الرئيسية / افكار / العولمة : متى يفهمها الناس ؟

العولمة : متى يفهمها الناس ؟


سنوات من الحوار ولا حياة لمن تنادي:
عندما بدأت تأليف كتابي الأول عن ” العولمة ” عام 1992 ونشرت أول فصل دراسي منه في مجلة المستقبل العربي ببيروت ، أقول بكل تواضع بأن الناس لم تكن قد سمعت بعد بهذا المصطلح ! سألني أحد الأصدقاء في ذلك الوقت وهو كاتب ومثقف وناشر عربي حصيف عن معنى ” العولمة ” ، فقمت بشرح معناها له من`خلال قراءاتي عنها في بواكيرها ، فوجدته قد اقتنع وعاد ليسألني عن ما يقابل المصطلح بالإنكليزية ، فأجبته بأن علمها يسمى بـ ” Globology ” وان ظاهرتها تدعي بـ ” Globalizations ” .. ومنذ ذلك الحين ، كنت اشدد على معنى الظاهرة في ثقافتنا المعاصرة . وأشهد أن من أوائل العلماء الذين اشتغلوا على مفاهيم العولمة منذ مطلع التسعينيات هو المفكر المصري المعروف سمير أمين ، وكنت قد اشتغلت معه ضمن طاقم عمل بحثي مشترك حول تداعيات هذه الظاهرة على المنطقة .
وأعترف من جانب آخر ، أنني كنت قاسيا في نقداتي وأنا أعقب على الورقة الأولى التي تقدم بها الصديق المفكر السيد يسن في ندوة العرب والعولمة ببيروت عام 1997 عندما قال أن العولمة يرجع تاريخها إلى قرون مضت !! وقد كان السيد يسن مثالا للدماثة والخلق الرائع إذ رد عليّ بأسلوب هادئ جدا علما بأنه لم يتنازل قط عن فكرته التي جاءت بأكثر من مكان من منشوراته المتعددة حول العولمة بعد ذلك ..

الثقافة العربية في حيص بيص!
ضجت الثقافة العربية منذ عشر سنوات مضت بكتابات لا حصر لها عن العولمة .. وأنا اقرأ وأتصفح وأراقب عربيا : تفسيرات وانشائيات وإسهابات وترجمات واستلابات وادعاءات كثيرة جدا ، فقال احدهم بأن العولمة يونانية ورومانية ومصيرها مصير يوليوس قيصر ! واقرأ لكاتب ذائع الصيت يقول بأن المسلمين هم من أوائل العولميين في التاريخ .. ويردد آخر بأن رسول الإسلام هو الذي خلق أول عولمة في التاريخ ! ويهب آخرون ليقولوا بأن الإسلام نفسه عولميا .. ويعرفها آخر أنها نظرية وليست ظاهرة !! والمصيبة أن من يكتب مثل هذه الآراء لا يكلف نفسه عناء المزيد من القراءات والفحوصات للعناية ليس بالمصطلحات والتعابير المخطوؤة فقط ، بل طال فساد التفكير كل من المضامين والمعاني والمعرفة .. والمصيبة الأعظم أن هناك من يسمع أو يقرأ ، لكنه يسكت ليس لأنه لا يعرف أو لا يدرك أو لا يفقه .. بل يرى بأن الموضوع ما دام جديدا ومستحدثا ، فكل ما يدور حوله هو من قبيل وجهات النظر وليس حقائق للأمور .. إن المشكلة الحقيقية في ثقافتنا العربية اليوم ، ندرة من يرصد وينقد ويحاور ويناقش في المصطلحات والمعلومات والمفاهيم ، بل ازدادت المسردات والنقولات ووجهات النظر والخطابات السياسية في الفضائيات والصحافة اليومية والمجلات الأسبوعية وحتى الحوليات التي تدعي نفسها ( أكاديمية محكمة )على علاتها .. وبات القراء وكل المهتمين في تيه عجيب غريب من بحر متلاطم بالكتابات الفضفاضة والعقيمة التي تضرهم ولا تنفعهم أبدا ! ولقد تبلور كل ذلك من خلال الخلط المبهم بين المعرفي والإيديولوجي .

لا تلصقوا ظواهر الغرب بالإسلام !
وكما هو حال ثقافتنا العربية بكل ألوانها التي كانت عليها في القرن العشرين ، إذ ينتابها كل عقد زمني نوته راقصة معينة وموديل ملون خاص ونغمة هزازة فاضحة تلصق الأفكار والظواهر والمصطلحات المشاعة في العالم ، وخصوصا من الغرب بكل ما يخص وجودنا وحاضرنا ، بل ويسري حتى في تراثنا وموروثاتنا وحياتنا العادية ويصل الأمر إلى ديننا وعقائدنا السامية وحتى في خصوصياتنا الشرعية وأحوالنا الشخصية وأخلاقنا وعاداتنا الاجتماعية ! فمثلا ، شاعت في وقت ما مفاهيم ومصطلحات تتذكرها أجيال من مثقفي القرن العشرين : الديمقراطية الإسلامية ثم تلت ذلك نغمة القومية والإسلام ، ثم عزفت بعد ذلك نوتة الاشتراكية العربية والاشتراكية الإسلامية واليمين واليسار في الإسلام ، ومعها : الإيديولوجية العربية ثم خلقوا لنا موديلا جديدا باسم الأصولية الدينية وصولا إلى ما يشاع اليوم باسم العولمة الإسلامية !

دحض لهذه المزاوجة الوهمية
هنا لابد لي أن ارجع بعد عدة مرات الى تحديد معنى هذه الظاهرة التاريخية التي لم تزل ملتبسة في تفكيرنا العربي المعاصر وليس عند المثقفين العاديين فقط ، بل عند ابرز مفكرينا الذين لهم سمعتهم ومكانتهم في النفوس ، ليدعوني أقول :
1/ إن مصطلح ” العولمة ” هو واحد وجديد اذ ليس من الذكاء أبدا أن نضيف من عندياتنا صفات له كما يحلو لنا أن نضيف فمرة نقول بالعولمة الإسلامية ومرة أخرى بالعولمة الحضارية ومرة بالعولمة المتوحشة ومرة بالعولمة الأمريكية .. وهلم جرا ، ربما يضيف الصفة من يعمل في صميم ظاهرتها ولكن مجتمعاتنا لم تزل تقف عند هوامشها !
2/ ونسأل أخوتنا الكتاب : لماذا لم تستخدموا هذا المصطلح أي ” العولمة ” قبل عشرين سنة مثلا ؟ ولماذا تلصقونه اليوم بكل ما تجدونه مناسبا لتسويق أي بضاعة تختارونها . ربما باستطاعتكم تسويق أي منتج عولمي معاصر في حياتنا العربية اليوم وسأذكر أمثلتها بعد قليل ، ولكن ليس من حقنا أبدا أن نصبغ ديننا الإسلامي الحنيف في كل مرحلة تاريخية من مراحلنا الصعبة المعاصرة بصبغتها .. فما علاقة الإسلام بالعولمة ؟
3/ ليكن معروفا أيها الأذكياء أن ليس هناك أية صلة للإسلام بظاهرة العولمة!! ولكن سيدخل الإسلام المعاصر في القرن الواحد والعشرين بطبيعة الحال في علاقة جدلية ربما متناقضة وربما متناسقة وربما متصارعة ومتصادمة مع ظاهرة العولمة . وعليه ، فليس هناك اية علاقة لما جرى قديما وحديثا من أيام امتداد وهج الفتوحات وحتى ولادة الأصوليات بين الاسلام والعولمة !
4/ إن المعنى الدقيق للعولمة أيها المفكرون الأحبة هو : ” الكوننة ” ( : من الكونية )، فهي تختلف جملة وتفصيلا عن ” العالمية ” ( : من العالم ) ، فإذا كانت كل ظواهر التاريخ الكبرى منذ عصر فجر السلالات وحتى قبل قرابة 20 سنة فقط ، هي عالمية محضة ومنها الأديان والفتوحات والفلسفات والدول والحضارات مثلا ، فان كل ما يبدو جديدا اليوم من الظواهر المستحدثة الكبرى هي عولمية كونية بالضرورة ، ومنها : ثورة الكومبيوتر والمعلومات والانترنيت والفضائيات والديجيتاليات وعمليات الاسكانرز والتكتلات عبر القارات وثورة الجينوم والجينات والأقمار الصناعية والشركات متعددة الجنسيات وأيضا ثورة الاتصالات بدءا بالتلكسات والكابلات المحورية مرورا بالفاكسات وصولا للهوت ميل والفيس بوك واختراقات مسافات الزمن .. الخ
5/ وهنا نسأل : ما علاقة كل هذه المستحدثات الجديدة التي توصل اليها الانسان في العشرين سنة الاخيرة فقط وسمى ظاهرتها بـ ” العولمة ” ، ما علاقتها بالاسلام واخلاقياته وسموه الروحي وتجلياته ؟ لماذا تدخلون الاسلام الذي يجب علينا ان ننزهه من كل ادران الحياة المعاصرة ، ذلك ان هذه ” الظاهرة ” العولمية غربية عليه بالتأكيد ؟ وتعالوا نسألكم : هل كان العالم قبل ظاهرة العولمة من دون عنف ولا جرائم ولا استعمار ولا مافيات ولا قيم البذخ ولا هجرة عقول .. ؟؟ هل كانت السلوكيات الغربية والشرقية في العالم على أحسن ما يرام وأخلاقيات الدول على أسمى ما تكون عبر امتداد التاريخ ؟
6/ لنكن أذكياء قليلا ولنفكر في ما نقول ونتساءل : هل نحن بعيدون اليوم عن العولمة التي غزتنا في عقر بيوتنا وهبت علينا في كل مرافقنا ؟ هل نحن لا نستقبل قنوات العالم الفضائية ؟ هل نحن معزولون عن القارات الأخرى ؟ هل أن قضايانا باقية ميتة في الإدراج الخفية ؟ هل شاركنا العالم كله في قضاياه ومصالحه؟

وأخيرا: أين تكمن المشكلة ؟ وكيف يمكن الحل ؟
تكمن مشكلتنا الحقيقية في الذهنية المركبة التي لا تستطيع الفصل أو القطيعة أبدا بين الموروث بثقل صفحاته المثقلة وبين المعاصرة بمتغيراتها المذهلة ! ولم تستطع حتى اليوم أن تزاوج بين القيم القديمة وبين المستحدثات الجديدة من دون إيجاد مبررات دينية أو أخلاقية أو عقائدية لتلك المستحدثات أو أحداث العكس كي ترضى الناس ! أن ثمة تزييفات مقنعة تمارس في ثقافتنا تحت عناوين وشعارات ومانشيتات متنوعة ! مقارنة بمجتمعات أخرى في هذا العالم لم تعد تضيع وقتها في مثل هذه هكذا سوفسطائية عقيمة وخصوصا في مشروعاتها الثقافية التي تستوعب كل المستحدثات وتحترم كل موروثاتها الايجابية ..
إن على مثقفينا ومفكرينا أن يفصلوا أيضا بين الدين الإسلامي والتاريخ الإسلامي .. صحيح أن هناك علاقة عضوية تجمعهما ، ولكن لكل منهما أمر مختلف ! فلا يمكننا أن نأتي بظواهر تاريخية محضة ، مثل : الفتوحات والدولة والحسبة والخراج .. وغيرها ونقرنها مثلا بمسائل شرعية أو فقهية ، مثل : الزيجات والمواريث والوقفيات والعبادات والخلق والشهادة والحج .. الخ وليس من الصحيح أن نخلط هذه بتلك ونجعل منها أدوات لتفسير الإسلام والعولمة ! فمتى نفكّر نحن العرب تفكيرا معمقا وفلسفيا في أمهات الأمور.. متى ؟؟

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 7 نوفمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …