الرئيسية / مقالات / رحيل مجيد خدوري كبير مؤرخي العراق المعاصر

رحيل مجيد خدوري كبير مؤرخي العراق المعاصر

بعد قرابة ستة اشهر من رحيل طيب الذكر المؤرخ الاستاذ نقولا زيادة في بيروت ، رحل قبل ايام مؤرخ كبير آخر هو الاستاذ مجيد خدوري ، وقد عاش كلاهما عمرا واحدا فالاول ولد عام 1907 ورحل في/7/ 29 2006 ، أما الثاني فولد في 1908 ورحل في/1/ 25 2007 . نعم فوجئنا قبل أيام برحيل كبير مؤرخي تاريخ العراق المعاصر بواشنطن دي سي .. اذ رحل ذلك الرجل القدير الذي لم يبق الا وحده في الساحة بعد ان غادر طيف الرعيل الاول عّنا .. رحل ولم يكمل مئة عام من العمر ، وبعد حياة حافلة بالانتاج والمكانة الدولية والاكاديمية ..
رحل مجيد خدوري الذي تنوعت حياته المديدة وزخرت ثقافتنا التاريخية بالعديد من اعماله الرصينة .. رحل الرجل المثقف الذي يعد واحدا من بناة المعرفة والعلم في العراق المعاصر .. رحل العلامة الشهير خدوري ابن الموصل ام الربيعين بعد ان كان قد تركها نهائيا قبل سبعين سنة .. رحل هذا المؤرخ الجاد الذي تخرج على يديه المئات من المختصين والعلماء والباحثين اللامعين في شؤون الشرق الاوسط الذين كانت لهم مناصبهم الدوبلوماسية والاكاديمية ..
رحل مجيد خدوري بعد ان ترك لنا قرابة 35 كتابا ممتازا وعشرات المقالات العلمية ، منها ما ترجم للعربية ومنها ما ينتظر النشر فيها بعد ترجمته عن الانكليزية .. رحل صاحب كرسي الشرق الاوسط في جامعة جون هوبكنز بالولايات المتحدة الامريكية منذ قرابة نصف قرن .. رحل الرجل المتواضع والهادئ وقليل السفر والمشهور بنظام حياته وغذائه وانعدام فراغ وقته وصبره وجلده .. رحل المؤرخ الذي عّرف العالم لأول مرة بالعراق المعاصر وتكويناته ورجاله . بعد ان عاش رحلة حياة مثمرة ومنتجة ونشيطة وبقي حتى لحظاته الاخيرة يتمتع بكل حيويته ويقضي حوائجه بنفسه ، وهو يذهب على قدميه يوميا مسافة ميل عن بيته ليشتري حاجاته !
استطيع القول ان مجيد خدوري غبن كثيرا في الثقافة العربية ، مقارنة بما كان لغيره من اهتمام .. ففي العربية وباستثناء ما نشرته عنه في ( نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية ) وما نشره الصديق الدكتور ابراهيم خليل احمد في مقالته عنه ، فان مجيد خدوري يكاد يكون اسمه مجهولا الا لدى نخبة قليلة من المؤرخين المختصين .. علما بأن كتبه وكتاباته قد استفاد منها الكثير من الكتّاب والباحثين من دون ان يعرفوا عنه شيئا .. وهو يعد رائد كتابة تاريخ العراق المعاصر بلا منازع ، وتميّز بمنهجه وأسلوبه ورؤيته ، بل وان افكاره واراءه التي كتبها عن هذا التاريخ تحدد ملامح تفكير هذا الرجل الخبير الذي لم ينس تاريخ المنطقة العربية ورجالها ..
ولد الفقيد مجيد خدوري بمدينة الموصل بالعراق في 27 ايلول/ سبتمبر 1908 في اسرة مسيحية من اليعاقبة الارثودكس القدماء ، ودرس في مدارسها وتلقى المبادئ الاولى على ايدي اشهر اساتذة الموصل والتي كانت تشهد نهضة واستنارة .. ولد في السنة التي غيّرت كل مسارات الشرق الاوسط ، بحدوث انقلاب الاتحاديين على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني .. وفي شبابه درس في ثانوية الموصل الشهيرة وكان يتابع ما يصدر في المدينة من صحف وأدبيات شهيرة .. ثم درس في دار المعلمين ببغداد وتخرّج في العام 1928 ، وانطلق ليدرس طالبا في الجامعة الامريكية ببيروت عام 1928 ورجع بعد اربع سنوات وهو يحمل شهادة البكالوريوس في تدريس التاريخ مع أجمل الذكريات عن بيروت ، فعّين عام 1932 في ثانوية الموصل المركزية التي دّرس فيها قرابة اربع سنوات ، ثم غادر الى بغداد اثر حدوث مشكلة تربوية بينه وبين احد الطلبة المتزمتين ، وبقي في بغداد فترة من الزمن حتى غادرها الى امريكا لينتسب الى جامعة شيكاغو التي نال فيها شهادة الدكتوراه عام 1938 ،عن اطروحته الموسومة: (الانتدابات في عصبة الأمم)، ثم عاد بعدها إلى العراق ليعمل مدرساً لمادة تاريخ الشرق الأدنى الحديث في دار المعلمين العالية ببغداد ، وكانت من اشهر معاهد الشرق الاوسط ، اذ تخّرجت في اروقتها غالبية الادباء والشعراء المبدعين العراقيين .. وكانت لخدوري عدة تآليف تاريخية اثناء وجوده في العراق .
وفي العام 1945، كان للراحل نشاط علمي وتربوي ودبلوماسي اذ استقطبته وزارة الخارجية العراقية بسبب كفاءته ، فعمل فيها عام 1945 وغدا عضواً في الوفد العراقي الى المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة في سان فرانسيسكو سنة 1945 ، كما وكان عضواً في عدة لجان في وزارة التربية العراقية، وخاصة بين سنتي 1939و1947 .
لقد عاد خدوري الى الولايات المتحدة عام 1947 ، ليدّرس في جامعة انديانا وجامعة شيكاغو ، وفي عام 1949 أسس أول مركز في الولايات المتحدة الأمريكية يعني بشؤون دراسات الشرق الاوسط . لقد بقي مديرا لبرنامج دراسات الشرق الاوسط حتى تقاعده في العام 1980 .كما وانه قدّم بعض الدروس الاولى عن القانون الاسلامي (= الشريعة ) ، ثمّ اختير مستشارا في بعض نشاطات وزارة الخارجية الأميركية، خاصة بعد أن أصبح مواطناً أميركيا سنة 1954. وقد كان له دور في تأسيس الجامعة في ليبيا وشغل منصب رئاسة الجامعة هناك سنة 1957 .
كتب خدوري اكثر من 35 كتابا بالانكليزية والعربية ومئات المقالات في شؤون الشرق الاوسط والعراق المعاصر والشخصيات العربية .. وكتب ايضا عدة اعمال علمية وموثقة ولها اهميتها عن مصر وليبيا وسوريا والعربية السعودية . اسس كذلك الجمعية الشيبانية للقانون الدولي للعلماء والاكاديميين المهتمين والمتفهّمين للشؤون الشرعية والمؤثرين في العالم الاسلامي . وكان استاذا زائرا لعدة معاهد وجامعات بضمنها كولومبيا وهارفرد وفيرجينيا وجورج تاون واكسفورد وغيرها .
زوجته هي الموصلية المثقفة مجدية خدوري التي توفيت في العام 1972، وقد انجبا كل من فريد وشيرين ( التي اقترنت بالزميل الدكتور ادموند غريب ).. أتمنى على المؤرخين العرب قاطبة الاهتمام باعمال مجيد خدوري التي ستبقى علامات شاخصة ومتميزة قدّمها واحد من امهر الرجال المختصين والذي امتاز بمنهجه ورؤيته ودقته وعمق تجربته وخبراته .. ستبقى ذكرى الاستاذ مجيد خدوري حية بيننا ، وستبقى كتبه ومؤلفاته مراجع اساسية لنا جميعا وللاجيال من بعدنا ، واعلم القراء الكرام انني سانشر لاحقا ذكرياتي مع الرجل والتي كنت قد نشرتها قبل اعوام .. للراحل الذكرى الطيبة مع اصدق التعازي القلبية لاسرته الكريمة .
www.sayyaraljamil.com
النهار البيروتية 8 فبراير 2007

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …