الرئيسية / الشأن العراقي / العراق .. يوغسلافيا … بيت من صخر ازاء بيت من ورق !!

العراق .. يوغسلافيا … بيت من صخر ازاء بيت من ورق !!

” اذا تخلّيت عن العراق وأهله .. تذّكر بأن الحسناء تذبل بعد طلاقها “
احد الحكماء العراقيين القدماء

فروقات هائلة في سيرورة التاريخ والتكوين الاجتماعي
مدخل : العراق بعيدا عن يوغسلافيا !!
ان الحكمة التي آليت ان اذكرها في اعلاه كان قد حكاها لي الزميل المؤرخ البريطاني هيو كندي قبل ثلاثين سنة ، وكان ولم يزل مختصا بتاريخ العراق ويدرك كم كانت قوة العراق في التاريخ ، وقد ضمن هذه المقولة التي لم ينساها كتابه الموسوم ” عندما حكمت بغداد العالم الاسلامي Hugh Kennedy, When Baghdad Ruled the Muslim World ” الصادر في العام 2005 . وكثيرا ما يردد قوله : ” اذا كانت بغداد مركزا للعالم الاسلامي ، فان العراق هو مركز العالم كله ” . ومن المؤسف حقا ان ينبري ساسة وكّتاب جهلة من العراقيين والامريكيين ، كي يشبّهوا العراق بيوغسلافيا ، ويطالبون ان يلحق مصير العراق بنفس المصير الذي حاق بيوغسلافيا من دون ان يعلموا اختلاف طبيعة البلدين تاريخيا وجغرافيا وسكانيا من جميع الوجوه .. وكنت قبل اكثر من عام مضى قد نشرت مقالة عنوانها ” حرب بلا نهاية: العراق ليس يوغسلافيا جديدة ” ( البيان الاماراتية ، 16 / آب / 2006 ) قلت فيها وانا ارد على بيتر غاليبيرث في كتابه الجديد ( نهاية العراق The End of Iraq ) الذي قال : ” العراق يوغسلافيا جديدة ، وينبغي ان يّتم تقسيمه كما تمّ ذلك في يوغسلافيا وان تصبح هناك ثلاث دويلات كردية في الشمال موالية لامريكا وشيعية في الجنوب موالية لايران وسنية عربية في الوسط تعمّها الفوضى … ” .
ويأتي اليوم السناتور جوزيف بايدن عضو الكونغرس الامريكي ليذكرنا في مشروعه عن العراق بتقسيم يوغسلافيا ايضا ، وضرورة ايجاد اتفاقية مثل اتفاقية دايتون .. ان مجرد ذكره هذا ، فهو يريد للعراق مصيرا انقساميا كيوغسلافيا بل واجد بعض العراقيين يصفقون له ولمشروعه تحت غطاء الفيدرالية التي اقرها الدستور من دون ان يدركوا مدى خطورة اقتران العراق بتقسيم يوغوسلافيا ! ولنعلم السناتور بايدن ان العراق تسمية قديمة تعود الى اكثر من الف سنة ، ولكنني اتحداه ان يجد بلدا اسمه يوغسلافيا قبل مائة سنة !! لقد خذل بايدن في مشروعه ، فثمة ارادة وطنية عراقية وعربية واقليمية ( باستثناء ايران ) وقفت امام قرار الكونغرس المؤيد للتقسيم .. لم ينفع تصويب بايدن انه قصد الفيدرالية ولم يقصد التقسيم كما روّج الانقساميون ، فالنص الذي طرحه مشروعه واضحا جدا بمطالبته تأسيس ثلاث حكومات منفصلة كل على اراضيه مع مليشياتها التي ستصبح جيشا لكل حكومة مع وجود حكومة مركزية هزيلة ببغداد .. والشيئ المؤلم انه يقارن العراق بيوغسلافيا ، اما ما يثير القرف فعلا مطالبته بحملة لاقناع دول العالم الاعتراف بالحكومات الجديدة في العراق !! أبعد هذا أسأل كل الانقساميين العراقيين المدافعين عن مشروع بايدن : الا يسمى هذا تقسيما وتشرذما للعراق اذا نجحت امريكا بسحب اعتراف دول العالم بالعراق المشرذم ؟؟ ولماذا كل الانفعال والغضب ازاء كل الوطنيين الذين يناضلون ضد التقسيم ؟
نسيج اجتماعي عراقي متنوع ازاء ممالك وقوميات يوغسلافية
هنا ، اسمحوا لي ان اقدم مقاربة معرفية عن يوغسلافيا ومقارنتها بالعراق لنرى اين وجه الصواب من الخطأ في ما يدعيه هؤلاء الذين يسعون باستماتة الى تقسيم العراق من دون اي منطق تاريخي ومن دون اي وازع اخلاقي ومن دون اي شعور وطني . انه بالرغم من اقتراب عدد السكان بين يوغسلافيا والعراق ، الا ان يوغسلافيا كانت تتكون من قوميات كبيرة اساسية ، هي : الصرب والكروات وكل من البوسنيين والسلاف والسلوفينيين والمقدونيين وسكان الجبل الاسود والمونتيغرينز مع وجود اثنيات البانية وهنغارية .. وغيرها من الاقليات . ولكل قومية لغتها القديمة وتاريخ ممالكها التي تعود الى العصور الوسطى . وهنا اسأل هل كانت للقوميات في العراق ممالك قديمة وحدود معترف بها ؟ واذا كانت شعوب البلقان لها مواريثها السياسية القديمة مع الرومان والبيزنطيين والقوط والفرنجة والفرس .. وكان ان ظهر من مقدونيا الاسكندر المقدوني كاشهر غزاة العالم .. فهل لنا اليوم مواريثنا السياسية القديمة نحن العراقيين ؟
ان اللغات المستخدمة في يوغسلافيا هي الصربية ، والكرواتية والسلوفينية واللغات المقدونية الرسمية للدولة ، علما بأن لغتين وطنيتين للاقليتين الالبانية والهنغارية .. اما الاديان ، فهناك 30 % روم كاثوليك ، ، و50% من الصرب والمقدونيين المسيحيين الارثودكس الشرقيين ، و9% من المسلمين ، و1% من البروتستانت و10% من اديان اخرى . اما بشأن عدد السكان فان احصائية 1981 تؤكد ان سكان صربيا يؤلفون تسعة ملايين وثلاثمائة الفا وكرواتيا اربعة ملايين وستمائة الفا والبوسنة اربعة ملايين ومائة الف ومقدونيا مليون وتسعمائة الفا وسلوفانيا مليون وثمانمتئة وتسعين الفا ومونتينيغرو خمسمائة واثنان وثمانين الفا . وبعد عشرة اعوام من 1981، اي في العام 1991 ، اصبح عدد سكان يوغسلافيا 23 مليونا وستمائة الف نسمة . وهنا علينا ان نقف عند العراق ، لنجد ان اللغات المستخدمة لا تقارن بما هو حال يوغسلافيا وزنا وحجما ، ففي كل جمهورية لغتها الخاصة بها ، وهذا ما لم نجده في العراق مع الاعتراف الرسمي باللغتين العربية والكردية ، ولكن ثمة لغات في العراق : تركمانية وسريانية آرامية وكردية كرمانجية وكردية سورانية وشبكية وأرمنية ولغات اخرى ، ولكنها جميعا لم تحدد بمكان معين ( باستثناء الكردية ) فهي محددة رسميا في اقليم كردستان .

تكوين تاريخي لقوميات لها ممالكها وحدودها
لعل من اهم ما يميز شعوب يوغوسلافيا ان لكل شعب فيها كيانه القومي والتاريخي المنفصل عن الاخر منذ العصور الوسطى ، اذ لا يمكننا ان نجد اية شراكة تاريخية بينها باستثناء الصرب والكروات .. فهل نجد هذا في العراق ؟ والاهم من ذلك كله ان لكل من الصرب والكروات والبوسنويين والمقدونيين والسلافيين واهل الجبل الاسود وغيرهم تواريخ دول وممالك منفصلة واحدتها عن الاخرى ، ولكل شعب من هذه الشعوب تقاليد سياسية غير مندمجة احداها بالاخرى ! فهل نجد مثل هذا في العراق ؟ بل يعلمنا التاريخ منذ العصور الوسطى ان لكل مملكة من ممالكهم البلقانية عاصمتها ومدنها الخاصة بها ، فزغرب عاصمة كرواتيا ، وبلغراد عاصمة صربيا ( التي غدت عاصمة لدولة يوغوسلافيا الاتحادية ) وسراجييفو عاصمة البوسنيين وسكوبجي عاصمة مقدونيا وليبوجانا عاصمة سلوفيينيا ودوبروفنيك عاصمة مونتيغرو .. ، فهل كانت هناك في العراق عواصم لممالك قديمة باستثناء بغداد ؟
ان ثمة مشكلة تاريخية مشتركة بين صربيا ومقدونيا والبانيا في الجنوب هي المجال الجغرافي المسمى بكوسوفو وعاصمته برشتينا ، والذي كان مثار صراع دموي مزمن منذ ستة قرون خلت .. فهل كان هناك في العراق اي مجال جغرافي تقاتل من اجله العراقيون وغدا ملطخا بالدماء لمئات السنين ؟ هذه الكيانات الجغرافية والتاريخية القديمة التي كانت قد عاشت تواريخ قديمة منذ القدم ومرورا بالعصور الوسطى قد طبعت شعوبها بطابعها .. ناهيكم عن ان هذه الكيانات تحد بها دول وشعوب عدة هي اليونان والبانيا من الجنوب وبلغاريا ورومانيا من الشرق وهنغاريا والنمسا من الشمال ..
استقلالية الكيانات في يوغسلافيا
لقد عاشت كيانات يوغوسلافيا مستقلة واحدتها عن الاخرى على امتداد تواريخ العصور الوسطى وكانت كل دولة لها استقلاليتها عن الاخرى ولكل منها عرش ملوكها ناهيكم عن هوية وخصوصية كل شعب ، ولكن عانى الكروات والسلوفينيين من هيمنة اطار مملكة الفرنجه ثم ظل الامبراطوريه النمساويه ، وبالرغم من تحصيل كروات كرواتيا وسلوفينيا الاستقلال الذي تمتعوا به لفترة وجيزة قبل ان تقع تحت السيطرة النمساويه والمجريه ؛ وناضل الكروات في دالماسيا ضد الهيمنة البيزنطيه والهنغاريه ، وفرسان البندقيه والجيوش الفرنسية والنمساويه . ونافس الصرب الامبراطوريه البيزنطيه في العصور الوسطى ، وما ان انتهت التحديات البيزنطية الصعبة حتى بدأت الهيمنة العثمانية لأكثر من 500 عاما حتى بدايات القرن العشرين . هذا التاريخ المتمفصل لليوغسلافيين لا يعرف العراقيون شبيها له ابدا .. فالعراقيون نسيج اجتماعي متنوع وله فسيفسائه العرقي والديني والمذهبي ، ولكن لم يؤسس نفسه على الانقسامات العرقية او الدينية .. العراقيون لم يعرفوا الصراعات في ما بينهم على امتداد تاريخهم ابدا .. العراقيون مختلطون اجتماعيا ومتلاحمون عشائريا ومتداخلون اقتصاديا ومتسامحون ثقافيا .. العراقيون لا حدود سياسية قديمة في ما بينهم .. نشأت على ترابهم عدة دول ضمن وطن واحد في حين ان يوغسلافيا ضمت اوطان في دولة واحدة فيوغسلافيا سقطت كبيت من ورق والعراق لن يتفكك بسهولة لأنه بيت من صخر !
الحروب الاهلية في البلقان
واذا كانت شعوب البلقان ويوغسلافيا قد انشغلت في ما اسمي بحروب البلقان الدموية ضد السيطرة التركية على مدى اكثر من اربعة قرون من الزمن الصعب حتى الفوز قبل الاستقلال في القرن التاسع عشر ، فان العراق كان ساحة حرب بين الاتراك العثمانيين من طرف وبين الايرانيين الصفويين والنادريين والزنديين والقاجاريين من طرف آخر.. وشعب العراق يدافع كرجل واحد ضد الغزاة والطامعين في حين ان شعوب البلقان كل يدافع عن نفسه ! فمثلا شعب الجبل الأسود ، قد عاش لقرون طوال في ظل سلالة الاسقف الكهنه – ودافع بوحشيه على جبال وطنه ضد المعتدين الاجانب. وكان ان انتمى الكثير من البوسنيين الى الاسلام لحمايه انفسهم من السياسية الخارجية والضغوط الدينية . وكانت هناك صراعات عرقية باثواب دينية بين الصرب والكروات والبوسنويين والالبان دامت طويلا ( انظر التفاصيل في كتاب اندريه جيرولايماثوس ، الحروب البلقانية Andre Gerolymatos, The Balkan Wars, published in 2002 ، فهل عاش العراقيون في حروب اهلية ودموية قاسية ؟ هل جرت مذابح عرقية ودينية بين اهل العراق انفسهم احدهم ضد الاخر ؟ واذا كان هناك من يجعل بعض ما ارتكب من جرائم من قبل مسؤولين في الدولة على ايام العهد السابق ، فان ذلك لا يعبر عن حرب اهلية ابدا ! بل اجد ان ثمة صراعات دموية قبلية في العراق بين قبائل وعشائر عربية ، بمعزل عن صدامات ومعارك بين قبائل او احزاب الكرد انفسهم ، علينا ان نتساءل : هل عاش العراق مثل تلك التمزقات القومية والحروب العرقية في تاريخه الطويل كالتي عاشتها يوغسلافيا ؟ الجواب : كلا .
نعم ، لقد تحولت اعداد كبيرة الى الاسلام بفعل نمو الحياة العثمانية وديمومتها ، وقد أصبح البلقان مصدر ازعاج لكل من النمسا المجر في اواخر القرن التاسع عشر. ان شعوب يوغوسلافيا ومجتمعاتها تمثّلأ خريطة معقدة من الجماعات العرقيه المتباينة في ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها واعرافها السياسية على مر القرون. ولما ضعفت سلطة الامبراطوريه العثمانيه وفتر نفوذها ، بدأت المنطقة تعج بالحروب وعلى مراكز النفوذ المتنازع عليها بين الصرب والبلغار واليونانيين والالبان .. فضلا عما غدت عليه المنطقة باكملها رهينه بين القوى الأوروبية الكبرى. يقول المؤرخ ستانفورد شو في الجزئين الاول والثاني من كتابه ” تاريخ الامبراطورية العثمانية وتركيا الحديثة History of the Ottoman Empire and Modern Turkey Stanford Shaw, بأن شعوب البلقان اخذت تسترجع يوما بعد آخر في معظم ممالكها العتيقة مع الاغلبيات السكانية الالبانيه والصربيه والبوسنوية والكرواتية والمقدونية تقاليد القرون الوسطى .. ” ولما اطلّ القرن العشرون انشغل الغرب كله بأهم قضية شغلت الرأي العام العالمي على امتداد النصف الثاني من القرن التاسع عشر اسميت بالمسألة الشرقية ، اي ما الذي يمكن عمله بعد زوال الرجل العثماني اثر بعد حروب البلقان اوائل القرن العشرين .
جمهوريات يوغوسلافيا المتحدة
يقول كتاب ” انقطاع يوغوسلافيا ” لمؤلفه الدكتور مارتن رادي ( الفصل الثالث ) : Martin Rady, The Breakup of Yugoslavia, Chapter 3: The Making of Yugoslavia ” حتى القرن العشرين ، فان عالم يوغوسلافيا لم يكن له اي وجود عندما ولد مؤلفا من عدد من الممالك المستقلة والمقاطعات الاساسية التي كانت معظمها تحت الهيمنة الخارجية ” . وعليه ، فان يوغوسلافيا لم تستطع الحياة لمرتين اولاها على عهد مملكتها المتحدة في ما بين الحربين العالميتين الاولى والثانية ، وثانيها على عهد جمهورياتها المتحدة لمؤسسها جوزيف بروز تيتو والتي انتهت قبل العام 1990 . لم يكن ليوغوسلافيا هوية وطنية واحدة .. ولم تبن علاقات منفتحة لا اجتماعية ولا اقتصادية بين تلك الجمهوريات .. وبقي عدم الثقة مسيطرا ومستمرا عبر الحدود العرقيه .. مع المرتبة الثانية المتمثلة بالبيروقراطيه الحكوميه القوميه والتمييز على اساس عرقي .. كلها وفّر خزينا من شرور الاصابة اليوغوسلافي الشعوب المتنوعة والمتباينة ـ على حد تعبير كل من المؤرخين ميشا غليني في كتابها ” سقوط يوغسلافيا : الحرب البلقانية الثالثة ، نشر بنغوين ، 1992 ) Misha Glenny, The Fall of Yugoslavia: The Third Balkan War ومارك ثومبسون في كتابه ” بيت من ورق : نهاية يوغسلافيا ، هودجينسن راديوز ، 1992 )Mark Thompson, A Paper House: The Ending of Yugoslavia . ولعل مشكلة كوسوفو من المشكلات المعقدة في تاريخ العالم والقابلة للانفجار دوما نظرا للعلاقات السيئة التي تحكم مجتمعات الصرب ازاء البوسنيين والمقدونيين والالبان ! ثمة علاقات صعبة جدا تتحكم بهذه الشعوب منها ما يتصل باستغلال الموارد من طرف على حساب الاخر ، ومنها ما يتصل بالثأر من ضحايا المؤامرات والحروب ، ومنها ما يتصل بروابط البعض مع جهات واطراف خارجية على حساب الاخر ، ومنها ما يتصل بالاسلام والاصولية الجديدة لدى البعض ازاء البعض الاخر ! هناك مقاطعة عرقية بين الحدود واحقاد اجتماعية متراكمة عبر التاريخ نتيجة ما حصل من مجازر وحشية بين السكان انفسهم ناهيكم عن الاستئصال العرقي الذي طال كل ممالك يوغوسلافيا .. ويحدثنا المؤرخ المعاصر جفيك كريستوفر في كتابه عن تراجيدية يوغوسلافيا والموسوم ” اعادة صناعة البلقان ” الصادر عن المعهد الملكي للشؤون الخارجية ، 1992 ، Cviic Christopher, Remaking the Balkans ” بأن التنافس على اعمق وطنية واقدمها نجدها عند الصرب والكروات ، وبالرغم من اجتماعهما في لغة مشتركة ، فان العداوة العرقية بين الاثنين بلغت عنان السماء ” ناهيكم عن الفروق الاساسية في الاساليب السياسية الموروثة لدى كل من الشعبين ” .


افتراق بين تاريخين متباينين
لم يعش العراق اتحادا بين اجزائه في يوم من الايام ، بل كان تكوينه اداريا منذ العصور الكلاسيكية ومهما تباينت انظمة الحكم السياسية فيه .. وفي العهود الاسلامية عاش بامصاره ودساكره ، ومن ثم بولاياته والويته واخيرا مع محافظاته المرتبطة دوما بالعاصمة بغداد التي لم تكن مركزية للعراق وحده ، بل عاصمة لكل العالم الاسلامي ولمئات السنين .. ولا اعتقد ان احدا ينكر ذلك .. ومقارنة مع يوغسلافيا ، فلا يمكن ان تستمر بلغراد عاصمة صربيا مركزا لكل يوغسلافيا ! لقد استطاع العثمانيون هزيمة الصرب عام 1389 في معركة أمسيفيلد و تمكنوا في 1483 من توحيد البلقان تحت سيطرتهم. فكانت ان تشكلت منطقة البلقان جزءاً من الامبراطورية العثمانية للقرون الأربعة التالية ، واذا ما قارنا الحكم العثماني بين كل من العراق والبلقان سنجد فروقات هائلة ، قالصراعات ضد العثمانيبن في البلقان كانت قومية صرفة ، ثم دينية في المقام الثاني وهذا ما لم نجده في العراق او مصر وبلاد الشام . نال الصرب استقلالهم عن العثمانيين عام 1877/1878 بعد هزيمة العثمانيين في الحروب الروسية-التركية. أُعلن قيام مملكة الصرب في 1882، بينما أصبحت بقيت شعوب كرواتيا، سلوفاكيا و البوسنة و الهرسك تدريجياً تحت امرة الامبراطورية النمساوية – الهنغارية. اي بمعنى ان هناك تاريخا مختلفا لشعوب يوغسلافيا على عكس تاريخ العراق فهو تاريخ موّحد ليس من الناحية السياسية فقط ، بل من الناحية الاجتماعية والاقتصادية .. وان العراقيين بقوا على امتداد التاريخ الحديث نسيجا اجتماعيا واحدا ، وبروابط اقتصادية واحدة .
التكوين المعاصر
الامبراطورية النمساوية – الهنغارية وقفت ضد المد القومي السلافي الداعي إلى وحدة الشعوب السلافية في البلقان. اشتعلت الحرب العالمية الأولى عندما قام طالب صربي بإغتيال ولي العهد النمساوي فرانز فرديناند (Franz Ferdinand) في 28 يونيو/حزيران 1914. وعليه ، فما ان انتهت الحرب العالمية الأولى وتقسمت الامبراطورية ، اتحدت عام 1918 كل من صربيا، كرواتيا و سلوفينيا تحت قيادة ملك الصرب بطرس الأول (Peter I) وباسم “مملكة صربيا، كرواتيا و سلوفينيا”. ثم اتبع خليفته الملك الكسندر الأول (Alexander I) حكم عسكري منذ عام 1929 إلى حين اغتياله عام 1934. ولقد أُعيد اطلاق تسمية البلاد بـ “مملكة يوغوسلافيا المتحدة “. ولما كان الملك بطرس الثاني (Peter II) قد ناصر عام 1941 دول المحور في الحرب العالمية الثانية، فلقد أدى ذلك إلى اسقاطه في الحال على يد الجيش. وانتهز هتلر هذه الفرصة و أمر القوات الألمانية و الايطالية باحتلال البلاد.
وعند عام 1943 صعد نجم جوزيب بروز الملقب بتيتو زعيم المقاومة اليوغوسلافية، التي تمكنت مع القوات السوفياتية من تحرير البلاد عام 1945. وأُعلنت في نفس السنة قيام ( اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الشعبية ) وغدا تيتو رئيساً لها. كان هذا ( الاتحاد ) يضم كل من صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة و الهرسك، الجبل الأسود و مقدونيا . ولقد بقي تيتو رئيساً للاتحاد حتى مماته عام 1980، وعدت نهايته قفلة تاريخية ، او بداية النهاية للاتحاد اليوغوسلافي.. وهنا نتساءل : متى كان تاريخ العراق الحديث قد تشابه مع تاريخ يوغسلافيا ، فلقد عاش العراق موحدا من خلال مركزية بغداد وعاشت يوغسلافيا مملكة متحدة ومن ثم اتحاد لجمهوريات يوغوسلافية ؟ ومتى وجدنا ان هناك اقاليم عرقية رسمية في العراق ( باستثناء اقليم كردستان حاليا ) ؟ في حين ان يوغسلافيا تكوين قديم من ممالك وجمهوريات لها تواريخها المنفصلة بعضها عن الاخر ! هذه هي اسماء ممالك يوغسلافيا قديما وجمهورياتها حديثا .. فهل بامكان اي انسان ان يسّمي لي مملكة واحدة او جمهورية واحدة يتكون منها او يضمها العراق ؟
لقد أُجريت عام 1990 أول انتخابات حرة في جمهوريتي كرواتيا و سلوفينيا منذ الحرب العالمية الثانية. مع انهيار الاتحاد السوفياتي و تزايد الأصوات المنادية بفك الاتحاد، أعلنت كل من كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا استقلالهم عام 1991. فبدأت بذلك الحرب اليوغوسلافية لاسترجاع الجمهوريات المنفصلة بين الجيش الاتحادي (الصرب) وبينهم . فاذا كانت الحرب قد اشتعلت يوغسلافيا عندما تفكك الاتحاد ، فكيف نضمن عدم اشتعال حروب عندما تتفكك وحدة العراق سياسيا ؟ ولقد أعلنت البوسنة و الهرسك استقلالها عام 1992، مما أدخلها في حرب أهلية مع الصرب، البوسنيين الصرب، الكروات و مع البوسنيين الكروات. اعترفت المجموعة الاوروبية و الولايات المتحدة في كرواتيا ،سلوفينيا و البوسنة و الهرسك عام 1992.
النهاية
لقد أُنشئت محكمة مجرمي حرب يوغوسلافيا عام 1993 في لاهاي. ولقد أُنهيت الحرب مع توقيع اتفاقية دايتون للسلام عام 1995 ونشر قوات دولية في البوسنة. تظاهر مئات الآلاف في صربيا ضد نتائج انتخابات عام 1996 التي أُعلن فوز الحزب الاشتراكي فيها، اعترف بفوز المعارضة في العام المقبل. بدأت عام 1998 في اقليم كوسوفو الصربي ذو الأغلبية الألبانية أحداث شغب عنيفة أدت إلى اشعال حرب كوسوفو و تدخل حلف الناتو في عام 1999، إلى حين إعلان وقف اطلاق النار و نشر قوات دولية. الوضع الداخلي في صربيا بدأ بالاهتزاز، بعد انتفاضة الشعب و انتخاب كوشتونيكا رئيساً للبلاد عام 2000 ، أُعتقل عام 2001 رجل صربيا القوي ميلوسوفيتش و سُلم بعد ذللك لمحكمة العدل. كونت صربيا و الجبل الأسود اتحاداً فيما بينهم عام 2003، أُطلق عليه “صربيا و الجبل الأسود”. عندما بدأ الاتحاد اليوغوسلافي بالانهيار عام 1991 و محاولة انهاء الحركات الانفصالية بالقوة، أدى ذلك في الفترة 1991 – 2001 إلى عزل يوغوسلافيا دولياً و فرض عقوبات دولية عليها. توفي ميلوسوفيتش عام 2006 في سجنه في لاهاي بدون انتهاءمحاكمته بمحكمةجرائم الحرب . اما العراق ، فلم ينته المسلسل بعد ، ولا يعرف مصيره حتى الان في ظل تعقيدات لا اول لها ولا آخر ليس اثر سقوط النظام السابق ، بل منذ قرابة ثلاثين سنة صعبة جدا في التاريخ .
استنتاجات
1. يبدو لنا ان المكونات اليوغسلافية لها تواريخها المنفصلة بعضها عن البعض الاخر من خلال اوطان قديمة لكل منها ، بعكس ما اسمي ايضا بالمكونات العراقية التي كانت ولم تزل مندمجة بعضها بالبعض الاخر ، ولم تعرف اوطانا قومية لها دولها القديمة وتواريخها الخاصة ، فضلا عن ان ممالك الصرب والكروات والبوسنة والجبل الاسود محددة جغرافيا بحدودها القديمة في مواقعها في الماضي والحاضر ، اذ ليست أي واحدة منها مشتتة وممزقة بين دول مختلفة .
2. ان من السهولة حدوث انقسامات يوغوسلافيا بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وسقوط انظمتها السياسية عند مطلع التسعينيات من القرن العشرين ، ولكن من الصعوبة والعسر ان ينقسم العراق مباشرة كما يحلم بذلك خصومه .. وحتى ان انقسم او تشظى نتيجة عوامل دولية او اقليمية ، فانه يسترجع عافيته ويلتئم من جديد عاجلا ام آجلا !
3. من السخف ان نشبه العراق بيوغسلافيا ، فالعراق بلاد قديمة وموحدة من خلال طبيعتها الجغرافية اذ يحدّها من الشمال سلاسل جبال طوروس وانتي طوروس ومن الشرق سلاسل جبال زاكروس ويجري فيها دجلة والفرات منذ الازل وقد سميت ببلاد وادي الرافدين او Mesopotamia في حين ان بلاد يوغسلافيا تسمية جديدة وحدت خمسة او ستة قوميات مع بعضها في نظام سياسي بانهياره تفككت مباشرة وعادت الى اصولها ، في حين لم يتفكك العراق مطلقا مع سقوط اي نظام سياسي او مع انهزامه في اي حرب !
4. ان جمهوريات يوغسلافيا معترف بها تاريخيا بتسمياتها القومية منذ العصور الوسطى ، ولكن العراق لم يعرف اية جمهوريات اتحادية ، بل اعيد تاريخه باسم المملكة العراقية ، ومن ثم استمر باسم الجمهورية العراقية .. فهو موحد الاجزاء يريدون تفكيكه وتمزيقه .. في حين ان يوغسلافيا منذ ان تركبت اثر الحرب الاولى باسم مملكة يوغسلافيا المتحدة ، ثم غدت باسم اتحاد جمهوريات يوغسلافيا الشعبية الاشتراكية .
5. من خلال تاريخ طويل ، بقيت شعوب يوغسلافيا منحسرة في ممالكها وجمهورياتها ، كّل بلغته وتقاليده واعرافه ولم تنجح سياسة جوزيف بروز تيتو في دمج تلك الامم في امة واحدة .. في حين بقي الشعب العراقي يرث حالات الاندماج الاجتماعي والاقتصادي منذ القرون السابقة ، ووجدنا كم خدم العراق سياسيا واداريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا واعلاميا .. من عرب وكرد وتركمان وسريان وآشوريين وكلدان وأرمن .. شنة وشيعة وكل الملل والمذاهب .. ولم ينجح صدام حسين ولا كل القادة الشوفينيين العراقيين في صبغ العراق بأي صبغة غير الصبغة العراقية .
6. ان المشاكل والمعضلات التي واجهتها يوغسلافيا مؤخرا قبل اتفاق دايتون لا تشابه بأي شكل من الاشكال مشكلات العراق ومعضلاته .. ففي يوغسلافيا مشكلات عرقية مزمنة منذ قرون وحروب اهلية ودينية كانت تتفاعل اجتماعيا لتأخذ مداها سياسيا اي ان اغلب مشكلات يوغسلافيا داخلية حقيقية.. في حين ان العراق لم يعرف اي حروب اهلية داخلية ولم يعرف مجتمعه كله الا التعايش عبر تاريخه ، وان المشكلات التي عانى منها كانت سياسية وخارجية ، بل وانها سلطوية لا علاقة للمجتمع بها .. بل ان المجتمع كله قد عانى منها فضلا عن ان العراق ومشكلاته الطائفية لم تحيا بشكل مقرف الا بعد الشعور بالقهر والظلم .
7. ان مشكلة كوسوفو في يوغسلافيا قديمة وتتمثل في صراع داخلي عرقي وديني بين الصرب والبوسنويين وغيرهم في مقاطعة مختلطة الاعراق مثّلت صراع الاطراف في السيادة عليها والاستئصال العرقي والديني فيها .. اما في العراق ، فلم يكن هناك مشكلة مشابهة وقديمة مثلها ابدا ، ذلك ان مشكلة كركوك حديثة العهد ولا يمكنها ان تقارن ابدا بمشكلة كوسوفو .. ان مشكلة كوسوفو يعود تاريخها الى العام 1389 ( اي نهاية القرن الرابع عشر الميلادي ) في حين لم نسمع بمشكلة كركوك الا اليوم !! ( انظر كتاب ثوماس امرت عن مشكلة كوسوفو التاريخية ) وبالامكان حسمها من خلال العودة الى احصاء السكان في العراق للعام 1957 ، فهو افضل احصاء سكاني عراقي حتى يومنا هذا لمعرفة حقائق كركوك او غير كركوك قبل العهود الجمهورية العراقية التي اختلطت فيها الاوراق من خلال النزوح والتهجير والتوطين والاستئصال . واعتقد ان ذلك هو الحل الافضل .
8. واخيرا ، فان من اهم الاستنتاجات التي يمكنني التوصل لها هو الاستفادة من تجارب يوغسلافيا وغيرها في حل المشكلات ، اذ لا يمكن في العراق خلق عدة هويات انتماء مع وجود العراق .. فمن يريد العراق يعلن عن رغبته بالبقاء عراقيا ومن لم ليس له رغبة في ان يكون عراقيا فليعلن انه انقسامي او انفصالي ، فليس من المعقول ابدا ان نضحك على انفسنا وعلى الاخرين . ولقد اظهر الواقع المؤلم كم هو حجم التشظيات في دواخل المجتمع العراقي اليوم ، ولكن لا يمكنها ان تطال عراقية اي انسان عراقي ، ولا يمكنها ان تطال اي شبر من العراق .
9. مطلوب من كل العراقيين اليوم اعادة النظر في توجهاتهم وافكارهم .. معرفتهم ووعيهم .. وطنيتهم وانتماءاتهم .. عليهم ان يعيدوا التفكير في مصالحهم ومصيرهم الذي ينتظرهم جميعا .. عليهم ان يعلموا ان العراق هو حاضنتهم جميعا ، ولن تنفعهم كل الاجندة التي مارسوها وما زالوا يتشدقون بها منذ سنوات .. عليهم ان يفكروا في نقاط الضعف التي يتضمنها دستورهم العراقي الذي لم يوافق عليه كل العراقيين ، فالدستور لابد ان تجري التعديلات عليه قبل ان تكون نصوصه الحالية فهي ليست مقدّسة ، بل ان بعضها آثمة بحق العراق والعراقيين .. عليهم ان يعترفوا بأن هناك عراقيين من مختلف الطوائف والاعراق قد ظلموا في العهد السابق وانسحقوا وقهروا وتشردوا .. عليهم ان يعترفوا ان كل من تعاون من العراقيين مع النظام السابق .. ان مشكلاتهم جديدة وليست غارقة في القدم كمشكلات اوربية .. ولكن عليهم ان يقتنعوا بأن الحلول ليست نفسها ..
10. واخيرا على العراقيين انفسهم ان يبحثوا عن حلول لهم ولمشكلاتهم ، فلا يمكننا الاعتماد على اي طرف خارجي او على اي مستشارين اجانب او على اي اعضاء مجلس شيوخ امريكي ام ايراني في التصفيق لما يريدون او يقترحون ولا يمكن تنفيذ اي اجندة غير وطنية عراقية ، كما لا يمكن التهريج مع كتبة وساسة مهرجين ومداحين لا يعرفون من العلم او المعرفة وبعد النظر شيئا .. متمنيا ان اكون قد قدمت مادة علمية معرفية موثقة عن حالة يوغسلافية لا تشابه ابدا اي حالة عراقية عشناها او نعيشها ، فاذا كانت يوغسلافيا بيت من ورق فالعراق بيت من صخر .. ان الوطنية ليست مجرد شعارات استهلاكية او مصلحية نفعية سلطوية او مادية .. بل انها نزعة لا يمكن لأي كائن من كان ان يقتلعها من غرسها في الاعماق .
مصادر واستشارات اخرى
John R. Lampe, Yugoslavia as History ( Cambridge: Cambridge University Press, 1996).
Thomas A. Emmert, Serbian Golgotha: Kosovo, 1389, New York: Colombia University Press, 1988).
ٍSayyar K. Al-Jamil, An Historical Geography of the Ottoman Empire” in Thomas Link, A History of the Modern Europe, Institute for European Studies, Hamburg, 1999.
Fred Singleton, A Short History of the Yugoslav Peoples, Cambridge University Press, 1983.
The International Institute for Middle-East and Balkan Studies (IFIMES) in Ljubljana, Slovenia,
www.sayyaraljamil.com
ايلاف 8 اكتوبر 2007


شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …