الرئيسية / افكار / عقدة خواجة وزنزانة مغلقة !!

عقدة خواجة وزنزانة مغلقة !!


معنى ” عقدة الخواجة “
نعم ، إنها عقدة خواجة سايكلوجية تختزل نفسها بفقدان الثقة بالذات والثقافة والتفكير .. تتوزعها الثقافات الشرقية قاطبة إزاء الغرب .. الخواجة هو الذي يمثل الغرب ، وبشكل ممجوج يكاد يبعث في نفسك شعور ( العجز ) أحيانا والغثيان أحيانا أخرى ، وقد ترسخّت في الضمائر والسايكلوجيات الشرقية ، عموما ، انه الأقوى والأجمل والأعلى والعارف بكل الأمور .. فهو الوحيد الذي يملك شهادة حسن سلوك ومعرفة وتفكير وقوة . إن الطفيليين الذين يحملون هذه النزعة إنما عاشوا مقهورين أو منهزمين أو متماهين مع الجهالة أو مهتزين في التفكير .. عقدة الخواجة أن ترى الأجنبي الأوربي والأمريكي ، خصوصا ، مثلا أعلى ليس للتعلم منه ومن خبراته ، بل لكي تجد نفسك تقلّده في ما تستطيع من حركاته وسكناته .. وليس لك إلا أقواله وأفعاله .. ولما كان هو بالمقابل سريع الفهم ، فهو القادر على فهم ما تفعله إزاءك ، فربما يستهزئ بك أو ربما يضحك عليك ! وهو لا يريد عموما التكافؤ معه . وهنا ، لا أقول أننا نمتلك قوته أو معرفته أو تفكيره .. ولكن بالمقابل ، لنا ثقافاتنا وأصولنا وقيمنا .. وكثيرا ما أجد من الغربيين من يعشق روحانيات الشرق ويعجب بثقافاته كثيرا .. ولكنه ، ليس كمن أصابته لوثة ، أو تمكنّت عنده عقدة ، بحيث يغدو طفيليا في مجتمعاته التي لها ثقافاتها ومقوماتها ..

عقدة الخواجة : مرض نفسي متجذر في مجتمعاتنا
لم تنشأ عقدة الخواجة منذ وصول نابليون مصر ، بل أجدها مترسّخة في تواريخ شرقية لمجتمعات عدة منذ أكثر من ألف سنة .. وخصوصا عند العرب الذين من عادتهم احتضان الغرباء والاعتزاز بهم ، وثمة قصص عن سايكلوجيات تتذلل للأوربيين .. ويحدثنا الرحالة الأوربيون على امتداد أربعة قرون مضت ، عن حكايا تعامل العرب مع الأوربيين ، وخصوصا في البوادي والمجتمعات غير المتمدنة كيف جعلوهم ربابنة لهم ! .. وفي المدن ، عاش الخواجات معززين مكرمين في أوساط المجتمع ، وخصوصا ، عندما كانوا قد حظوا بمكانة خاصة لدى السلطات الحكومية ودوائر الدولة .. وهذا ما تخبرنا عنه تواريخ العثمانيين والصفويين والمعنيين والشهابيين والخديويين وكل الحكام السلاليين في الشرق الأوسط الحديث ..
إن عقدة الخواجه موجودة وراسخة منذ القدم ، ولكنها لم تكن مكتشفة حتى بدأ الوعي بها منذ أربعين سنة .. وغدت ذات مفاهيم مختلطة اليوم ، بكل أسف ، إذ أصبح كّل من يسعى للانعتاق من أوهام الواقع المضني ، وتناقضات الماضي العقيم ، يوصم بصاحب عقدة خواجه ، وكأن حياتنا لا تستقيم أبدا ، إلا باستمرار التقاليد البالية التي عفا عليها الزمن ! عقدة الخواجة موجودة ، ولكننا نجدها عند أناس مشوّهين أصلا ويتصنعّون المثل الغريبة ، وهم يعيشون حياتهم الشرقية بكل تفاصيلها .. إنهم يتشبهون بنماذج حياة غربية وسط بيئة لا تعرف إلا طبيعتها الشرقية المألوفة سواء كانت في مجتمعات هندية وأفغانية وإيرانية وتركية وعربية وكردية .. الخ عقدة الخواجه أجدها صارخة عند حكواتي تلفزيوني منبهر بـ ( أصدقائه ) الغربيين ، وكأن ليس هناك في بيئته العريقة أي ثقافات وأي ممثلين لها ..

من التعّري الى الزنازين المغلقة
إن الانبهار والانبطاح هو غير الإعجاب والتعلّم ، فقد يعجب المرء بتقاليد حياة ، أو أساليب عيش ، أو تجارب فكر ، أو تصرفات مجتمع ، أو سياسات دولة .. الخ ولكن عندما يتحّول ذلك كله إلى مرض نفسي يقوم على نقاط ضعف تفقد الإنسان ماهيته وهويته وكل قيمه فيغدو عاريا تماما .. فان مثل هذه العقدة النفسية تستوجب معالجتها . وان الوعي بها ينبغي أن يأخذ طابع التفكير المضاد والوعي المضاد .. لا بأس أن يكون الخواجة أستاذا ، ولكن بشرط أن نأخذ ونعطي معه .. وربما يصل مستوى الحوار إلى تباين الرؤية والتقاطع ، ولكن أن يغدو الخواجة شخصية ماردة ومقدسة ومثالية وجوهرية في كل هذا الوجود .. فان من يحمل هذه العقدة بحاجة إلى طبيب نفسي ! واستطيع تلمس الفعل المضاد لذلك بولادة عقدة الانغلاق وأصحابها الذين يرون كل المجتمع ممسوخا يحمل مبدأ الخواجة ، وأنهم يرون انتشارها بواسطة الصحافة منذ حملة بونابرت على مصر عند نهاية القرن الثامن عشر . لقد ساهم الخواجيون بتبلور ظاهرة المنغلقين الذين يرفضون كل الانفتاح ، ويمنعون أي حوار ، وأي فهم ، وأي وسطية .. إنهم ليس لهم إلا توصيف الآخرين بالممسوخين وأصحاب العورات والمجرمين والخبثاء والغادرين .. وخصوصا عندما تكال التهم جزافا ضد المثقفين المتوازنين الذين يدركون كم هي حاجتنا إلى التغيير في الأشكال والمضامين .. إن الجميع أصبح ـ في نظرهم ـ مصابا بالسرطان بعد أن شملوه بعقدة الخواجة .. وان الحرب ضد الحياة المتوازنة قد أصبحت مكشوفة ، فكل المثقفين المتمدنين أصبحوا في نظر الانغلاقيين من الملوثين الذين ينبغي استئصالهم ، كيلا يصيبوا الأجيال الجديدة بأمراضهم وأوبئتهم ! إن الانغلاقيين لا يقبلون ، أيضا ، كل ما يقّدمه غيرهم للحياة وللمجتمع وللإسلام والمسلمين .. إذ يعتبرونهم دجالين ومفترين وموتورين وسخفاء ومفترسين .. هكذا ، يوصف الناس بجرة قلم واحدة !

ضرورة الوعي بانسلاخ الطرفين
عقدة الخواجة تترسخ عند من ينبهر بصورة الخواجة .. ويأتي اليوم من يريد أن يدافع عن هذه ” العقدة ” النفسية لأسباب تتعلق بالقدرة والمهارة .. وإنها مقصورة على ذهنية بعض الأفراد والشركات والمؤسسات .. بل اختلف الوضع ـ كما يقولون ـ اليوم إذ أصبح المواطن يوازي الخواجة أن لم يتفوق عليه .. وهذه فرية أخرى ، ذلك أن الفرق بين الاثنين كبير جدا .. الخواجة ليست حالة جديدة ، فهو الذي لا يقدّر بأي ثمن ليس في الجزيرة العربية وحدها ، بل في كل مجتمعات الشرق الأوسط .. وعلينا الاعتراف أن للطرفين تكوينهما وتربوياتهما وثقافتهما وعالميهما ، فلا يمكن للمواطن أن يتفوق على الخواجة ، ولكن المواطن إن هاجر إلى بيئات الغرب ، فربما يكتسب مهارات فائقة تؤهله أن يكون بدرجة خواجة ! المشكلة ليست هنا ، كون المواطن له مواهب خارقة كالخواجة .. إن المسألة ليست هكذا ، بل إنها مسألة وعي جمعي تتوارثه الأجيال بأن كل خواجة هو ليس خارقا ، بل فوق كل الشبهات ! إن كثيرا من المؤسسات العربية الساذجة لا تقبل إلا الخواجات ، كون أصحابها ترتاح نفوسهم لهم ولأسمائهم وأشكالهم ولإشباع رغباتهم بملأ عقدة النقص ! علما بأن هناك خواجات ليست لهم إلا مشاكلهم ، ولكنهم يتقاضون مرتبات عالية أو مضاعفة عن تلك التي يتقاضاها من ليست له صفة خواجة ! وكثيرا ما نسمع عن مشكلات نصب واحتيال قام بها خواجات .. وهناك من أعلمني يوما ، انه يريد توظيف خواجات كي يبقى على رأس منصبه ، فان نصّب أحدا من المواطنين العرب ، فربما أخذ مكانه إن كان اشطر منه ! أو أن دولا جديدة تصّر على تنصيب خواجات على رأس مؤسسات تعليمية وأكاديمية ليس لأسباب علمية وجيهة ، بل ليقال أن الجامعة الفلانية رئيسها أمريكي ، أو عميد تلك الكلية انكليزي !
انها حالات عدة من التناقضات التي تنخر حياة مجتمعاتنا ، وتستغرق أزمانا من أعمارنا ، وتبدد ما نحتاجه من تفكيرنا وخططنا .. لقد ساهمت الحكومات والسياسات والإيديولوجيات المتنوعة سواء كانت تقدمية أو رجعية ، قومية أو ماركسية ، علمانية أو دينية .. في خلق كل من عقدة الخواجة في مجتمعاتنا منذ تبلور معاصرتها في بدايات القرن العشرين .. والتصفيق لظاهرة الانغلاق تحت مسميات شتى ! لقد ساهمت الإعلاميات والصحف والراديو والتلفزيونات بهذا التشظي من التعقيدات ، وبهذا التلاقح من التناقضات .. نجد قادة دول عربية وإسلامية يتصرفون إزاء أناس أوربيين أو أمريكان عاديين تصرفات لا تليق بهم ! أو نجدهم يسخرّون المنغلقين ليقوموا بمهامهم وواجباتهم في القذف والتشهير والتكفير .. وفي كلتا الحالتين ، أجدهم قادة يخشون الخواجات بنفس درجة خشيتهم المنغلقين .. لقد أثبتت التجارب أننا لا يمكننا أن نكون صورة مشوهة من الآخرين ، صورة ذاك الأوربي أو الأمريكي ، وكل منهما له نظام حياته وأسلوب تفكيره .. ولا يمكننا البتة أن نطالب بجعل الحياة سجن كبير ومنغلق على زنزانات موحشة .

وأخيرا : هل تتحقق الأمنيات ؟
إنني أتمنى على كل من الساسة والمثقفين والإعلاميين العرب أن يولوا هذا ” الجانب ” أهميته البالغة من اجل زراعة وعي جديد يحس المرء فيه ويشعر أن باستطاعته الانفتاح من دون تبعية ، وباستطاعته أن يؤسس له مكانا تحت الشمس ، ويفكر بشكل متوازن .. يمنح تفكيره درجة الخصوبة كي يبدع ويساهم إلى جانب الخواجات ، لا أن يكون ذيلا لهم .. وبنفس الوقت يمنح سايكلوجيته حقها من الراحة من دون أي تعصّب ، أو خبالات ، أو شتائم ، أو إساءات كي يخرج على الناس سويا بلا أي محددات ولا أي خطوط حمر ، فيكون عضوا نافعا وإنسانا حقا . فهل وصلت رسالتي هذه إلى الطرفين ؟ أتمنى ذلك .

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 16 أغسطس 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …