الرئيسية / افكار / تحالف حضارات ام حوار ثقافات !؟

تحالف حضارات ام حوار ثقافات !؟

مقدمة
يبدو واضحا ان المفاهيم باتت تنقلب رأسا على عقب .. ويبدو ان سياقات الحياة كلها غدت طوع المؤسسات السياسية مذ تبّنت السياسة الامريكية مفهوم ” صراع الحضارات ” في عالم بات يعيش فوضى المفاهيم والمصطلحات .. لقد اخذوا يطلقون التعابير السياسية على البنى الحضارية والثقافية والتربوية ، واصطبغ الاعلام بالسياسة ايضا منذ عهد بعيد .. ولما كان العالم قد دخل عصر استقطاب الارادة الواحدة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية ، واخذت ظاهرة ” العولمة ” التي تقودها الولايات المتحدة الامريكية تمتد في جنبات كل هذا العالم .. فلابد هناك من ردود فعل ازاءها ، ربما لا تكون سياسية بأي حال من الاحوال ، بل تطرق باب الثقافة والحضارة .. والكل يدرك بأن مثل هكذا انعكاسات سوف لا تؤثر ابدا على حركة السوق ولا قوة الهيمنة ولا على صنع القرار ولا على ادارة الازمات والحروب .. والكل يدرك ان ليس هناك اليوم الا حضارة واحدة ، هي الحضارة المعاصرة التي يساهم فيها العالم كله بعد ان كان الغرب يشغلها لأكثر من مائتي سنة .. من دون ان نجد من يقف ازاءها من حضارات ذات نوع آخر ..

واقع ثقافات لا حلم حضارات
ان العالم يزدحم بالثقافات المتنوعة في جغرافياته الواسعة ، وان هذه ” الثقافات ” تكشف واحدتها نفسها على الاخرى بفعل وسائل العصر المتطورة ، والمفروض ان يحترم كل شعب من الشعوب ثقافات الاخرين بعد الاعتزاز بثقافته هو نفسه . وعندما نشر صموئيل هانتيغتون كتابه عن ” صدام الحضارات ” قبل سنوات مضت ، فقد كان قد اخطأ من الناحية الفكرية ، اذ ليس لدينا الان حضارات متنوعة معاصرة حتى يصادم بعضها بعضا وربما اصاب من الناحية الواقعية اذا اعتبرنا ان الصراع يدور بين حضارة معاصرة تهيمن على العالم كله وبين ترسبات حضارية قديمة او بقايا حضارات رحلت منذ ازمان .. علما بأن الصواب ان هناك اليوم ثمة صراع ثقافات وثمة ازدواجية ثقافات وثمة هيمنة ثقافات على اخريات ! فاذا افترضنا ( ولا اقول اقتنعنا ) بأن لا وجود لصراع حضارات ، بل ان الصراع اليوم بين التقدم والتخّلف ، فلا يمكن ان يكون هناك تحالف بين الحضارات .. انني اسأل من باب تحصيل حاصل : اين هي حضارات اليوم ؟ من يعدد لي أياها شريطة ان يقدم لي برفقتها حصيلة كاملة بمعطياتها المعاصرة المادية والمعنوية التي تخدم العالم ؟

تحالف الحضارات : مبادرة ازاء التحديات
لقد اخفق اصحاب المبادرة في العام 2005 عندما اطلقوا هذا ” المصطلح ” على هذا التجمع الدولي ، واقصد السكرتير العام للامم المتحدة السابق السيد كوفي عنان وكل من تركيا واسبانيا ، وقد شاركتاه رعايته .. ولقد تابعنا جميعا كم من المؤتمرات انعقدت ، وكم من المنتديات اقيمت ، وكم من الخطابات القيت ، وكم من الاموال انفقت ؟ نعم ، كان الامين العام السابق للامم المتحدة قد اطلق مبادرة شراكه في رعايته لها كل من اسبانيا وتركيا ، اي بين دولتين في كل من شرق وغرب اوروبا .. مبادرة من اجل تأسيس تحالف دولي قوي بين الحضارات ، أسموه بـ Alliance of Civilizations ، ولا ادري هل فكروا قليلا في تعبير ” تحالف ” ومقاصده في العلاقات الدولية واستخداماته في حياة المجتمع الدولي .. ؟؟ فالحضارة مجموعة هائلة من المعطيات البشرية المادية والمعنوية والمعرفية والفنية .. فهي ليست مجموعة مؤسسات كالدولة حتى يمكنها ان تتحالف مع غيرها ! ان الدول او المجتمعات هي بني مشخّصة يمكن ان يتم التفاوض معها والتحالف معها .. ولكن الحضارة لا يمكن ان نشخصها لا ماديا ولا معنويا حتى يتم التحالف بينها وبين غيرها من الحضارات ..
ان المبادرة قدّمت نفسها باعتبارها تستجيب الى توافق واسع في الاراء بين الدول والثقافات والاديان من اجل ترابط جميع المجتمعات بهدف التنمية والامن ، وما سيكون لآثارها البيئية والاقتصادية والمالية من تقدم ورفاه . وقدمّت المبادرة مفهوم ” التحالف ” كونه ” الساعي لتشكيل الارادة السياسية الجماعية ، وحشد من الاجراءات الملموسه على الصعيدين المؤسسي والمجتمع المدني ، وخلق المستويات من اجل التغلب على التحيزات والتصورات الخاطئة والوقوف ضد الاستقطاب الذي يعمل ضد هذا الاجماع. وتأمل ” المبادرة ” في ان تسهم نحو التئام الحركة العالمية التي تعبر عن ارادة الغالبيه العظمى من الشعب ، ورفض التطرف في اي مجتمع من المجتمعات ” . هذا كلام منمق وجميل ويمكننا التفكير في عوامل نجاحه على المدى الطويل ، وهو يعّبر عن ارادة سياسية تقول للعالم بأن لكل مجتمع في العالم اخلاقياته وتقاليده التي لا يمكن الاعتداء عليها او ايذائها بالتجريح او التقريع او الاستهزاء .. الخ

هل يوقف تحالف الحضارات التدهور في العلاقات ؟
وممّا عزز هذا ” المفهوم ” ما وقع من احداث في السنتين الاخيرتين قادت الى تفاقم الشكوك المتبادلة ، وايجاد المباعدات بين المجتمعات المتقدمة والمتخلفة .. ناهيكم عن المخاوف وسوء الفهم الذي يسود اليوم بين المجتمعات الاسلامية والمجتمعات الغربية ( والتي لها قوة ونفوذ في مجتمعات العالم قاطبة ) . لقد انفصمت عرى الواقع وانكشفت عدة حقائق كان يجهلها الناس سابقا اذ ادت ثورة المعلومات والاعلاميات السريعة وقوة الاتصالات الى فضح واقع كل بيئات العالم . ان المسؤولية في حدوث ازمات الثقة لا يتحمل مسؤوليتها طرف واحد ، بل تتحمل كل الاطراف مسؤوليتها في تدهور العلاقات الثقافية والحضارية بشكل خاص بعيدا عن اخفاقات العلاقات السياسية في العالم وخصوصا بعد استقطاب العالم من قبل قوة احادية ..
ان ما اسمي بـ ” تحالف الحضارات ” سوف لن يقدر على ايقاف التدهور في العلاقات الانسانية بين المجتمعات والامم ، لأن القرارات لا تصنعها القوى المثقفة والمتحضرة في كل دول العالم ومجتمعاته ، بقدر ما تصنعها القوى السياسية والاقتصادية المهيمنة على وسائل الانتاج وعلى صنع القرار ليس المادي فحسب ، بل حتى المعنوي والثقافي .. ان سباق بعض المؤسسات مع بعض الدول الاوربية خصوصا لتعزيز هذا الجانب ، ومعها رعيل من دول الجنوب سوف لا تقدر البتة من فرض الاستقرار الدولي لأنها اضعف من ان تؤدي دورها ازاء القوة الاعظم .. اما ما اعلنته مبادئ تحالف الحضارات يمكن ان يكون نقاط مضيئة ومثالية في تحقيقها ، ولكن الواقع في عالم اليوم هو غير ما تطمح اليه تلك ” المبادئ ” والتي يقف على رأسها الاحترام المتبادل بين الحضارات والثقافات !

تقرير الفريق رفيع المستوى
ان التأسيس على هذه المبادئ ، وانشاء فريق رفيع المستوى (hlg) من الشخصيات البارزة في العالم ، سوف لا يقدّم او يؤخر شيئا في ما تريده القوى الاقتصادية الكبرى في العالم فضلا عن مصالح بعض الدول المهيمنة على اقتصادات العالم اليوم . انني اراقب من بعيد اجتماعات واخبار الفريق رفيع المستوى لخمس مرات على مدى عام كامل نوفمبر 2005- نوفمبر 2006 واصداره التقرير الذي ينادي بمبدأ جماعي متعدد الاقطاب ضمن النهج الذي يطّور العلاقات بين المسلمين والمجتمعات الغربية. نعم ، لقد فرحنا لمضمون ما جاء في ” التقرير ” المقدم الى الامين العام للامم المتحدة كوفي عنان وقت ذاك والى رؤساء الوزراء في كل من اسبانيا وتركيا : خوسيه لويس رودريغيس ثاباتيرو ورجب طيب اردوغان في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 2006
، ولكن تساءلنا عما يمكن فعله من ترديد خطاب في حلقة مفرغة ، وتعقد المؤتمرات من دون اي تأثير واضح على سيرورة ما يحدث ، بل وقد وجدت ان الولايات المتحدة الامريكية لا تهتم لمثل هذه الجهود ، وليس لديها حتى الوقت لتنصت الى ما يريده اي طرف في العالم .
وفي نيسان / ابريل 2007 ، بعد اجراء مشاورات مع رؤساء حكومات اسبانيا وتركيا ، راعيي تحالف الحضارات ، والامين العام للامم المتحدة بان كى مون ، عين خورخي سامبايو ، الرئيس السابق للبرتغال ، بوصفه الممثل السامى لتحالف الحضارات. وسألنا عن صلاحياته ، فعلمنا بأن الممثل السامى سيوفر الرؤية والقيادة المطلوبة ،بشأن تعزيز تحالف الحضارات ، والعمل المضني بجعلها منظمة ذات مصداقيه وقابلة للاستمرار لمحاولة التقليل من خطورة التوترات بين مختلف المجتمعات وتهديدا للاستقرار الدولي ، كما تم تقييمها في تقرير الفريق الرفيع المستوى للتحالف الحضارات.
يتألف مضمون التقرير من جزءين : الجزء الأول يضم تحليلا للسياق العالمي وحالة العلاقات بين المسلمين والمجتمعات الغربية. ويختتم التقرير بمجموعة من التوصيات المتعلقة بالسياسات العامة ، مشيرا الى ان اعتماد بعض الخطوات السياسية هي سابقة لأية متطلبات كبيرة ودائمة في تحسين العلاقات بين المسلمين والمجتمعات الغربية. اما الجزء الثاني من التقرير ، فيعكس من خلال اجندة رأى بان التوترات عبر الثقافات تنتشر خارج المستوى السياسي الى قلوب وعقول السكان. ، فينبغي العمل على مواجهة هذا الاتجاه ، ومجموعة يحلل ويقدم توصيات في كل من المجالات المواضيعيه الاربعة : التعليم ، والشباب ، والهجره ، وسائل الاعلام. ويخلص التقرير مع فريق رفيع المستوى اقتراحات لتنفيذ توصياتها.

المنتدى العالمي الاول للتحالف بين الحضارات
لقد كتب الصديق الاستاذ الدكتور عبد العزيز التويجري الامين العام لمنظمة الاسيسكو بالرباط مقالا بعنوان : آفاق واسعة أمام منتدى التحالف بين الحضارات ( الحياة – 09/01/2008) يقول : أصدر البرلمان الأوروبي قراراً يعتمد هذا العام عاماً للحوار الثقافي العالمي. وفي منتصف هذا الشهر سيعقد في مدريد المنتدى العالمي الأول للتحالف بين الحضارات. وفي نهاية السنة الماضية عقد في مقر الأمم المتحدة بنيويورك اجتماع لأصدقاء التحالف بين الحضارات. وكان الرجل قد تقدم باقتراح بانشاء جهازين دوليين اثنين؛ هما «منتدى البرلمانيين لتحالف الحضارات»، و«منتدى الكتاب والمبدعين والإعلاميين لتحالف الحضارات». وهو اقتراح عملي ذلك ان هذين المنتديين يمكن أن يتخذا طابعاً إقليمياً، بحيث يكون هناك «منتدى للبرلمانيين العرب»، و«منتدى للبرلمانيين الأوروبيين»، و«منتدى لبرلمانيي أميركا اللاتينية»، و«منتدى لبرلمانيي جنوب شرق آسيا»، و«منتدى لبرلمانيي آسيا الوسطى». يستطرد قائلا : ” وبذلك يمكن أن نصل في خطوة أكثر تقدماً إلى «المنتدى البرلماني الدولي لتحالف الحضارات» ” .
اننا سنراقب عن كثب ما الذي سيقرره اجتماع مدريد العالمي ، وهل ثمة إجراء حوار حضاري حقيقي ؟ وهل من إقامة تحالف حضاري بين الغرب والمسلمين لمواجهة ظاهرة الإرهاب ولتحقيق مصالحة بين الغرب والعالم الإسلامي ؟؟
ان هذا ” المقترح ” واحدا من السبل العملية التي يمكن من خلالها ان يتحول ما يسمى بتحالف الحضارات من مجرد خطاب وافكار الى واقع وادوات ، انني بالرغم من ايماني بأن تحالف الحضارات لا يمكن ان يكون اصلا ، الا ان التأسيس عليه باتجاه اي حوار هادف وبناء بين الغرب وبين العالم الإسلامي، يمكنه ان يزيل اية توترات واضطرابات وسوء فهم ويتقدم نحو تعاون من اجل محاربة كل من يقف عائقا في سبيل التقدم يمكن دعمه وتطويره على مستوى ليس النخب والشخصيات والفعاليات ، بل على مستوى تربية اجيال جديدة ضمن مناهج تفكير جديدة .. ان تحالف الحضارات اعتبره مجرد اسم بلا مسّمى ان استمر الواقع على ما هو عليه ، بل انني اراه مجرد حوار طرشان ، اذ لا يفهم اي مجتمع ثقافة الاخر ضمن حضارة واحدة معاصرة لا مجموعة حضارات لا وجود لها اليوم . ان الفهم الثقافي المشترك قد نجده هنا او هناك ، ولكن لا نستطيع ان نجد تحالفات حضارية .. ان تعزيز العلاقات التعاونية وتبادل المعلومات وتفاعل الثقافات وما يسمى بحوار الاديان .. الخ كلها قد تحدث ضمن موضوع ” تبادل ثقافي ” او علاقات ثقافية ولكن لا يمكن ان يتبلور تحالف حضاري من اجلها ..


من اجل تطوير الثقافات في العالم وانسجامها
اننا ان افترضنا وجود مثل هذا ” التحالف ” فهو بين من ومن ؟ اذا قلنا بين الحضارة الغربية والحضارات الشرقية .. فما هو خزين هذه الحضارات الشرقية اليوم في ما تمنحه الى العالم ؟ ان اليابان نفسها لها ثقافتها وخصائصها الثقافية والاجتماعية ، ولكنها غدت في ركب الحضارة العالمية المعاصرة ! ما الذي يمكن ان تقدمه حضارات قديمة سادت قبل الاف السنين الى الحضارة اليوم ، فكلنا يعلم ان الحضارة المعاصرة هي حصيلة بناء وتطور لحضارات سبقتها .. بل هل هناك في مصر اليوم ـ مثلا ـ من يجيد بناء الاهرامات حتى يتعلم العالم كيفية بناء الاهرامات ؟ انني اقترح ان يتغير اسم هذا “: المشروع : من تحالف حضارات الى حوار ثقافات ذلك ان من يتأمل قليلا في الاهداف المطروحة سيجد نفسه امام : «تطوير شبكة من الشراكات مع الدول، والمنظمات الدولية، والهيئات والمؤسسات والجمعيات الأهلية، ومع القطاع الخاص ، من أجل تعزيز تفاعلها وتنسيقها مع منظومة الأمم المتحدة، وتطوير المشروعات التي تساعد على التفاهم ودعمها وإبرازها، والتوفيق فيما بين الثقافات على المستوى العالمي، وعلى وجه التحديد، بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغريبة. بحيث ترتبط هذه المشروعات بمجالات العمل الأربعة الرئيسة للتحالف وهي: الشباب، والإعلام، والتعليم، والهجرة، وإقامة العلاقات وتسهيل الحوار بين الجماعات التي يمكن هنا أن تصل كقوة للوساطة والتفاهم خلال فترات التوترات القوية بين الثقافات». ان هذا وغيره هو جزء من حوار ثقافات بين المجتمعات المعاصرة
وأخيرا : هل تتحقق الامنيات ؟
انني اسأل : هل ان انعقاد المنتدى الأول لتحالف الحضارات في مدريد منتصف هذا الشهر برعاية الحكومة الإسبانية، سيعمل على كسر جمود العلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي ؟ وهل ان تحالفا كهذا له القدرة على توطيد العلاقات بين المجتمعات في عالم اليوم ؟ هل يمكنه ان يقف بالضد من اشعال الحروب واستشراء النهب .. ؟ هل باستطاعته ان يعمل على انقاذ الاطفال وتنمية التفكير وتغيير المناهج والاعتناء بالمرأة والعناية بالتراث ؟ .. الخ هذا ما نطمح اليه في منتدى اخشى من ان يبقى خطابه لا يسمعه الا نفسه ، كما اخشى ان يبقى حبرا على ورق .. كما جرت اجتماعات له في اكثر من مكان من دون جدوى .
www.sayyaraljamil.com
ايلاف ، 12 يناير 2008

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …