الرئيسية / فن وموسيقى / على ورق الورد.. زمن فنّ العمالقة.. ثورة الموسيقى والغناء في مصر

على ورق الورد.. زمن فنّ العمالقة.. ثورة الموسيقى والغناء في مصر


دار الأوبرا الخديوية

دوما أسأل نفسي: ما أسرار تألق مصر إبان زمن شدو العمالقة ؟ ما سر تلك ” النهضة ” الموسيقية والإبداعية والغنائية التي عاشتها مصر إبان النصف الأول من القرن العشرين ؟ لماذا تلاشت تلك النخبة الرائعة التي جمعت مكوناتها كل العناصر الناجحة في تأسيس تلك البنية الثقافية المبدعة ، وكانت متكاملة إلى درجة متفوقة سبقت فيها كل مجتمعات الشرق الأوسط قاطبة ؟ صحيح إنها نهضة موسيقية ولحنية وغنائية ليس لها مثيل .. ولكنها ، لم تكن قد برزت لوحدها في الميدان .. بل رافقتها تطورات سادت كل مجالات الحياة الثقافية الأدبية والفنية الأخرى .. ففي الوقت الذي انبثق في مصر المسرح الغنائي بكل خصبه ومؤثراته ، وبالرغم من بدائيته الأولى ، إلا أن تفوق عناصره كانت مثارا للمنافسة في ميادين أخرى .. وازدحمت مصر بفنانين من كل الأشكال ، وتميز اغلبهم بثقافته العامة وتخصصه .. بل واختار كل مبدع طريقه الذي تميز به عن الآخرين .. وعندما ولدت السينما بعد المسرح ، أبدع الفنانون المصريون بتقديم إبداعاتهم بالصوت والصورة .. فكان أن انتقل الفن الموسيقى والغنائي إلى مرحلة متطورة جديدة في زمن العمالقة ..
دعوني أجيب عن بعض الأسئلة التي افترضتها هنا في مقالتي هذا الأسبوع ، وهي بضعة أسئلة أتمنى على كل إنسان يعيش تجربة التاريخ المعاصر سواء كان هاويا ، أو مهتما ، أو حتى مختصا .. ناهيكم عن كل الفنانين اليوم أن يفكروا مّليا في ما افترضته من أسئلة .. ومحاولة إيجاد أجوبة حقيقية عليها ؟
من خلال دراستي لتاريخ العالم المعاصر وتجارب المثقفين لدى شعوب ومجتمعات عديدة في هذا العالم ، لم أقف أبدا على ما يشبه البنية المصرية الإبداعية على مدى النصف الأول من القرن العشرين ! إن المؤسسين الأوائل لما قبل العام 1917 ( أي العام الذي اعتلى فؤاد الأول عرش مصر ) قادوا أعظم ثورة فنية للموسيقى والغناء .. أنجبت عمالقة في الموسيقى والطرب العربيين حتى أفولهم ويا للأسف الشديد .. بحيث لم يتواصل ذلك التطور أبدا ! لقد قاد النهضة مجموعة من الشيوخ المبدعين ، أمثال الفنانين : محمد العقاد وحسن الجاهل واحمد ألليثي ومحمد الشامي وعثمان الموصلي وسلامه حجازي وعبده الحامولي وأبو العلا محمد والسيد درويش والمطربة المز وإبراهيم الرفاعي واحمد الشعار وعبد الحي حلمي والشيخ المسلوب والشيخ درويش الحريري والشيخ علي محمود واحمد بن جنيد واحمد العطار وأبو خليل القباني وكامل الخلعي وغيرهم من الذين كانوا أساتذة كبارا في تأسيس زمن سوف لا ينجب التاريخ مثله أبدا !
إنني اعتبر الخديوي إسماعيل هو الجذر الأول لتأسيس النهضة الفنية الموسيقية والغنائية المصرية بعنايته ورواتبه للفنانين وانفتاحه على الموسيقى التركية وإكرام كل مبدع ومبتكر .. والذي بنى دار الاوبرا الخديوية بالقاهرة ، وشهد عهده ازدهارا لا نظير له ، فضلا عن انفتاح مصر على ثقافات العالم ، وانجذاب عدد كبير من المثقفين العرب والخواجات اليها ، ومع تطور الحياة الفنية تأسست العديد من الفرق الفنية كفرقة سلامه حجازي وفرقة بديعه مصابني وفرقة فاطمة رشدي وفرقة الريحاني وغيرها من الفرق الفنية التي دفعت بالفن المصري إلى آفاق رحبة في فضاء واسع من الحريات والانفتاح والتقّبل ..
فكان أن ولد جيل فني رائع ، أمثال : منيرة المهدية وأم كلثوم ومحمد القصبجي والشيخ زكريا احمد ورياض السنباطي وفتحيه احمد وعلي عبد الهادي وزكي مراد واحمد فريد وعبد اللطيف البنا وصالح عبد الحي ومحمد عبد المطلب ومحمد عبد الوهاب وعمر خيرت وفريد الأطرش وأسمهان ونجاة علي ومنير مراد وليلى مراد .. وجاء من بعدهم : عبد الغني السيد ومحمد فوزي وسعاد محمد وهدى سلطان ونور الهدى ومحمد الكحلاوي وسعاد مكاوي وسيد مكاوي وشهرزاد ونازك وكارم محمود وعبد العزيز محمود وشاديه وحورية حسن ومحمود الشريف .. ثم جاء من بعدهم شافية احمد ونجاح سلام ورفيقة شكري وصباح والسيد إسماعيل وفائزة احمد ومحرم فؤاد وفائدة كامل ودنيا زاد ونجاة الصغيرة وإبراهيم حموده ومحمد قنديل وإسماعيل شبانه وعباس البليدي وشكوكو وزوجته ثريا حلمي وعبد الوهاب محمد وعبد الحليم حافظ واحمد صدقي وكمال الطويل وبليغ حمدي ومحمد رشدي وشريفة فاضل ومحمد الموجي ومحمد سلطان وفؤاد حلمي ووردة الجزائرية واحمد عبد القادر وعائشة حسن وسلوى فهمي وعبد العظيم محمد ورؤوف ذهني وعبد اللطيف التلباني وعادل مأمون ومها صبري وكروان ومحمد طه وعلي فراج ورياض البندك وكمال حسني وشفيق السيد وعبد المنعم البارودي وعصمت عبد العليم ومحمد العزبي وشفيق جلال وخليل المصري وعلي إسماعيل والحفني احمد حسن وأحلام وماهر العطار ورجاء عبده واحمد صبره وعفيف رضوان ومحمد ضياء الدين واحمد سامي واحمد غانم وغيرهم
ومن الشعراء بدءا بـ بيرم التونسي وعلي الجارم واحمد شوقي واحمد رامي ومرورا بصالح جودت وحسين السيد ومأمون الشناوي وعبد الفتاح مصطفى وعبد الرحمن الابنودي وأمام الطنطاوي وعبد الوهاب محمد واحمد شفيق كامل وعلي إسماعيل ومرسي جميل عزيز وفتحي قورة وحسن محمد حاحا وإمام الصفطاوي وصلاح جاهين ومحمد عبد النبي وكمال منصور وعلي الفقي ومصطفى الضمراني وكامل الإسناوي وحيرم الغمراوي وصلاح فايز وسيد القطان ومحمد علي ماهر ومحمود إسماعيل جاد وانتهاء بفاروق شوشه وغيره ..
لا ادري إن فاتتني أسماء أخرى من خضم هذا اليم الكبير الذي لم نشهد مثيلا له في أي تجربة فنية أخرى وعلى امتداد زمن صعب .. هذه النخب التي تنوعت أسماؤها ، وأثمرت جهودها عن أروع المقاطع ، وأسمى الألحان ، وأنفس العبارات .. وكل اسم من هذه الأسماء له قصة طويلة من كفاح رائع ، وتاريخ مليء بالتجارب .. كانوا يعملون مثل خلية نحل ، وقد اخذ جيل عن آخر ، ولعل أنبل ما قرأت عنهم مدى التواضع الذي تحلى به الجميع إزاء الآخرين .. وبالرغم من خلافات شخصية مصدرها التنافس الخفي أو العلني بين هذا أو ذاك .. وبالرغم من تموج المستويات من عمالقة كبار إلى فنانين حقيقيين إلى اختفاء آخرين .. إلا أن هذا ” التشكيل ” الذي استطاع أن يمر بزمن من التكوين الصعب ، أنتج أروع ما يمكن أن يتخيله المؤرخ المثقف الذي سيتوقف بعد زمن طويل ليرى عظمة ذلك الزمن مقارنة بما تلاه من أزمنة تختلف جملة وتفصيلا عن ذلك الزمن بكل تجلياته الرائعة .. ونشهد أن مصرا كانت حاضنة للإبداع الفني ، بحيث ينخرط فيها كل مبدع عربي ، كي ينافس غيره ليفوز بتفوق باهر ..
أقف إجلالا وإكبارا ، وإنا أسير الحان غاية في السمو لموسيقار قلما تنجب امة العرب من مثله .. ذلك هو الفنان محمد القصبجي ذو السحنة الفرعونية الأصيلة الجادة الذي كتبتُ ونشرتُ عنه في مجلة الهلال المصرية قبل سنوات طوال .. هذا الذي استلهم من جيل المؤسسين الأوائل ، وعّلم الجيل الذي رافقه وتلاه ، فكان معلم العود للسنباطي ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش .. وانقطع عن الإبداع لأسباب سايكلوجية سأخصص له مقالة خاصة أعالج فيه أزمته الإبداعية كي يغدو عازفا للعود في فرقة الست أعواما طويلة ، وكأنه يسجل بصمته رسالة تقول : لقد رحل زمن العمالقة ! انه عملاق فن أصيل لن أجد أحدا بتواضعه ، بالرغم من امتلاكه بحرا واسعا من الإبداع .. وهكذا بالنسبة إلى كل أقرانه الذين قدموا أبدع الألحان التي شدا بها الشادون في أعياد شم النسيم ، أو في خمائل الأزبكية في الأيام الجميلة .
إن من يسمع لهؤلاء جميعهم سيندهش حقا ، وقد تربينا نحن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية على كل إبداعاتهم الجميلة .. أجد من بينهم مطرب حي السيدة ، ومطربة مجتمع مخملي بصوت اوبرالي ، وكوكب الشرق التي بقيت وضيئة مضيئة .. وطرب الأيام القديمة ، ومطرب الموال المصري ، ومطرب الحياة الشعبية من قلب القاهرة ، وأغنيات قومية ، وأناشيد وطنية ، وتسابيح دينية ، ومطولات قصائد بالفصحى ، وأغنيات خفيفة ، ومنلوجات ساخرة ، وغناء صعيدي ، وغناء البحر ، وأغنيات الحفلات ، وأغنيات الأفلام .. وتنوعت الألحان تنوعا مذهلا بتنوع الأصوات والحناجر التي لا يمكن أن نعثر بمثلها .. وان عثرنا على خامة صوت جميل ، فلم نجد اليوم لا الكلمة ولا اللحن المناسبين .. كما كان التكامل زاخرا .. لقد تلاشت تلك النخب المبدعة ، ورحل العمالقة المتكاملين من دون بدائل بوزنهم لأسباب انغلاق الحياة السياسية والنكسات المريرة والهجمة على الحداثة والتمدن من أحزاب وجماعات معينة .
إنها ظاهرة تاريخية لابد أن يتوقف عندها المؤرخون ليقولوا كلمة حق .. ويحاولوا الإجابة معي على جملة الأسئلة التي طرحتها في بداية هذا المقال .. وليكن معلوما ، أن التكوين الفني والاجتماعي لكل هؤلاء كان في ما بين الحربين العظميين .. وأخيرا ، هل باستطاعتنا أن نشهد تجربة زاخرة مماثلة في قابل الأيام ؟ الجواب : نعم ولكن مع ولادة ظروف تاريخية جديدة .

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 15 مايو / آيار 2009 .
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو

ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …