة تاريخية كاملة ولم أجده إيجابيا مع أي من الأسماء التي ذكرها بحيث نال حتى من طه حسين‮!‬
وجدته معجبا‮ ‬غاية الإعجاب بالحضارة الأوروبية،‮ ‬واتهم العرب والمسلمين بكل الموبقات‮! ‬وبعد سنين،‮ ‬عجبت جدا كيف‮ ‬غير الرجل مواقفه تجاه العرب والمسلمين لكي‮ ‬يدافع في سنواته الأخيرة عن قضاياهم بعد أن كتب ميراثا من الإدانات‮.. ‬ودعناه ومضينا إلى سبيلنا وقد سمعت أن بدوى لا‮ ‬يمكنه أن‮ ‬يرضى حتى عن نفسه‮.. ‬بدا لي أنه إنسان‮ ‬يتحدى حتى نفسه دوما،‮ ‬ويجعل كل العالم ندا له‮.. ‬إنه لا يخاصم هذا الوجود كله بدليل إعجابه الباهر بأوروبا،‮ ‬ولكنه سيكولوجياً‮ ‬قد ترسبت لديه تراكمات من الألم والشعور بالإحباط من أمة خاصمته وحاربته عن قناعة ورضى‮.. ‬وكان تأثير الفلسفة الوجودية عليه كبيرا وغريبا،‮ ‬بحيث جعلته‮ ‬ينفصم مع توالى الأيام عن وجوده الحضاري‮! ‬لقد وجدته بعد سنوات أنه‮ ‬يحمل عقدة الأحسن والأفضل وأنه اعتقد بما قاله له طه حسين وظن أنه سيحل محله فيلسوفا وعميدا للفكر العربي،‮ ‬ولما لم‮ ‬يحدث لا هذا ولا ذاك انقلب على الجميع وبدأ‮ ‬يهيم بذاته هو نفسه،‮ ‬ويعتزل الحياة،‮ ‬ويختار منفاه الاختياري الذي سيكون نهاية محطاته‮! ‬لقد أعجبت جدا من صورته فى أواخر أيامه وتغير ملامحه بعد أن هزل جسمه ووهن عظمه ولم تبق إلا ذاكرته مشتعلة بحيويتها المفعمة‮.‬

كلمتى الأخيرة للتاريخ
وأخيرا،‮ ‬وكلمة الحق‮ ‬يجب أن تقال أن عبد الرحمن بدوى برغم كل مواقفه التي ضمنها مذكراته التي قرأتها وأنا أتأمله أمامي بباريس قبل سنوات من قراءتي لها منشورة في مجلدين،‮ ‬لابد أن نعترف بأفضاله الكبرى في إثراء أدبياتنا العربية المعاصرة وثقافتنا الحديثة إذ كان لجهوده في التأليف والترجمة دور بالغ‮ ‬الأثر في تكوين أجيال عدة‮ ، ولقد وجدت بعض أعماله منقولة بترجمة حرفية أو بتصرف منه عن أعمال أخرى .. وكان يضع اسمه مؤلفا لها ، ربما بطريق الخطأ ، وربما نتيجة التسرّع !! ‬كان أستاذا جامعيا قديرا أيضا،‮ ‬تخرج من تحت‮ ‬يديه المئات من الطلبة وستبقى مؤلفاته شاهدة على أدواره الخيرة في المعرفة العربية.
‮ ‬
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4253 السبت الموافق – 12 ديسمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …