الرئيسية / كتابات عن / تعقيباً على مقالة الدكتور الجميل

تعقيباً على مقالة الدكتور الجميل

لا أذيع سرا” اذ اعترف بانني من قراء الدكتور سيار الجميل، ربما الى حدّ الولع بما يقع بين يدي مما يكتبه وما ينشره الرجل، وليس مصادفة” ان تكون هذه المقالة هي الثانية في التعقيب على الكاتب، وقد كانت الأولى حول ثلاثيته (بداوة / ريف / حضر) التي أراد فيها طرح أنموذج، يسعى من خلاله لدراسة (زوجيات الشخصية العراقية)، على وفق منهج العلامة المغفور له الدكتور علي الوردي، وثنائيته المعروف (بدو / حضر) وفي مقالته موضوع تعقيبنا هذا، المنشورة على صفحة (آراء) في جريدة الصباح بعددها (790) في 19/ 3/ 2006، والموسومة (مرسوم نانت عراقي: ضرورة مستقبلية)، استعار الكاتب الحروب المذهبية التي كانت تمزق فرنسا ما قبل عصر التنوير انموذجا”، ليقارب به ما يشهده العراق اليوم من صراعات (سياسية) ذات واجهة طائفية ولعل ما يلفت النظر في المقالة، ان الكاتب قد ركزّ مناظيره على الحدث التأريخي مجردا” من كل متغيراته ومحركاته، وكأن المشهدين كليهما في فرنسا القرون المظلمة، وفي عراق القرن الحادي والعشرين وموجة الحضارة الثالثة كما يعبرعنها (توفلر)، توأمان أنجبتهما حتمية تأريخية غامضة، أو لنقل قدر تأريخي أسبابه في عالم الغيب. وهو قد أبصر من المشهد هنا وهناك ما ذكرته كتب التأريخ عن مذابح الهيكونوت (البروتستانت) في فرنسا، وما يضج به الاعلام (الباحث عن الاثارة)، من صور وتوصيفات مضخمة لما يجري في العراق، وما صرح به بعض السياسيين الغربيين والاميركيين على وجه الخصوص، ولأسباب ونوايا عديدة وغير معلنة، حول ترجيح (الحرب الأهلية) كحدث محتمل في العراق.

لنعترف أولا” أن ليس بوسع المراقب مهما كان متفائلا”، ان يقلل من فداحة ما يجري في العراق اليوم وخطورته، فالقتل والخطف واستباحة المحرمات والحرمات، هي مما يدمغ الواقع اليومي للحياة العراقية، والانفلات الأمني كما انهيار الخدمات وتدهور امدادات الطاقة والوقود، وسيطرة مافيات التهريب والسوق السوداء على هذه الامدادات، واستشراء الفساد الاداري والمالي في مؤسسات الدولة الخديج، صارت من الأمور التي أصبح السكوت والتغاضي عنها، يعدّ مشاركة غير نظيفة في تدمير مقومات الحياة اليومية للمواطن. كما ان ليس لأحد ان يتغاضى عن القتل اليومي والتهجير على الهوية، الذي يروح ضحيته المئات من الأبرياء من هذه الطائفة أو تلك، ومشهد الميليشيات (الملثمة) والمكشوفة الوجوه، صار من المشاهد التي لا تفاجئ أحدا” في أكثر من واحدة من مدننا العزيزة، ومع هذا كله فان المشهد العراقي ولأسباب كثيرة، لا يبدو نموجا” مكررا” لما جرى في فرنسا من المذابح المذهبية، عبر ثلاثة قرون قبل عصر النهضة، وقبل أن تطرح الثورة الفرنسية مبادءها المعروفة.
واذا أخذنا بنظر الاعتبار المتغيرات الخاصة بطبيعة النظام الدولي، والعلاقات الاقليمية والدولية، فان نظم الحكم الاستبدادي والممالك الاقطاعية الخاضعة لهيمنة الكنيسة، التي سيطرت على أوروبا القرون الوسطى، لم تفرز نظاما” دوليا” له مقوماته الستراتيجية وتوازنات القوى، التي يتفرد بها نظامنا الدولي اليوم. وعلى مستوى التوازنات الداخلية وطبيعة النسيج الاجتماعي، وفاعلية الهوية الوطنية في كل من فرنسا، وما عانته من حروب ابادة وتهجير الهيكونوت (البروتستانت)، وعراق صراعات القوى المتصدرة لعمليات بناء الدولة العراقية الحديثة، وهي قوى اسلامية في معظمها، ولا تخلو من بؤر جانحة نحو التعصب المذهبي، فرضتها طبيعة المرحلة وتركات النظام الدكتانوري الملغى. فان الحال ليس مختلفا” وحسب، بل انه في نقيض لا يجيز المقارنه بأي حال من الأحوال، بخاصة اذا علمنا ان فرنسا لم تكن وطنا” بهوية وطنية واحدة، كما ان الفرنسيين أنفسهم لم يكونوا مجتمعا” بالمفهوم الوظيفي للمجتمع.

أما النظام الاداري فقد كان مثالا” لفوضى الحكم على الرغم من الوحدة السياسية الظاهرة، التي كرسها الملك لويس الرابع عشر، بعد صراعات شرسة مع طبقة النبلاء حتى قضى على نفوذهم السياسي، غير انهم ظلوا يحتفظون بامتيازاتهم الأخرى، التي كانت تشكل مصدر ابتزاز وعنت بالنسبة لطبقة العامة من الفرنسيين. وظلت المقاطعات الفرنسية تتمتع بقوانينها، التي تختلف من مقاطعة الى أخرى، هذا فضلا” عن اختلاف العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية، بل ان المقاييس والمكاييل كانت هي الأخرى تختلف من مقاطعة الى أخرى. وقد ظلت الحدود بين المقاطعات نفسها مصدر شقاق وخلاف، وكانت التجارة الداخلية البينية بين المقاطعات تخضع الى الرسوم الكمركية، الأمر الذي كان يعرقل الى حدّ كبير المبادلات التجارية بينها. وعلى رأي (فرديناند تونيز)، فان الجماعة (وليس المجتمع)، هي الصفة المميزة للسكان في اوروبا عموما” قبل عصر النهضة، وليس ثمة من يعتقد ان فرنسا هي استثناء عن هذا الرأي. وأكاد اجزم ان المطلع على واقع الحال في العراق، يرى صورة معاكسة تماما” للصورة السابقة، فالهوية الوطنية العراقية كانت وما زالت، قوة شدّ اجتماعي وانساني، ووشيجة يصعب تفكيك أواصرها بدعاوى طائفية مذهبية، هذا فضلا” عن ان الانتماء الديني (الاسلامي) هو أكثر المشتركات نفوذا” بين الطائفتين، لدرجة لا يمكن معها تجاهل أثره غير المحدود في تعزيز النسيج الاجتماعي العراقي، وليس أدلّ على ذلك من الزيجات المختلطة، بين أتباع المذاهب الاسلامية المتعددة في العراق. كما يرى الباحث في واقع العشائر العراقية، ان كبريات هذه العشائر هي في الغالب، ذات مكونات مذهبية متنوعة تنتظم بها العشيرة الواحدة، ولعل هذه الحقائق وحدها كافية لتؤكد للمراقب، ان أبناء المذاهب الاسلامية المتنوعة، سواء من أهل السنة والجماعة أو من الشيعة اتباع مذهب أهل البيت، هم أبناء عمومة وخؤولة ولعل هذه الوشائج تعني الكثير بالنسبة لمجتمع شرقي كمجتمعنا، وهي ما لم تكن معروفة” للفرنسيين أو سواهم من اوروبيي القرون الوسطى.
ولو اننا عدنا الى ما يمكن ان يطلق عليه (مذابح) الهيكونوت البروتستانت في فرنسا، محللين الظاهرة ليس بعدّها ظاهرة دينية بحتة، أو مجرد صراعات مذهبية، لوجدنا من العوامل المحركة لها ما يجعلنا، نعدّ أية مقارنة بينها وبين ظاهرة (الاحتدام) السياسي / المذهبي في العراق، شيئا” بعيدا” عن الرؤية التأريخية التحليلية المعمقة. فلقد امتدت الحروب الدموية المذهبية الفرنسية لقرون عديدة، وهي قد بلغت ذروة أوارها، على عهد لويس الثالث عشر وخلفه لويس الرابع عشر، آواخر القرن السابع عشر والعقود الأولى من القرن الثامن عشر. وعلى الرغم من مجيء فترات كانت تبدو فترات مصالحة وهدوء نسبي، الا انها في الغالب كانت تمثل نسقا” متصاعدا”، قد استوطن العقل الكنسي للكاثوليك، وهو لا يكاد يهدأ أو يتوقف الاّ لكي يبدأ من جديد أشدّ ضراوة” وعنتا”.

وبوسعي وعلى قد ما تتسع له هذه المقالة الموجزة، تفسير ظاهرة الحروب (المذهبية) الفرنسية بمجموعة من العوامل، هي في معظمها ذات طبيعة اقتصادية/ اجتماعية وسياسية، فضلا” عن عوامل دينية تتصل بطبيعة العلاقة بين كنيستين متصارعتين، وهما الكنيسة الكاثوليكية ذات الهيمنة المطلقة على البلاط كما على المجتمع، والكنيسة البروتستانتية الأقل شأنا” والمستضعفة. بخاصة اذا تذكرنا الطبيعة الاستبدادية الملكية مطلقة، تستمد شرعيتها من حق الهي مفترض، وهي تتكئ على الكنيسة الكاثوليكية لتعزيز هذه الشرعية وتكريسها.
وعلى الصعيد الاقتصادي/ الاجتماعي ، فان حركة الاستكشافات الجغرافية التي شهدتها اوروبا ومنها فرنسا، الى جانب عوامل أخرى، قد ساعدت على تراكم الثروة ونشوء طبقة وسطى (بورجوازية) نشيطة، وقد استحوذ البروتستانت، لما كان معروف عنهم من الفاعلية والنشاط المفرط، على القسط الأكبر من هذه المكاسب، حتى انهم كادوا يستحوذون على الثروة، وقد برز منهم محامون وأطباء وأدباء ومدرسون، وهم بهذا الظهور المبرز قد صاروا مصدر قلق لكل من الكنيسة الكاثوليكية والبلاط. مما استوجب تحريض العامة من الكاثوليك عليهم، واضطهادهم بفتاوى صريحة كانت تصدر من الكنيسة الكاثوليكية والبلاط معا”.
ولعل فيما تقدم من المفارقات وملابسات الحدث الفرنسي، وهو ما أغفلته مقالة الدكتور الجميل، ما يؤكد تناقض الصورتين، واختلاف المشهد في كل من عراق اليوم وفرنسا القرون الوسطى، وأحسب ان في هذا التناقض والاختلاف ما يكفي للتدليل، على ان كل مقارنة بين الحالتين هي مقارنة بين ظاهرتين ليستا من جنس واحد، وبالتالي فان ما يتمخض عن هذه المقارنة من استنتاجات ومقاربات، لا يمكن من وجهة النظر المنهجية الأخذ بها أو البناء عليها، وبوسعي أن أؤكد ان الحالة العراقية لا تمثل عراكا” اجتماعيا” بقدر ما هي صراع بين قوى سياسية تتلمس طريقها في فراغ سياسي بتوجس وحذر كبيرين، وان القول بالحرب الأهلية في العراق، هو قول فيه الكثير من المبالغة ان لم نقل الشطط والتشاؤم.
ومثل هذه الحالة لا يمكن مقارنتها حتى مع أقرب التجارب الدموية المعاصرة، كالتجربة اللبنانية أو الصومالية أو بما حدث في كوسوفو على سبيل المثال لا الحصر، لأن ثمة شروطاً موضوعية لا حصر لها، تجعل مثل هذه المقارنات شيئا” لا معنى له على الاطلاق.

*باحث اكاديمي وكاتب

الصباح 1 ابريل 2006

شاهد أيضاً

مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !

قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …