الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / على ورق الورد.. ستون عاما من النكسة الثقافية العربية

على ورق الورد.. ستون عاما من النكسة الثقافية العربية


إخفاقات الثقافة العربية
هل كان المثقفون العرب الأوائل عند بدايات القرن العشرين يتخيلون الحالة التي ستألو إليها الثقافة العربية في بدايات القرن الواحد والعشرين ؟ هل تصّوروا حجم الانحدار الذي آل إليه واقعنا كله ؟ هل كانوا متفائلين جدا بغرس النهضة وشجرة الاستنارة وفضاءات التمدن التي ستصل إليها مجتمعاتنا .. أم غدوا متشائمين جراء ما صادفوه من انتكاسات وهزات .. فكيف لو عاشوا حجم الكوارث والنكبات التي عاشها أبناؤهم وأحفادهم ؟ لماذا كانت بدايات النهضة ، وخصوصا في مصر ، رائعة في تكويناتها ، قوية في إبداعاتها ، متنوعة في أصنافها .. ولماذا باتت اليوم عند بدايات قرن جديد ، مخجلة في كل مرافق أشكالها ومضامينها ؟ أسئلة أثيرها دوما مع نفسي ، وأفكر فيها مليا ، وأراجع التاريخ لأجد ضالتي في معلوماته التي تغني تأملاتي ، وتسعفني في تفسير أفكاري ووجهات نظري التي دوما ما تلتقي كأجوبة لأسئلة صعبة افرضها على نفسي ، أو أتلقاها من طلبتي وأصدقائي ..
دعوني أعالج مسألة التراجع في الثقافة العربية وإخفاقاتها التي تمّثل حاصل محصلة تاريخية .. مقارنة بسنوات نهضة مصر الكبرى التي استمرت قرنا كاملا ، أي بين منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين .. لا يمكن أن نتخيل كم كان في مصر من عمالقة مثقفين وفنانين حقيقيين مقارنة بما هو الحال اليوم علما بأن ثمة تفوق سكاني كبير .. ارجع أسبابه إلى قتل الحريات باسم الإرادة واعتماد الكم على نوعية التكوين واعتماد الثقافة الشعبية على حساب النخب .. والترييف المسيّس على حساب القيم المدنية التي خلقتها النهضة .. وولادة تيارات الانغلاق وتكوين ثقافة مضادة ، جعلوها دينية كي يحرموا ويحللوا ما يريدون ثقافيا وتربويا .. والأخطاء التي ارتكبت في السياسات التربوية والتعليمية في المدارس والجامعات المصرية .. وتخريج الآلاف من المتعلمين للقراءة والكتابة من دون الاعتناء بالمثقفين .. وكثرة الصحافيين والإعلاميين ومثقفي السلطة على حساب المثقفين الأحرار .. وتقييد الحريات .. كلها عوامل ساهمت في التراجع الثقافي بمصر .. واعتقد أن مصر اليوم تعيد اكتشاف نفسها من جديد حتى ضمن التناقضات التي خلفتها العهود السياسية الثورية !

مركزية مصر : الاستقطاب والتراجع
كانت مصر وستبقى في موقع المركزية التي لا يمكنها أن تغلق أبوابها على جانبي المشرق والمغرب ، ولم يكن انفتاحها على العرب لأسباب قومية سياسية إبان المد القومي ، بل وجدناها منفتحة منذ القدم ، بل وكانت مفتوحة بذراعيها على أيام النهضة المصرية ولأكثر من مئة سنة .. وتعلمنا حركات هجرة المثقفين التي قمت بدراستها وأكملها من بعدي احد طلبتي في الدكتوراه أن أعدادا كبيرة من السوريين واللبنانيين والعراقيين قد استوطنوا مصر لأسباب ثقافية وفنية واندمجوا بسهولة في شرائح المجتمع المصري .. واجد أيضا من خلال قراءاتي التاريخية إن مصرا كانت تفتح أبوابها أمام كل المثقفين والأدباء والعلماء العرب كونها مكان آمن ومحور اتصال! ولم يقتصر الأمر على استقرار عرب من الحجاز وبلاد الشام والعراق واليمن .. بل وجدنا كم كانت أعداد جاليات أوربية من مالطيين ويونانيين وطليان وأتراك وقوقازيين وألبان .. وغيرهم قد استقروا بمصر ، وساهموا في إثراء نهضتها الثقافية والسياحية والفنية . ولكن .. ما الذي حدث ؟
التفت الزعيم سعد زغلول إلى زوجته السيدة صفّية ، وهو على فراشه متعبا جدا ليقول لها : ” غطيني يا صفية .. ما فيش فايدة ” ، وراحت قولته مثلا ليتناقلها الناس جيلا اثر جيل ، وهي تعّبر عن تشاؤم ، ولكنه تشاؤم من وضع سياسي صعب لا وضع ثقافي زاخر ، فالثقافة في مصر عهد ذاك كانت سامقة وحيوية وتزخر بالإبداعات والمنتجات المعبرة عن مجتمع بكل حرية وخصب .. ولكننا نسأل : ما حجم التحدي الكبير الذي صادفه الزعيم سعد كي يغسل يديه تماما ؟ وماذا لو رجع اليوم ، فما الذي سيقوله ، وهو يرى الأبناء والأحفاد ، وقد انسلخوا عن مبادئ الحرية والاستقلال الأولى ، ليركضوا وراء مبادئ واهية ، ربما خيالية وربما غير واقعية ، لا يمكنها أن تخدم حياتنا أبدا .. وها نحن نرى اليوم ، كم أساءت النخب العسكرية والسياسية وحتى الثقافية لمجتمعاتها العربية قاطبة ! وها نحن نرى اليوم، كم حوصر الفكر الحر والتفكير المنطلق حصارا من كل الأطراف ! وها نحن نرى اليوم ، كم انغلق الناس على ما لديهم من أفكار ومعتقدات وتقاليد بالية ، من دون أن يفتحوا خرما بسيطا كي يتنفسوا من خلاله هواء جديدا ! لو نهض الكبار من قبورهم .. فما الذي سيجدونه بعد كل السنين التي صرفوها من اجل الحرية والتقدم ؟ لو نهض احمد لطفي السيد ، فسيضرب كفا بكف ليقول أين ذهبت ترجماتي الرائعة لفلسفة الإغريق ؟ ولمن عربتها ؟ لو جاءنا إسماعيل مظهر الذي اصدر العصور والدهور .. فما الذي سيجده بعد أن أفنى عمره في ترجمة أصل الأنواع ونظرية التطور ؟ لو صحا الشيخ محمد عبده .. فهل سيتقبّل هذه الاوضاع التي ستصدمه ، وهو يرى تكلس الفكر وتيبس الاجتهاد ؟ لو دخل طه حسين أي مكتبة بمصر .. فهل سيصفق للثقافة العربية وهي تعيش أسوأ الأزمات .. سيبحث عن أدباء ونقاد حقيقيين ، فلا يجد الا أسماء قليلة لا تستقيم وهذا الحجم السكاني الكبير على مساحة الثقافة العربية ؟ لو تصفح محمد التابعي بعض الصحف العربية .. لبكى لحال صحافة هذه الأيام .. فهي صحافة منكوبة بالبلادة والعتمة والتخلف بعد أن سبقتها صحافة الأكاذيب والفبركات والدعايات الرخيصة .. لو دخل الموسيقار محمد القصبجي إلى أي استديو لتسجيل الأغاني ، لهرع إلى الخارج وشهق صاعقا لما آل إليه الغناء ورحيل الطرب الاصيل .. وهكذا بالنسبة لأحمد أمين وسلامه موسى والمازني والعقاد وتوفيق الحكيم ولويس عوض ونجيب محفوظ .. وهكذا بالنسبة لنجيب الريحاني وجورج ابيض وسيد درويش وعبد الوهاب وغيرهم ممن لا يحصى عددهم .

انتكاسة الأجيال
إن إخفاقات الثقافة العربية لم تقتصر على بلد معين أو مكان معين .. إذ أن هزيمة اجتاحتها ، بتفاعل عوامل سياسية بالدرجة الأولى ، ولقد ضربت مصر بالصميم على مدى سنوات الهياج العاطفي السياسي الذي صبغ بالدعايات الكاذبة والأوهام المتخيلة .. لقد تبلورت ثقافة عربية خطابية كلها أوهام مخيالية وأحلام وردية تبددت عام 1967 اثر هزيمة اجتاحت كل مجتمعاتنا التي عاشت على الأوهام ، فانتكس جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية انتكاسة مريرة لتبدأ فصول مأساة جيل آخر ازدادت أوهامه وخيالاته ، فكان أن غدت الثقافة المدنية منحسرة وتائهة ، وأنها تعيش إخفاقا حقيقيا عندما بدأ الاستلاب يعبّر عن نفسه باسم الدين ، والدين من ذلك براء ! وراجت مفاهيم تصدير الثورة منذ العام 1979 ، ومن بعدها مفاهيم الصحوة الدينية .. وكأن مجتمعاتنا كانت في غيبوبة عن دينها ! إن ثلاثين سنة من الأوهام باسم القومية أعقبتها ثلاثين سنة أخرى من الأوهام باسم الدين .. فكيف ستغدو انتكاسة الأجيال اثر إخفاقات الثقافة العربية ؟ وما الذي عانت منه مصر ؟ وما الطريق أمام الجيل الجديد ؟ دعونا نكمل معالجة هذا الموضوع في حلقة قادمة ..

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 11 ابريل 2009 ،
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …