الرئيسية / كتابات عن / حول بحث الدكتور سيار الجميل دراسات نقدية في مذكرات أمين هويدي.. من أجل الكشف عن حقائق تاريخية جديدة

حول بحث الدكتور سيار الجميل دراسات نقدية في مذكرات أمين هويدي.. من أجل الكشف عن حقائق تاريخية جديدة

الحلقة الأولى
نشر الأخ الاستاذ الدكتور سيار الجميل بحثا على شكل حلقات بعنوان [ دراسات نقدية في مذكرات أمين هويدي ] من أجل الكشف عن حقائق تاريخية جديدة ، في جريدة الزمان ،في العدد 1535 بتاريخ 2/6 2003 ، ونقلته بعض المواقع على الأنترنيت .
ولقد بدأ الأخ الجميل الحلقة الأولى من مقالته بمقدمة جميلة جداً أتمنى أن يلتزم بها كل باحث في التاريخ من أجل أن ينقل الأحداث التاريخية للمتتبعين بكل أمانة وتجرد، حيث يقول :
إننا نعتقد بأن الأوان قد آن لكي يبدأ الوعي بالبحث عن الحقائق والتأكد منها كي لا تتوهم الأجيال أن كل ما يكتب أو يقال من تواريخ ومعلومات هي صحيحة فتؤخذ الأمور علي عواهنها.. وكثيرا ما نجد أن أموراً كبيرةً قد التبست علي مجتمع كامل ولعشرات السنين، فكيف بأمور جزئية كان لها أهميتها في أحداث المزيد من الانحرافات والتشوهات التاريخية التي نحس اليوم بوطأتها الثقيلة.. وعليه، فان بناء الوعي لا يتم إلا من خلال آليات فهم جديدة ومسح وثائقي شامل أو نقد في الحجج وإقامة الأدلة والبراهين من أجل كتابة صفحات نظيفة متخلصة قدر الإمكان من الشوائب لتاريخ له تعقيداته وخفاياه يستوجب ألا تخفي أي من جوانبه، ولا تهمّش أي من مساحاته الحقيقية تحت دعاوى خاطئة أو مسميات وشعارات ماكرة أو فبركات وأو أكاذيب لم تعد تنطلي علي أصحاب العقول من المؤرخين المتنورين المنتمين للجيل الجديد.
جميل منك أيها الأخ الكريم هذا الرأي ،وأنا أباركه بكل جوانحي وأتمنى الالتزام به أسلوباً نظيفاً وأميناً في كتابة التاريخ . غير أنني لي ملاحظات عديدة على ما ورد في الحلقات التالية من معلومات غير دقيقة ومخالفة لواقع الأحداث التي مر بها العراق ، ولا سيما وأنني قد عاصرت تلك الأحداث بكل دقائقها حيث كنت أمارس العمل السياسي آنذاك .
1ـ فلقد أطلقت على ثورة الرابع عشر من تموز [ الانقلاب الدموي ] ، في حين وصفت انقلاب 17 تموز [ الانقلاب الأبيض] فأي مفارقة في هذين الوصفين ؟ وأين هي المصداقية العلمية لكتابة التاريخ ؟
هل أن مقتل العائلة المالكة ،وهم يعدون على الأصابع ، على الرغم حزني على ما جرى لها آنذاك باستثناء عبد الإله الذي يتحمل مسؤولية العديد من الجرائم التي اقترفها النظام الملكي بحق أبناء الشعب ، وإن شئت فبإمكاني أن أعدد لك ما جرى من جرائم قتل في سجن بغداد وسجن الكوت للسجناء السياسيين العزل ، وما جرى من قتل وسجن وتعذيب أبان وثبة كانون المجيدة عام 1948 ووثبة تشرين المجيدة عام 1952 وأثناء إضراب عمال النفط في البصرة وكركوك [ كاورباغي] وانتفاضة عام 1956 أبان العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة ، ومحاكم النعساني العرفية [ العسكرية ] التي كانت تصدر أحكامها بالجملة على المواطنين المعارضين لسياسة الحكومات المتعاقبة..
ثم أن أي ثورة وقعت في أي بلد دون أن يكون فيها ضحايا ؟ فباستثناء مقتل العائلة المالكة كانت ثورة 14 تموز بحق ثورة بيضاء .
أما انقلاب 17 تموز فرغم أن عبد الرحمن عارف المعروف بضعف حكمه قد استسلم للإنقلابيين فوراً ، لكن الإنقلابيين باشروا ممارسة القتل منذ الأيام الأولى للإنقلاب حيث تم إعدام أكثر من 60 ضابطاً وجندياً وعناصر مدنية بتهم باطلة ،وعلقت أجسادهم في ساحة التحرير في بغداد لكي يرهبوا بها الشعب العراقي حفاظاً على حكمهم الضعيف آنذاك ، كما تم قتل عبد الرزاق النايف وحردان عبد الغفار التكريتي وعبد الكريم الشيخلي وناصر الحاني وهم من العناصر التي ساهمت في الانقلاب ، ثم أعقبوها بجريمة أخرى فيما عرف بمؤامرة عبد الغني الراوي ، ولا أخالك لم تسمع بمحكمة الجزراوي [ طه ياسين رمضان ] التي أعدمت اكثر من 70 ضابطاً في محاكمات صورية لم تستغرق سوى دقائق ،وما جرى للإخوان الشيعى في خان النص وما ارتكبه النظام من أحكام إعدام للمئات ، في محاكم صورية .
أما ما جرى خلال حكمهم البغيض منذ 8 شباط 1963 وحتى 2003 ، فهاهي المقابر الجماعية تتحدث عن تلك الجرائم البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية،علما أن هناك العد الكبير من المقابر التي لم تكشف بعد ، دعك عن الحروب العدوانية التي زج إنقلابيوا 17 تموز العراق فيها [ حرب الخليج الأولى وغزو الكويت وحرب الخليج الثاني والحرب الأخير ، هذا بالإضافة إلى الحرب التي شنها النطام ضد الشعب الكردي [ حملة الأنفال ] و[ جريمة حلبجة ] والجرائم البشعة التي ارتكبها على أثر انتفاضة آذار المجيدة عام 1991 ، وجرائم تسفير الأكراد الفيليين بعد نهب أموالهم وممتلكاتهم واحتجاز أبنائهم ومن ثم قتلهم ، والقائمة تطول لهذه الجرائم التي لا تعد ولا تحصى ، وبعد كل هذا تسمي انقلاب 17 تموز بالانقلاب الأبيض وهو في واقع الحال انقلاب قاتم السواد أغرق العراق بالدماء .
لقد كانت ثورة 14 تموز ثمرة كفاح الشعب العراقي بكل فئاته من قوميين وديمقراطيين وشيوعيين حيث ضمت جبهة الاتحاد الوطني سائر الأحزاب السياسية التي نسقت جهودها مع اللجنة الوطنية للضباط الأحرار لتثمر صبيحة الرابع عشر من تموز ذلك التغيير الكبير الذي أحدث نقلة تاريخية في حياة الشعب العراقي حيث تم تحرير 75% من أبناء شعبنا من نير الإقطاع وأنجز تحرير العراق من الهيمنة البريطانية وتشكلت لأول مرة في تاريخ العراق حكومة وطنية بمعزل عن تدخل السفارة البريطانية ، كما حررت ثورة 14 تموز الاقتصاد العراقي عبر الخروج من منطقة الاسترليني ، وعبر القانون رقم 80 الذي تم بموجبه سحب 99% من المناطق الحاوية على احتياطات نفطية من هيمنة الشركات البريطانية والأمريكية والفرنسية .
ولست هنا في وارد استعراض منجزات ثورة الرابع عشر من تموز، حيث سأفرد لهذه المنجزات حلقة أخرى ، وأنا استغرب ما ورد في مقالكم حيث تقول :
هكذا بدأت حياة العراق التاريخية الجديدة على عهد جمهوري جديد حيث كسب الزعيم عبد الكريم قاسم ولاء الملايين من أبناء الشعب العراقي الذين تأملوا فيه خيراً بأن يحقق ما كانوا ينتظرونه منذ زمن بعيد ولكنه للأسف لم يتحقق حتى اليوم ، وهنا قد اعترفت بأن الملايين من أبناء الشعب قد أعطت ولائها لعبد الكريم قاسم علماً أن نفوس العراق كانت يوم ذاك بحدود ه ملايين ، فكيف أعطت هذه الملايين هذا الولاء الجامح له دون أن تتلمس المكاسب التي حققتها ثورة 14 تموز لصالح الشعب بكل فئاته باستثناء زمر الاقطاعيين الذين استخدموا ثلاثة أرباع الشعب العراقي عبيداً في إقطاعياتهم وتركوهم يعيشون في بؤس قاتل مما دفع أعداد هائلة منهم إلى الهرب إلى إطراف بغداد حيث شيدوا حزام الفقر المعروف ، لكي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء دون أن تتوفر فيه ابسط متطلبات الحياة الكريمة ، وجاءت ثورة تموز لتنقذهم من ذلك البؤس فشيد لهم عبد الكريم قاسم مدن الثورة والحرية والشعلة ليسكنوا فيها .
إلى هنا سأتوقف اليوم في هذه الحلقة لكي أتناول في حلقة قادمة الأحداث التي جرت بعد قيام ثورة 14 تموز المجيدة ، ودور عبد السلام وحزب البعث في انتكاسة الثورة والدور الذي لعبه عبد الناصر في دعم وإسنادهم في كل المؤآمرات التي حاكوها لاغتيال ثورة 14 تموز وقائدها عبد الكريم قاسم ، فقط لي رجاء أن يتسع صدرك لمناقشة الموضوع بكل هدوء ودون تشنج ، وأختتم كلامي بأن لا أحد يملك الحقيقة وحده وإذا اختلف إثنان في أمر ما فلا بد أن يكون أحدهم مخطئ ، وتقبل وافر احترامي .
الحلقة الثانية
تناول الأخ سيار الجميل العلاقة بين عبد الناصر وعبد السلام عارف مشيراً إلى أن عبد الناصر تعرف على عارف أثناء لقائها في دمشق ،وهذا هو أمر صحيح ، حيث ترأس عارف وفداً عراقياً رفيع المستوى ضم العديد من الوزراء التقى الرئيس عبد الناصر وتم توقيع العديد من الاتفاقيات ، وذكر بأن العلاقة بين ناصر وعارف قد توثقت في العلن، لكن لم يكن أحدها يثق بالآخر ، مضيفاً أن عبد الناصر استخف بعارف ، دون أن يذكر أي دليل أو سبب لهذا الاستخفاف وعدم الثقة. وهنا أود أن أصحح للأخ الجميل أن اللقاء المنفرد بين ناصر وعارف ، ولأول مرة ، كان لقاءاً ودياً حاراً جرى خلاله الوسائل الكفيلة لتحقيق وحدة فورية بين الجمهورية العربية المتحدة والعراق ،وهذا الأمر كان يشغل بال عبد الناصر كثيراً جداً ، ولقد أكد له عبد السلام عارف سعيه الحثيث لتحقيق هذا الهدف مهما كانت الصعاب ، حتى ولو تمت تصفية عبد الكريم قاسم نفسه ، وقيل أن عارف قال لناصر أن هذا الأمر لا يكلف سوى ثمن طلقة واحدة كلفتها عشرون فلساً .
وهكذا عاد عارف وهو أكثر اندفاعاً لمحاولة الاستيلاء على السلطة واستغل منصبه كنائب للقوات المسلحة ليقوم بزيارات متتالية لقطعات الجيش وملقياً الخطابات التي تمجد عبد الناصر ، مع تجاهل تام لقائد الثورة عبد الكريم قاسم ، كما أصدر صحيفة الجمهورية بالتعاون مع البعثيين حيث اختارالبعثي المعروف [سعدون حمادي ] رئيساً للتحرير ، وجعل منها منبراً للدعوة للوحدة الفورية مع العربية المتحدة ، ومعولاً لهدم جبهة الاتحاد الوطني ، واللجنة الوطنية لحركة الضباط الأحرار ، مما سبب في خلق بلبلة خطيرة في البلاد وانقسام حاد في صفوف الحركة الوطنية تجلى في المظاهرات البعثية والقومية التي تطالب بالوحدة الفورية ، والشيوعية والديمقراطية التي تنادي بالاتحاد الفدرالي ، وكان لهذا السلوك من جانب عارف قد عرّض ثورة 14 تموز للخطر الجسيم وهي في أيامها الأولى .
ورغم كل النصائح التي وجهها الزعيم قاسم لعارف فقد ذهبت تلك النصائح أدراج الرياح ، واستمر عارف على سلوكه التخريبي ، وخاصة في صفوف القوات المسلحة ، مما اضطر قاسم في نهاية المطاف إلى إعفائه من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة ، مكتفياً بوزارة الداخلية .
لكن عارف تمادى في غيه واستمر في سلوكه الانشقاقي والتخريبي مما أوصل الأوضاع إلى مرحلة حرجة تنذر بحرب أهلية ،عند ذاك اتخذ قاسم قراره بإعفاء عارف من وزارة الداخلية وتعينه سفيراً في ألمانيا ، لكن عارف رفض تنفيذ القرار ، وقد تدخل العديد من أعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار لإقناع عارف بالسفر إلى ألمانيا لتسلم منصبه الجديد بعد أن وعده قاسم بالعودة بعد أن تهدأ الأوضاع التي خلقها عارف بسلوكه الانشقاقي وكان بين الحاضرين كل من العقيد صفي طاهر ، المرافق الأقدم لقاسم، والزعيم ناجي طالب ، والزعيم فؤآد عارف ،والحاكم العسكري العام أحمد صالح العبدي ، وآمر الانضباط العسكري عبد الكريم الجدة .
تظاهر عارف بالموافقة على السفر ، وخرج كافة الضباط المشاركين في الاجتماع ما عدا فؤآد عارف ووصفي طاهر ، وبينما كان قاسم منشغلاً في بعض الأوراق على مكتبه فاجأه عبد السلام عارف بإخراج مسدس من جيبه محولاً اغتياله ، وبحركة خفيفة من قاسم تمكن من مسك يد عارف صارخاً ـ تريد قتلي ؟ وفي اللحظة نفسها هجم عليه فؤآد عارف ونزع من يده المسدس وأفرغ منه العتاد.
وعلى صوت الصياح دخل وصفي طاهر الذي كان قد غادر الغرفة تواً وأمسك بعارف الذي أصابه الخور والانهيار ، وادعى أنه كان ينوي الانتحار ، وقد أجابه قاسم : [ إذا كنت تنوي الانتحار فلماذا لم تنتحر في بيتك ؟ ] .
ومع كل الذي حدث فقد قال له قاسم : [ اسمع يا عارف سوف أعفو عنك شرط أن تغادر إلى ألمانيا من أجل مصلحة البلاد ، فقد شقيت الشعب إلى نصفين ، وإن الأمر ينذر بكارثة حرب أهلية ، وهكذا قرر عارف الموافقة على السفر ، على مضض ، تجنباً لما لا يحمد عقباه ولو إلى حين ، وتم تسفيره وودعه قاسم في المطار شخصياً .
غير أنه لم تمضي سوى فترة قصيرة حتى طلب عارف من قاسم السماح له بالعودة إلى العراق ، وقد رفض قاسم طلبه ورجاه بالبقاء في ألمانيا رحمة بالعراقيين .
لكن عارف عاد فجأة يوم 4 تشرين الثاني دون علم الحكومة العراقية ، وكان قد أشيع في ذلك الوقت أن مؤامرة قد أعد تنفيذها يوم 5 تشرين الثاني [ أي بعد يوم من عودته ] يشترك فيها أحمد حسن البكر ، وصالح مهدي عماش وضباط آخرين .
وقد استدعى قاسم عارف إلى وزارة الدفاع حال علمه بعودته ، وحدث جدال بينهما ومشادات كلامية ، اضطر على إثرها قاسم الطلب من آمر الانضباط العسكري
[ عبد الكريم الجدة ] إلقاء القبض على عبد السلام واعتقاله. وإحالته إلى المحكمة العسكرية العليا الخاصة لمحاكمته بتهمة محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم ، والاشتراك في المؤامرة المذكورة لقلب نظام الحكم في بغداد .
جرت محاكمة عارف وتمت إدانته بمحاولة قتل الزعيم قاسم وحكم عليه بالإعدام وبقى في السجن حتى وقوع الانفصال بين سوريا ومصر عام 1961 حيث ذهب إليه قاسم بنفسه وأخرجه من السجن وعفا عنه وأعاد له كل رواتبه التقاعدية وأرسله إلى الحج لعل الله ينقي سريرته ، ويصلح أمره ، ولكن هيهات ، فقد جبل عارف على الغدر ، وجازى عبد الكريم قاسم بعد وقوع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 والتي اشترك فيها عارف وعين رئيساً للجمهورية ، جازاه بالحكم عليه بالإعدام هو ورفاقه المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان حداد دون محاكمة أصولية تذكر ،وعلى الرغم من الاتفاق الذي جرى بواسطة الصحفي [ يونس الطائي ]،الذي قرّبه قاسم منه كثيراً والذي سخر صحيفته [ الثورة ] للحرب على الحزب الشيوعي ، وظهر بعد انقلاب شباط على حقيقته عنصراً خائناً وانتهازياً من طراز خطير،أقول على الرغم من الاتفاق الذي تم بموجبه استسلام قاسم على أمل السماح له بمغادرة البلاد ، أو إجراء محاكمة علنية عادلة له ، وقد ذكر قاسم عارفاً بالعفو الذي أصدره عنه لكن دون جدوى ، فقد ملأ الحقد قلبه ، وأصر على الانتقام .
إذا ليس صحيحاً ما ورد في مقالكم بأن عارف بقي في السجن إلى أن وقع انقلاب شباط حيث تم تحريره من السجن ، بل جرى العفو عنه قبل سنتين من وقوع الانقلاب وطيلة تلك الأزمة لم يصدر من عبد الناصر وأركان حكمه أي استنكار لأعمال عارف ، بل على العكس وقف الإعلام المصري إلى جانب عارف مندداً بمحاكمة عارف ،والتهجم على عبد الكريم قاسم عبر خطابات عبد الناصر ، وعبرإذاعة صوت العرب ، وانهماك السفارة المصرية في بغداد التي كان يرأسها السفير [أمين هويدي ] في تدبير المؤآمرات المتلاحقة لقلب نظام حكم عبد الكريم قاسم ،ولقد تم فضح تلك المؤآمرات أمام محكمة الشعب بشهادة العديد من الشهود المشتركين بها ، وما قبضوه من مبالغ نقدية من السفارة لتدبير تلك المؤآمرات ، ورغم كل ذلك لم ينبس قاسم ولو بكلمة واحدة تسئ إلى عبد الناصر، أو يرد على ما كان يردده عنهعبد الناصر بقاسم العراق تارة وبالشعوبي تارة أخرى وغيرها من الاتهامات التي لا أساس لها من الواقع ، وكل ذلك جرى من أجل إلحاق العراق بحكم عبد الناصر بصورة غير دستورية ، ولا بد لي أن أشير على أن لا ميثاق جبهة الاتحاد الوطني ، ولا ميثاق اللجنة العليا للضباط الأحرار قد أقر الوحدة الفورية مع العربية المتحدة ، بل كان الاتفاق على إقامة أوثق الروابط مع الجمهورية العربية المتحدة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والصحية ، ودعت القوى الديمقراطية والحزب الشيوعي إلى إقامة اتحاد فدرالي مع العربية المتحدة .
لقد اثبت الأحداث أن أي من عبد السلام عارف وحزب البعث لم يكونا جادين في دعواهما للوحدة ، بل استخدما اسم عبد الناصر للوثوب إلى السلطة ، حيث تم لكليهما الوثوب إلى السلطة في انقلاب 8 شباط 63 ، وانقلاب 17 تشرين من نفس العام دون أن يحقق أي منهما الوحدة ، ولا حتى الاتحاد الفدرالي الذي قاوماه بشدة .
ورغم كل ما حدث بقيت العلاقة بين ناصر وعارف وحتى حزب البعث على حالها دون أن يشوبها أي توتر أو عداء كما جرى مع عبد الكريم قاسم .
هذا ما جرى أخي سيار من أحداث في تلك الفترة من تاريخ العراق ، وسوف أتناول في الحلقة الثالثة المحاولة الانقلابية التي قادها رشيد عالي الكيلاني ،وانقلاب العقيد الشواف الفاشل في الموصل وما رافقه من أحداث ، ودور السفارة المصرية في تلك المؤآمرات ،وما قدمته من دعم وإسناد مادي وإعلامي وعسكري عبر تهريب السلاح إلى المتآمرين عبر الحدود السورية .
الحلقة الثالثة

بداية أحيّ الدكتور سيار الجميل وأثني على جهوده في كشف محاولات تزييف تاريخ العلاقات المصرية العراقية وعلى وجه التحديد في الفترة التي أعقبت قيام ثورة 14 تموز المجيدة ، والمواقف الخاطئة التي اتخذها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر سامحه الله.
وقبل الولوج في هذه المتابعة أحب أن أؤكد للقارئ الكريم ، وللسيد أمين هويدي بالذات أنني لم اقف يوماً موقفاً معادياً من الرئيس عبد الناصر ، بل على العكس من ذلك كنت أكن له كل الاحترام والمحبة لمواقفه وكفاحه ضد الهيمنة الإمبريالية على العالم العربي ، شأني شأن الكثيرين من الجماهير العربية ، ولقد كان لي شرف المساهمة في انتفاضة عام 1956احتجاجاً على العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر ، واستنكاراً لمواقف حكومة نوري السعيد اللاوطنية ،والمعادية لمصالح الأمة العربية بوجه عام و لمصر وعبد الناصر بوجه خاص .
لكن هذا لا يعني أننا ينبغي أن نسكت عن الأخطاء التي يرتكبها أي حاكم عربي ، ولا سيما تلك التي ارتكبها عبد الناصر بحق العراق وثورة 14 تموز 1958 وقائدها عبد الكريم قاسم ، والتي لو لم يقع بها عبد الناصر وسعى لتحقيق أوسع الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية التي دعا إليها العراق متمثلاً بحكومة الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم ، وبسائر الأحزاب الديمقراطية ومن بينها الحزب الشيوعي ، لكان للعرب شأن آخر غير هذا الواقع البائس الذي نشهده اليوم ، كان يمكن للتعاون النزيه بين العراق والجمهورية العربية المتحدة أن يبعث الأمة العربية من جديد ، لكن عبد الناصر رحمه الله كان عجولاً في أكل العنب فأكله حصرماً ، وأطعم العراقيين شعباً وحكومة من ذاك الحصرم ، ودفعته رغبته الجامحة لإلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة ولما يمضي على ثورة 14 تموز سوى أيام قلائل ، مستعيناً بحزب البعث والعديد من العناصر المدعية بالقومية العربية وعلى رأسها عبد السلام عارف ، وسالكاً أسلوب غير دستوري وغير ديمقراطي لتحقيق هذا الهدف ، وشن حملة شعواء على قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية ، متهماً الجميع بالشعوبية ،حتى لكأنما القومية كانت حكراً عليهم ، وأن القوى التي عارضت الوحدة الفورية ودعت إلى قيام اتحاد فدرالي مع العربية المتحدة متجردين من قوميتهم !!!.
إن الوحدة العربية أمل عزيز لكل عربي محب لشعبه ووطنه ، لكن العبرة في أسلوب قيام هذه الوحدة المرتكزة على الدستورية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ، واحترام خصائص أقطارنا ظروفها الموضوعية .
وعودة إلى موضوع الدراسة النقدية لكتاب [ عبد الناصر والعراق ]للسيد أمين هويدي فقد ذكر الأخ الكريم سيار الجميل أن الناصريين كانوا على عداء نفسي مع البعثيين في أيام الوحدة ، والذي أود أن أؤكده للأخ الجميل أن من صنع الوحدة مع مصر عام 1958 هم البعثيون الذين كانوا يخوضون صراعاً مريراً مع قوى اليسار ، وأخص منها الحزب الشيوعي السوري الذي كان يتمتع بشعبية واسعة في صفوف الشعب السوري مما أقلق البعثيين إلى السلطة والقوى القومية الأخرى وعلى رأسها شكري القوتلي [ رئيس الجمهورية ] من إمكانية وثوبهم ،فسارعوا إلى عبد الناصر يطلبون الوحدة بدعوى خطورة النشاط الشيوعي آنذاك في سوريا.
وتلقف الرئيس عبد الناصر الطلب وقد امتلأ بهجة لتحقيق نواتً لوحدة عربية من المحيط إلى الخليج ، وجاءت الوحدة بين القطرين بولادة قيصرية ولما يكمل الجنين وتتحقق شروط الوحدة وعوامل استمرارها .
لقد وقع عبد الناصر في الخطأ الذي نبه إليه الحزب الشيوعي السوري الذي كانت له وجهة نظره وشروطه لقيام الوحدة الراسخة الحاملة لشروط بقائها واستمرارها ، لا كما زوّر دعاة القومية المزيفون مواقف الحزب الشيوعي واتهموه بمعاداة الوحدة .
لقد قامت الوحدة بالتعاون بين البعثيين والقوميين في سوريا وهي تحمل بذور فشلها لافتقادها إلى أهم الركائز وهي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ، ولم يكد يمضي وقت طويل حتى بادر عبد الناصر إلى إلغاء الأحزاب السياسية وقمع سائر الحريات التي كان الشعب السوري يتمتع بها ، ولم يسلم منها حتى حزب البعث نفسه صانع الوحدة ، وانقسم الشعب السوري على نفسه إلى ثلاثة أقسام ، القسم الأول ضم المعارضة الشيوعية والديمقراطية ، والقسم الثاني ضم دعاة القومية الناصرية الذين أيدوا وساندوا إجراءات عبد الناصر في قمع الحريات الأساسية للشعب السوري ، وبقي القسم الثالث وهم البعثيون الذين أخذت تتنازعهم الرغبة بين بقاء الوحدة ومقاومة الغاء دورهم السياسي في حكم سوريا الذي تركز في يد [عبد الحكيم عامر] و[عبد الحميد السراج ] وبدأت علامات فقدان الثقة بينهم وبين عبد الناصر آنذاك ، وتعمقت الخلافات فيما بينهم بمرور الأيام حتى وقوع الانفصال عام 1961 ، وهكذا انتهت هذه التجربة خلال ثلاث سنوات ، وكما قلنا آنفاً أنها كانت تحمل بذور فشلها منذ قيامها بسبب فقدان الديمقراطية .
ولم يتعظ الرئيس الراحل عبد الناصر بأخطائه التي أدت إلى الانفصال ، وحاول تكرارها مع العراق ولم يكن قد مضى على قيام ثورة 14 تموز سوى أياماً، محاولاً فرض الوحدة الفورية مع مصر على العراق ، وقدم أوسع دعم سياسي و حتى عسكري للقوى البعثية والقومية من أجل هذا الهدف ،وقد جمعت حولها القوى الرجعية والاقطاعية التي تضررت مصالحها من قيام الثورة وإصدار قانون الاصلاح الزراعي وعلى رأسهم الشيخ [ أحمد عجيل الياور] الذي لعب دوراً رئيسياً في انقلاب الشواف في الموصل ، لتقود حملة يتصدرها عبد السلام عارف بالدعوة للوحدة الفورية ، وسيّروا المظاهرات الصاخبة في شوارع بغداد لهذا الغرض مما دفع القوى الديمقراطية وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي إلى تسيير المظاهرات المضادة رافعين شعار الاتحاد الفدرالي مع مصر ، وداعين إلى احترام إرادة الشعب واحترام خصائصه وظروفه الموضوعية ، وقد أدى ذلك الاختلاف والتباين في المواقف إلى شق الصف الوطني إلى نصفين مما هدد الثورة ومستقبل الشعب العراقي بكوارث لا تعد ولا تحصى منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا .كان منها محاولة الأنقلاب التي أعد لها [ رشيد عالي الكيلاني] بالتعاون مع عبد السلام عارف وزمرته ، وانقلاب العقيد الشواف الفاشل في الموصل والأحداث التي رافقته ، ثم محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في رأس القرية والوثوب إلى الحكم ، تلك المحاولة التي تم إفشالها بسرعة ،ونجاة عبد الكريم قاسم من موت محقق ، وتلاها بعد ذلك انقلاب 8 شباط الأسود الذي أغرق العراق بالدماء وملأ السجون والمعتقلات بخيرة المواطنين المؤمنين بالحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية . .
وتوالت الانقلابات العسكرية بعد ذلك فكان انقلاب 18 تشرين الثاني الذي قاده عبد السلام عارف لإخراج البعثيين من الحكم ، والمحاولات التي قام بها عارف عبد الرزاق لقلب حكم العارفين عبد السلام وعبد الرحمن ، وتوجت انقلاباتهم في 17 تموز 1968 الذي أعاد لنا عصابة البعث لتعيث فساداً في ربوع عراقنا المنكوب بحكامه الذين أجرموا بحق الشعب والوطن طوال 35 عاماً من حكمهم البغيض .
وغداً لنا لقاء مع القراء الأعزاء المتتبعين لهذه المرحلة التاريخية من حياة شعبنا لكي إتناول انقلاب العقيد الشواف ، ودور عبد الناصر في دعمه والدور الأعلامي الكاذب والمضلل لأحمد سعيد ، وللأحداث التي رافقت قمع الانقلاب ، ومسؤولية عبد الكريم قاسم في معالجة الأزمة في الموصل قبل وقوع الانقلاب رغم تنبيهه إلى خطورة الوضع في الموصل وحتمية وقوع الانقلاب .
الحلقة الرابعة
كان الانقسام في صفوف القوى الوطنية في أوائل عام 1959 قد بلغ مداه ، ورفضت القوى القومية والبعثية أي دعوة للتعاون والتلاحم من أجل مصلحة الشعب والوطن .
لقد جرت في تلك الأيام انتخابات النقابات ، والمنظمات الجماهيرية ، وبذلت القوى الديمقراطية جهوداً كبيرة ،من أجل لمّ الشمل ، والخروج بقائمة موحدة في الانتخابات ، ولكن القوى القومية والبعثية رفضتا ذلك ، رفضاً قاطعاً ، وأصرتا على خوض الانتخابات بصورة منفردة ، قاطعة الطريق على أي تقارب وتعاون .
جرت الانتخابات بروح ديمقراطية ، بإشراف ممثلين عن القائمتين
[ الديمقراطية] والتي ضمت الشيوعيين ، والوطنيين الديمقراطيين ، والبارتيين ، والقائمة [الجمهورية ] التي ضمت البعثيين والقوميين ، وقد لفوا حولهم كل العناصر الرجعية ، المناهضة للثورة أساساً ، تلك القوى التي وجدت فرصتها في هذا الانقسام للظهور بمظهر القومية الزائفة ،والوحدوية !!،في حين أنها كانت ، ولعهد قريب ، من أشد أعداء الوحدة وعبد الناصر ، ولا تزال تلك الأحداث في ذاكرتي ، عندما فازت القائمة الديمقراطية [المهنية ] للمعلمين ، وكنت أحد مرشحيها ، بفارق كبير ، وأعترف ممثلي القائمة [الجمهورية ] بتوقيعهم على محاضر الانتخابات وفرز الأصوات ، بان الانتخابات قد جرت في جو ديمقراطي لا تشوبه شائبة ، وكانت نقابة المعلمين ، تمثل قطاعاً كبيراً من المثقفين ، وقد تجاوز عدد أعضائها أكثر من خمسة وخمسون ألف معلم ،ومدرس ،وأستاذ جامعي آنذاك .
كانت الانتخابات تلك خير مقياس لتوزيع القوى ، حيث كان لها دور فاعل في الحياة السياسية للبلاد ، وجرت بعد ذلك انتخابات الطلاب ، حيث جرى الاستقطاب بين القوى السياسية ، على غرار ما جرى في انتخابات نقابة المعلمين ، وفازت القائمة الديمقراطية ، المسماة ب [اتحاد الطلبة ] فوزاً ساحقاً ، وتبع ذلك انتخابات نقابة المهندسين ، والأطباء ، والعمال والجمعيات الفلاحية ، وفشلت تلك القوى الرافضة للتعاون في الحصول على أي مكسب فيها .
لقد تعمق الاستقطاب في صفوف الحركة الوطنية ، وأخذ التباعد يتسع يوماً بعد يوم ، وأخذ الجانب الخاسر في التنافس الحر ، منحى آخر يستند إلى العنف في تحقيق ما عجز عن تحقيقه عن طريق التنافس الديمقراطي الحر ، وبدأت عقولهم تفكر في استخدام القوة ، والعنف لتغيير الأوضاع لصالحهم .
وجد العقيد الشواف ـ آمر موقع الموصل ـ فرصته الذهبية في ركوب الموجة ، فقد كان يشعر بأنه قد أصابه الغبن الكبير ، عند ما عُيين آمراً للواء الخامس ، وآمر موقع الموصل ، وكان يطمح في الحصول على منصب وزاري ، أو منصب الحاكم العسكري العام ، عند قيام الثورة ، حتى لكأنما قامت الثورة لتوزيع المناصب على القائمين بها ، وليس من أجل خدمة القضية الوطنية .
كنت في تلك الأيام في الموصل أرى وأحس والمس ذلك الصراع ،يتطور ،ويتعمق ،والانقسام يبلغ مداه ،ويتحول إلى عداء ،واعتداء ،وتحول ذلك الجانب الخاسر في الانتخابات إلى عصابات تنتشر هنا وهناك تتحين الفرص للاعتداء على العناصر الديمقراطية والشيوعية،بوجه خاص ، وحاول الشيوعيون عدم الانجرار وراء تلك الأعمال ، وتجنب الصدام ،وكان أملهم في إعادة الصواب إلى رشد تلك القوى ،والعودة إلى التلاحم ،والتعاون ،من أجل مصلحة الشعب والوطن ،وديمومة الثورة ونضوجها ، وتعمقها من أجل تحقيق أحلام الشعب العراقي الذي ضحى من أجلها سنين طويلة .
كانت القوى الديمقراطية تدرك معنى الانقسام في صفوف الحركة الوطنية ،والمخاطر التي تسببها ، وفعلت كل ما يمكن من أجل إعادة اللحمة للقوى الوطنية ،إلا أن كل محاولاتها ذهبت أدراج الرياح ،وراحت تلك القوى تعد العدة ، وتهيئ لمحاولة انقلابية في مدينة الموصل ، ثاني أكبر مدن العراق ،وكانت تحركاتهم ،وإعدادهم لذلك الانقلاب بادية للعيان ،تجري على قدم وساق فيما كان الجانب الثاني من الاصطفاف ـ الشيوعيون والديمقراطيون ،والبارتيون ـ يراقبون الأوضاع ،بدقة ،فالخطر لا يعني قاسم وحده ،أو الثورة وحدها ،وإنما يعني أيضاً تعرض كل القوى المساندة للثورة للتصفية ،إذا ما تحقق النصر لمحاولتهم الانقلابية .
كان العقيد الشواف ، وعدد من الضباط القوميين ،والبعثيين ينشطون بهذا الاتجاه ،وينسقون مع القوى الرجعية للإعداد لتك المحاولة .وأنتهز أعضاء المؤتمر الأول لنقابة المعلمين في الموصل ـ وكنت واحداً منهم ـ وجوده في بغداد ، لحضور المؤتمر ،المنعقد في أواسط شباط 1959 ، الفرصة وطلب مقابلة الزعيم عبد الكريم قاسم لأمرٍ يخص الثورة والجمهورية وأمنها .
وافق عبد الكريم قاسم على استقبال الوفد في مقره بوزارة الدفاع ، وحضر الوفد في الوقت المحدد ولم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى حضر عبد الكريم قاسم ، وبدأ الزعيم الحديث موجهاً كلامه للوفد مرحباً بالوفد، ثم بدأ رئيس الوفد ، الشهيد [ يحيى ق الشيخ عبد الواحد ]
بالحديث عن أوضاع الموصل المتدهورة ،والنشاط التآمري الذي يجري على قدم وساق موضحاً للزعيم ،أن العراق في خطر ، وإن الثورة في خطر كذلك إذا لم تسارع حكومة الثورة في معالجة الأمور بأسرع وقت ممكن ،من أجل نزع الفتيل قبل حدوث الانفجار ، مشيراً إلى العناصر التي تقود ذلك النشاط ، وعلى رأسها العقيد الشواف ، وزمرة من الضباط القوميين والبعثيين المتعاونين معه ، بالإضافة إلى القوى الرجعية والإقطاعية ، وعلى رأسها شيخ مشايخ شمر [ أحمد عجيل الياور ] .
وتحدث يحيى عن السلاح الذي كان المتآمرون ينقلونه عبر الحدود مع سوريا ، ويخزنونه في الموصل ،وكذلك عملية تسليح قبائل شمر ،التي تدين بالولاء لرئيسها أحمد عجيل الياور ، أكبر إقطاعيي المنطقة الشمالية قاطبة ، والنائب السعيدي المزمن في العهد الملكي ، والحاقد على الثورة وعلى قانون الإصلاح الزراعي الذي جرده من سلطانه .
كما تحدث يحيى عن نشاط عملاء شركات النفط في عين زالة ،في الموصل ،في هذا الاتجاه .
إلا أن الزعيم عبد الكريم قاسم ،كان رده بارداً جداً ، حيث أجاب الوفد بعباراته المشهورة ، [الصبر] و [ التسامح ] و [ والكتمان ] و[المباغتة ] ، والتي كان يرددها دائماً . وقد رد عليه يحيى قائلاً :
يا سيادة الزعيم ، إن هناك حكمة تقول [ الوقاية خيرٌ من العلاج ] ، إن انتظار حدوث الكارثة ومعالجتها بعد ذلك ، أمرٌ خطيرٌ جداً ، إذ ربما تكون لها إمتدادات في مختلف أنحاء العراق ، ولربما تؤيدها غيرها من القطعات العسكرية في مناطق أخرى ، وربما تنجح تلك المحاولات في اغتيال الثورة ، وفي أحسن الأحوال ، حتى لو قامت المحاولة وفشلت ، فلا أحد يستطيع تقدير خسائرها وأضرارها ، لذلك فأن منع وقوعها ، أفضل بكثير من انتظار وقوعها ،والقضاء عليها .
كان جواب عبد الكريم قاسم غير متوقع إطلاقاً ، لقد غضب قاسم من حديث يحيى ، وأجاب قائلاً :
{ إننا ندرك الأمور إدراكاً جيداً ، وإن العقيد الشواف هو أحد الضباط الأحرار وأنتم تهولون الأمور، نحن أقوياء واثقون من أنفسنا } .
وعاد الأستاذ يحيى مخاطباً الزعيم قاسم قائلا :
سيادة الزعيم : إننا لا نطلب من سيادتكم سوى طلب بسيط ،فنحن لا نطلب أن تعاقب أحداً ،أو تسجن أحداً ،وكل ما نطلبه هو نقل زمرة الضباط المذكورة ، وتفريقها في مناطق أخرى ، منعاً لوقوع الواقعة ، لكن الزعيم قاسم رفض ذلك رفضاً قاطعاً ،وأجاب بحدة : { إن هذه الأمور تتعلق بنا وحدنا ، ونحن لا نسمح لأحد بالتدخل فيها } .
وأخيراً بدا عبد الكريم قاسم يغير اتجاه الحديث ، عارضاً منجزات الثورة ، وطموحاتها المستقبلية ، وقبل نهاية اللقاء تناول مجموعة من صوره الموقعة من قبله ، وأخذ يوزعها على أعضاء الوفد ، وبذلك أنتهي اللقاء ،وغادر الوفد وزارة الدفاع ، والكل يضرب أخماساً بأسداس ،كما يقول المثل ،ويسأل بعضه بعضا :
هل ستقع الواقعة ؟ بل متى ستقع بالتأكيد ؟ وماذا ستكون النتائج ؟
عاد الوفد إلى الموصل والقلق بادٍ على وجوه الجميع ، فقد كان الجو مكفهراً وينذر بالخطر.
وفي تلك الظروف البالغة الحراجة ، قرر الحزب الشيوعي ،وحركة أنصار السلام ، التي يساهم فيها الحزب بنشاط كبير تحدي المتآمرين ،وتوجيه تحذير إليهم بأن مدينة الموصل سوف لن تكون مسرحاً لاغتيال الثورة ومنجزاتها ، وأن الشعب العراقي سوف يقف بالمرصاد لأي تحرك ، معلناً عن تنظيم مهرجان لأنصار السلام في الموصل في أوائل آذار 959 ، واستعدت القوى الديمقراطية ،والشيوعية ، والبارتية لذلك اليوم الموعود ،وتقاطرت الوفود من أنحاء القطر للمشاركة في ذلك المهرجان .
كانت المظاهرة من الضخامة ،وحسن التنظيم ما أقلق قوى الظلام ، وأثار غضبها ، فنصبت الكمائن لتصب جام غضبها على المسيرة ، وأمطرتها بوابل من الرصاص ، والحجارة ، فجرح من جرح ، وأدى ذلك إلى وقوع صدامات عنيفة مع المهاجمين .
أكفهر الجو ، ونزلت قوات كبيرة من الجيش والشرطة لإيقاف الصدام ، وانتهى ذلك اليوم وعادت الوفود إلى مدنها ،وخيم الوجوم على الموصل وأبنائها ، وتصاعد القلق كثيراً ، فقد بدا واضحاً أن الوضع قد ينفجر في أية لحظة ، وبالفعل لم يكد يمضِ سوى يومان حتى نفذ المتآمرون فعلتهم ، بادئين ليلة 7/8 آذار باعتقال كل القادة ، والنشطاء في الأحزاب ،والمنظمات الديمقراطية ،وبوجه خاص منتسب الحزب الشيوعي ، وقد جرى الاعتقال بأسلوب الاحتيال ، حيث طلب الشواف اللقاء معهم في مقره ، لدراسة الأوضاع السياسية المتدهورة ،وسبل معالجتها ، ولبى من لبى ذلك النداء ووقع في الفخ الذي نصبه الشواف لهم ،واختفى من أختفي مشككاً بأهداف الاجتماع ، وكان ما كان ، فقد أُخذَ الجميع بالشاحنات العسكرية معتقلين ، وأودعوا الثكنة الحجرية .
وفي الصباح كان المتآمرون قد هيئوا إذاعة منصوبة في شاحنة طويلة تحمل صندوقا كبيراً ، كانت قد وصلتهم من الجمهورية العربية المتحدة ، عبر الحدود السورية ، وبادروا إلى إعلان بيانهم الأول معلنين قيام الانقلاب ، ومطالبين عبد الكريم قاسم بالاستقالة .
لكن حركة العقيد الشواف لم تكن سوى حركة لمجموعة من الضباط المغامرين التواقين إلى السلطة ، ولا يستندون إلى أي قاعدة شعبية ، ولا عسكرية ، فقد وقف فوج الهندسة التابع للواء القائم بالحركة ، بكافة ضباطه وجنوده ضد الحركة الانقلابية منذُ اللحظة الأولى ،رغم قيام الإنقلابيين بقتل آمر الفوج الشهيد [عبد الله الشاوي ] وقاومه بقوة السلاح ، أما الجنود وضباط الصف ، الذين كانوا بإمرة الانقلابيين ، والذين انساقوا تحت وطأة الخوف من قادتهم ، فسرعان ما انتفضوا على ضباطهم المتآمرين وانضموا إلى جانب السلطة ،ومقاومة الانقلاب .
وخلال المعارك التي دارت بين الانقلابيين ، والقوى المساندة للسلطة ، سقط من بين الانقلابيين (37) فرداً بضمنهم المجموعة التي اعدمها الشيوعيون في الدملماجة ، وذلك حسبما ورد في تقرير الطب العدلي ، وأكده المقدم [يوسف كشمولة ] ، أحد المشاركين في الحركة الانقلابية خلال الاحتفال الذي أقيم في ملعب الموصل ،إحياءاً لذكرى انقلاب الشواف ، بعد وقوع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 63 ، وإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم ، كما أن المجلس العرفي العسكري الذي أقامه انقلابيوا 8شباط ، قد أكد العدد المذكور.
في ذلك الحين كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة تذيع أخباراً مذهلة عما سمته بالمجازر التي وقعت في الموصل ، وادعت أن عدد القتلى من البعثيين والقوميين ، قد جاوز ( 20) ألفاً في محاولة منها لإثارة القوى القومية والبعثية للانتفاض على حكومة الثورة وإسقاطها .
لقد سُخرت هذه الإذاعة في تلك الأيام للهجوم على حكومة الثورة ، وعلى القوى الديمقراطية والشيوعية ، مستخدمة أبذأ الكلمات والعبارات التي لا تليق بدولة ، كان لها من الاحترام والحب لدى الشعب العراقي إبان العهد الملكي ما يفوق الوصف ، وخاصة عندما خاضت مصر بقيادة الرئيس عبد الناصر معركة السويس عام 1956 ضد العدوان الثلاثي البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي، ويتلهف لسماع إذاعة [صوت العرب] .
لقد تكشف للأمة العربية وللعالم أجمع زيف وكذب تلك الإذاعة عما كانت تبثه من أخبار المجازر المزعومة في الموصل ، وأساليب التحريض الرخيصة ضد ثورة 14 تموز وقيادتها ، ليس حباً بالعراق وشعبه ، ولا حرصاً على مصالحه ، وإنما حباً في السيطرة على العراق ، وضمه قسراً للجمهورية العربية المتحدة ، دون أخذ رأي الشعب العراقي في مثل هذا الأمر الخطير ، والهام ، الذي يتعلق بمصيره ،ومستقبله.
كان من المؤسف أن ينبري الرئيس عبد الناصر في خطاباته آنذاك ، يومي 11، و13 آذار لمهاجمة عبد الكريم قاسم ،واصفاً إياه بالشعوبي تارة ،وقاسم العراق تارة أخرى ، ومركزاً حملته على الشيوعيين ، متهماً إياهم بالعمالة لموسكو ، وبخيانة الأمة العربية ، كما صورت أجهزة إعلامه الأحداث التي جرت ،خلال وبعد القضاء على تمرد الشواف بأنها أحداث رهيبة.
لقد كان ذلك الموقف من الرئيس عبد الناصر من الأخطاء الكبرى في سياسته تجاه العراق وثورته ،فقد كان الأحرى بالرئيس عبد الناصر أن يمد يده لعبد الكريم قاسم من أجل دعم ونهوض حركة التحرر العربي ، ومكافحة النفوذ الإمبريالي في أنحاء العالم العربي ،والعمل على إيجاد أحسن الوسائل والسبل للتعاون ،والتضامن مع العراق ، واتخاذ الكثير من الخطوات التي تعزز التعاون والتكامل في مختلف المجالات الاقتصادية ،والسياسية ،والعسكرية ،والثقافية وغيرها.
لم تصمد حركة العقيد الشواف الانقلابية سوى أقل من 48 ساعة ، فقد كان رد الفعل لحكومة الثورة ، والحزب الشيوعي ، وحزب البارت الكردي وسائر الجماهير الشعبية المساندة للثورة سريعاً وحازماً ، حيث جرى التصدي للانقلابيين ، وقام فوج الهندسة ، التابع للواء المنفذ للانقلاب ،بالإضافة إلى جانب كبير من الجنود ،وضباط الصف ، وآلاف المسلحين العرب والأكراد ، والذين نزلوا إلى الشوارع للتصدي للانقلابيين ، وإفشال خططهم للإطاحة بالثورة وحكومتها ، وقامت طائرات من سلاح الجو العراقي بقصف مقر قيادة الشواف الذي أصيب بجروح خلال القصف ، ونقل إلى المستشفى الميداني ، في معسكر الغزلاني ، حيث قتل هناك على يد النائب ضابط المضمد [يونس جميل ] وبمقتله تلاشت مقاومة الانقلابيين .
وهكذا فشل تمرد الشواف ،وتمت السيطرة على المدينة خلال أقل من 48 ساعة،وتم اعتقال عدد من الضباط المتآمرين ،فيما هرب البعض الآخر إلى سوريا ،وذهب ضحية ذلك الانقلاب حوالي (135) فرداً من الجنود الذين ساهموا في قمع الانقلاب .

الأحداث التي رافقت قمع المحاولة الانقلابية :

لا أحد يستطيع أن ينكر وقوع أحداث ، وتصرفات ، وأخطاء ، ما كان لها أن تحدث ، قامت بها عناصر معينة ، أساءت إساءة كبرى للحزب الشيوعي ، فقد جرى قتل وسحل عدد من المشاركين في المحاولة الانقلابية ، وجرى نهب ،وحرق بيوتهم من قبل أشخاص فوضيين لا صلة لهم بالأحزاب السياسية ، استغلوا الفراغ الأمني ليقوموا بإعمال شريرة لا يقرها أي إنسان ، ولم يستطع الحزب الشيوعي وقف تلك الأعمال الفوضوية إلا بعد فوات الاوان ،
كما أقترف الحزب خطاً كبيراً عندما نصّبَ عدد من كوادر الحزب أنفسهم حكاماً ، وقاموا بمحاكمة عدد من المشاركين في المحاولة الانقلابية ، وحكموا على (17) منهم بالإعدام ، ونفذ الحكم ، في منطقة الدملماجة ، في ضواحي الموصل ، وهذا الأمر يعتبر تجاوزاً على سلطة الدولة ، وهو ليس فقط لم يخدم الحزب ، بل جلب له الكوارث والأذى .
لقد كان الأجدى بأولئك القادة اعتقال هؤلاء المتآمرين ، وتسليمهم للسلطة الشرعية لتحيلهم بدورها إلى المحاكم المختصة لمحاكمتهم ، والحكم على من يثبت مشاركته في المحاولة الانقلابية ، فليس من حق أحد أن يمارس السلطة القضائية ويصدر ، وينفذ الحكم دون تخويل .
كما أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الزعيم عبد الكريم قاسم نفسه ، الذي جرى تحذيره ،كما ورد سابقاً ،من حدوث ما لا يحمد عقباه ،ولكنه صمّ أُذنيه عن سماع التحذير،ورفض اتخاذ أي إجراء لمنع وقوع الكارثة ،في حين كان بإمكانه أن يفعل ذلك .
والانكى من كل ذلك فأن قاسم نفسه ، اتخذ فيما بعد من تلك الأحداث ذريعة ليصفي نفوذ الحزب الشيوعي في العراق ، موجهاً الاتهامات لهم ، ولاصقاً بهم الجرائم ، بعد أن كان قد أستقبل وفداً من قيادة الموصل للحزب ، بعد قمع انقلاب الشواف ، وخاطبهم قائلا :
{ بارك الله فيكم ، وكثّر الله من أمثالكم من المخلصين لهذا البلد }!! .
غير أنه لم يمضِ سوى بضعة أشهر على ذلك اللقاء ، حتى بادر قاسم إلى اعتقال كافة الشيوعيين النشطين ، وأودعهم سجن بغداد ثم أحالهم إلى المجالس العرفية التي أصدرت بحقهم أحكاماً قاسية وصلت حتى الإعدام ، وأبقاهم رهائن في السجن لكي يأتي انقلابيوا 8 شباط 1963 وينفذوا فيهم حملة إعدامات بشعة ، ويعلقون جثثهم على أعمدة الكهرباء ، في شوارع الموصل ، وكركوك . بعد أن مارسوا أشنع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بحقهم .
لقد كان لموقف قاسم الجديد ، خير مشجع لنشاط الزمر الرجعية ، والعناصر التي شاركت في محاولة الشواف الانقلابية ، والتي تكّن أشد العداء له ، ولثورة الرابع عشر من تموز ، ولم يدرك قاسم أن عمله هذا إنما يعني انتحاره هو ، ونحر الشعب العراقي ونحر الثورة كذلك .
لقد اتخذت تلك القوى من موقفه الجديد ذريعة لهم لشن حملة واسعة من الاغتيالات استمرت أكثر من ثلاث سنوات ، وذهب ضحيتها المئات الوطنيين الأبرياء ، واضطرت حوالي 30 ألف عائلة إلى الهجرة من المدينة .
وللحقيقة والتاريخ ، أقول أن الحزب الشيوعي لم يكن يستحق من قاسم هذا الجزاء رغم كل ممارساته الخاطئة ، فقد كان الحزب وفياً لقيادته ،سانده وحماة ،وحمى الثورة في أشد الأيام صعوبة وخطورة ،ولم يفكر يوماً في خيانته ،أو محاولة سلب السلطة منه آنذاك، في حين أن فرصاً كثيرة كانت لدى الحزب للسيطرة على الحكم بكل سهولة ويسر ،لو أراد ذلك .
لقد كانت مواقف قاسم تلك من الحزب الشيوعي ،أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى اغتيال الثورة ،وأغتياله هو بالذات .
لقد جرد نفسه من كل سند يحميه ، وأخذ منه الغرور مكانه ، معتقداً أن تلك القوى المعادية لمسيرة الثورة ستعود إلى رشدها ، وتغير موقفها من السلطة ، لكن الواقع كان يشير إلى تنامي الخطر الرجعي ، والنشاط التأمري ، على المستويين ، المحلي والدولي ، من أجل إسقاط الثورة ، وهذا ما تم فعلاً على يد تلك الزمرة الانقلابية يوم 8 شباط 1963 .




شاهد أيضاً

مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !

قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …