الرئيسية / افكار / التفكير والحقوق والحريات في غيبوبة

التفكير والحقوق والحريات في غيبوبة

لماذا يهندس الآخرون مستقبل العرب والمسلمين؟
دلفت وأنا في مقتبل العمر الي غرفة مكتبة والدي رحمه الله وكان من رجال القانون الذين يؤمنون بأن عاملين اثنين يحددان تقدم أي دولة واي مجتمع، هما: الحقوق والحريات، وان عاملين آخرين اثنين يحددان تقدم أي نخبة، هما: البيئة والثقافة! وان عاملين آخرين اثنين يحددان شخصية أي إنسان في وجوده، هما: الذهنية والتفكير! تعلمت هذا منذ زمن طويل، وكلما يجري الزمن تتفكك قناعتي عن ذاك الذي كان راسخا في عقلي ووجداني: كنت أتمثله واتهيب منه، بل كلما أتقدم في العمر أشقي شقاء الوعي الأول واكتشف أن دولنا ومجتمعاتنا هي اضعف بكثير مما كنت قد رسمته في مخيلتي وما كنت قد غرسته تربيتي في أعماق تفكيري! نعم دلفت علي المكتبة لأقرأ بعض النصوص التي تستهويني في كتاب عنوانه: (قانون العقوبات المدني) ولعل من اكثر ما رسخ في عقلي وشغل تفكيري نص قانوني يقول: (من قتل حيوانا أليفا كلبا أو قطة من دون وجه حق يحكم بالحبس الشديد مدة زمنية لا تقل عن ستة اشهر ويدفع غرامة معينة)!! بقي هذا (النص) شغل تفكيري منذ أربعين سنة خصوصا وأنني أتذكره كلما اسمع كم من البشر الأبرياء ومن دون وجه حق قد قتل أواعدم أو عذب أو اغتيل أو فجّر أو سحل أو قطع ومثّل فيه أو نكّل به أو حل الغدر به أو أفتي بمصيره أو ذهب ضحية بريئة لثارات قبلية مقيتة أو ما يسمي بالشرف ولأسباب تافهة سياسية أو اجتماعية أو تحزبية أو دينية أو طائفية أو عنصرية..
العادات والتقاليد البالية:
لعل من أقسي السيناريوهات التي علمونا إياها في المدارس: محاربة العادات والتقاليد البالية وهي عبارات قرأناها منذ صغرنا، ومن غدر الزمن أن تغدو اليوم تلك العادات والتقاليد أصيلة يفخر الناس بها وبممارستها وتتشبب الحكومات في حمايتها بقوانين تحت ذرائع الأصالة والتراث.. من تحت شقوق هذا الباب هبت علينا كل القيم لسقيمة وابتلينا بكل ما جعلنا نتأخر في سلم الأولويات.. لقد خسرنا زماننا الثمين، وخسرنا اكثر من جيل بدا اليوم عقيما ليس في عاداته وتقاليده حسب، بلحتي في تفكيره وثقافته وطغت الذهنيات المركبة الموائمة بين النقائض ولا وعي لأصحابها، وهي التي رضيت بواقع مليء بالموبقات المريعة! تناقضات لا عد ولا حصر لها أبدا علي مستوى الدولة والمجتمع والإنسان نفسه!
واقعنا من يحكمه؟
من أسوأ العادات التي ابتليت بها شعوبنا ومجتمعاتنا وبطبيعة الحال ما عكسته علي دولنا وحكوماتنا عدم تقبلها لكل الآراء عندما تطرح، بل وممارستها القمع في كل جزئيات الحياة وكل ما يعين ذلك التسلط من وسائل وأدوات سواء كانت مادية أم معنوية. ومما يزيد في الطين بلة، ما يطغي علي حياتنا في عالمينا العربي والإسلامي من ضيق في الأفق ومحدودية في الرؤية وضعف في الإمكانات والهشاشة في التعامل والتراخي في الأعمال الجمعية وبلادة الساسة وحتي سذاجة بعض المثقفين في المجتمع.. ناهيكم عن المساهمات القميئة نتيجة الجهل في المعلومات وطغيان المفبركات والأكاذيب علي اغلب المواقف والخطابات من اجل تغييب الحقائق! وهناك: هياج العواطف بعيدا عن وازع العقلانية والتفكير! وشراسة الأيديولوجيات والمعتقدات الخاصة علي فرص التعايش السياسي والديني والاجتماعي والثقافي المعاصرة! وانتشار الآراء والأحكام السريعة التي تحكمها المطلقات من دون تحديد للمشكلات ومعالجات هادئة للجزئيات! إن ما وصلت إليه حياتنا اليوم هي مدعاة للتفكير العلمي بعيدا عن أية وجهات نظر لا تمت لذلك التفكير بصلة! وإذا اعتقد كل إنسان بأن (الحقيقة) لا يمكن إدراكها بسهولة، وان فلسفة الأشياء تكمن أصلا في البحث عن حقائقها فربما كسبنا جولة واحدة من عشرات الجولات الخاسرة! وإذا بدأ الإنسان يفكر قليلا ضمن آليات الشك ونسبية القياس لما كان تكّون في ذهنه من تراكيب راسخة، فربما يغير ذلك من قناعاته ومطلقاته لكل الأمور.. ويبدأ يتنازل رويدا رويدا عن أبراجه العاجية التي ستحطمه في يوم ما! وهنا نكسب جولة أخري من الجولات الخاسرة التي تجعلنا نتحرك في ما يسمونها بالشفافية السياسية التي تستند في الأساس علي تغيير التفكير ومرونة الأشياء ومن ثم الأيمان بنسبية الحياة.. عند ذاك ستنخفض لدينا سطوة الجداريات الصلبة وبلادة الذهنيات المركبة وستهدأ العواطف الملتهبة الهياجات الحقودة التي أساءت إلي كل حياتنا العامة في التاريخ. إن صدمات قوية جدا لم تؤثر أبدا كما يبدو لي في قطاعات كبرى من الناس حتي وان انتقلت تلك القطاعات وغدت جاليات في عالم الغرب بكل ما يحفل به الغرب من المكونات والتشيؤات والموروثات والمكتشفات.. إلا أنها جميعها لم تؤثر أبدا في الذهنيات الصلدة التي لم تتقبل أبدا حتي هوامش الأمور فكيف تتقبل أنصاف الحلول وكيف تقبل أن تتعايش مع المستحدثات الجديدة ومع الآخر برغم استخدامها الأعمي لكل وسائله وآلياته وتكنولوجياته وابداعاته واعلامياته.. الخ لقد انتهت مراحل زمنية متنوعة لم تعرف فيها أبدا قيم المرونة والوسطية والاعتدال بسبب ما فرض علينا من شعارات دموية وخطابات مخيفة وإعلاميات صارخة وضمن أساليب أسموها بالثورية وطغيان الهمجيات القاسية للمؤدلجات العقيمة التي ترسبت عن مذاهب سياسية وتحزبات شوفينية تحتمسميات وشعارات لا حصر لها وصولا إلي التشبع بأغرب الاصوليات الشرسة من دون أي وازع للتسامح ومقابلة الرأي بالرأي والحجة بالحجة كما فعل الآباءالأولون..
لقد ساهمت في صناعة ذلك كله: الأجهزة التربوية والتعليمية والإعلامية، إذ تتحمل دولنا وشعوبنا نفسها القسط الأوفر من نتاج تلك الصناعة التي أفرزت ظواهر مخيفة لا يمكنها أن تجعلنا نمضي لا في صراعنا المصيري ضد الصهيونية العالمية ولا في بناء مستقبلنا الحضاري من اجل أن نتعامل مع العالم بنفس الصيغ الذكية العلمية والسايكلوجية والإعلامية والفكرية التي يتعامل بها معنا!
حقوق الإنسان: أين هي؟
السؤال: هل باستطاعة مجتمعاتنا أن تتمتع بحقوقها كاملة والتي تضمنها القوانين وتكفلها الدساتير بعيدا عن أية منظمات وهمية مرتزقة ما هي إلا صنيعة أنظمة سياسية أو واجهات أحزاب محتقنة واتجاهات عقيمة لا تؤمن هي الأخرى لا بالحريات ولا بالرأي الآخر ولا بالديمقراطية الحقيقية.. وهنا أحب أن اعلق مستطردا بأن كل المنظمات والهيئات والأحزاب والجماعات التي تنادي بمثل هذه الأفكار التي تعتبر وليدة نتاج تاريخ أوروبا السياسي والفكري الحديث لا يمكنها أبدا أن تعتبر مرجعياتها عربية أو إسلامية وإلا تكون قد سجلت نوعا غريبا من الهراء الذي لا يمكن أن يتقبله العالم اليوم أبدا نظرا لأنها سوف تعيش سلسلة مفجعة من التناقضات والعجائب والغرائب. لعل أسوأ دور مارسته حكوماتنا ودولنا في القرن العشرين أنها زاوجت ضمن أشكال لا حدود لها من الخلط بين مختلف النقائض، فهي تستعمل كل تعابير ومسميات مؤسسات الغرب، ولكنها لم تشكل أية قطائع تاريخية ومعرفية بين تفكيرها السياسي ومرجعياتها التاريخية..
لقد خلطت عن سوء تصرف وغباء بين المرجعيات فضاعت علي الأجيال الجديدة من مختلف الاتجاهات والتيارات الأساليب الأصيلة في الابتكار ضمن حركة تكويناتها المعاصرة ولم تنتج عندنا
في القرن العشرين إلا الذهنيات المركبة التي تاهت هي الأخري بين النقائض المميتة. ومن المحزن أن الإنسان عندنا لا يحس وطأة هذه التناقضات أبدا إذ أن الذهنية المركبة قد أطبقت على كل مفاتيح أبوابه، فأبقته سجينا ضمن آليات تفكيره القاصر وعواطفه الساخنة، وكل من الاثنين يحركان كل توجهاته.. فبدا مغلقا لا يمكن أبدا تكسير مغاليق عقله وتفكيره.علينا عندما نفكر في حقوق الإنسان والديمقراطية عندنا في عالمنا الذي يقدمه أبناؤه اليوم لقمة سائغة للآخرين أن ندرك بأن الحقوق السياسية تأتي في نهاية السلم، إذ تسبقها حقوق في التربية وحقوق في التفكير، وحقوق في المجتمع، وحقوق في العمل، وحقوق في تكافؤ الفرص، وحقوق في العائلة، وحقوق للمرأة، وحقوق في المواريث، وحقوق في الدراسة، وحقوق في الإرادة وحقوق في التعبد والدين وحقوق في إحقاق الحق وحقوق في التملك وحقوق في توزيع الواجبات وحقوق في صنع القرار.. الخ إننا نقفز قفزات عالية تحت ذرائع ومسميات عريضة للدفاع مثلا عن سجناء الرأي السياسي من دون أن نعمل علي تحرير سجناء أحرار المجتمع المقموعين ظلما وعدوانا، ذلك أن البعض منا قد لا يهاب ما تصدره الدولة من قرارات ولكنه يخشي ما يفعل به المجتمع إن حاول الخروج عن تقاليده العمياء! حقوق الإنسان نعم في منظومتنا العربية المعاصرة ولكنها تأتي جدا متأخرة بعد أن مضي قرن كامل والحقوق ضائعة: دول وحكومات عربية واسلامية بدت اليوم هشة وهزيلة تذروها الرياح أمام العالم بعد أن كانت تتنطع بأنها ذات جبروت لا يرحم! مجتمعات شتى كان عليها أن تتقدم جدا بمشروعاتها وإبداعات أبنائها توظف مؤسساتها المدنية والأهلية في الإنتاج كي تؤثر في العالم كله.. ولكنها للأسف بقيت أسيرة حكوماتها وسجينة أسوارها وكسيحة تقاليدها وقد كبلها المتخلفون والمتحذلقون والمقلدون الببغاويون بالأغلال الحديدية تحت حجج واهية وتسويق التقاليد المميتة التي لا تعترف مطلقا بحرية الإنسان وتفكيره وسماحة دينه وسمو عقائده.. ويا ويل من يخرج عن تلك الأطواق والأقفاص الحديدية حتي لو كان ذلك مجرد رأي جديد أو بيت شعر أو أفكار قصة..!! حقوق الإنسان نعم إنها وايم الله ضائعة في الدولة والمجتمع معا! فالإنسان لم يتمتع بحقوقه المادية ولا المعنوية.. وكم ذهب من حياتنا بشر زهقت أرواحهم من دون مبرر، واعدم وقتل واغتيل وفقد العشرات من الألوف من دون وجه حق! وكم ضاع من
الأطفال وانحرف من النساء وجرد عن العمل من العاملين ونفي من المغتربين المنفيين، وكم خلق من المعوقين والمشوهين وكم أهين في كرامة العجزة والطاعنين. كم وكم في حياتنا علي امتداد القرن العشرين؟؟
انتظروا ماذا سيحدث؟
أقول بكل جرأة أن واقعنا المهتريء والذي لا يريد البعض أو الكل الاعتراف باهتراءاته سيغدو لا محالة علي المشرحة الأمريكية، إذ ستجد أمريكا نفسها باسم الشراكة ملزمة بهندسته على مزاجها! نعم، هندسته ليس سياسيا كما يصرخ البعض، بل الأخطر من ذلك هندسته اجتماعيا وفكريا وتربويا وتعليميا وثقافيا وإعلاميا.. لأنها تتطلع بعد سنوات إلي ولادة أجيال جديدة تنتجها هي نفسها بعيدا عن كل المألوفات الصعبة التي لم يستطع أصحابها من تطويرها وإيجاد البدائل الحقيقية لها! ثمة أصوات كانت ولم تزل تنادي بما يخطط له النظام العالمي الجديد بشكل شمولي لا يقتصر علي الحدود وأنظمة الحكم، بل يخترق كل الأسوار والجدران وينفذ إلي الأعماق كي يقوم بمهمة التغيير.. واعتقد أن الكل سيرضخ لهذا القادم الجديد ويعمل بنصائحه ويقر ويصفق لكل يهندسه له.. فهل من معترض؟ إنني اشك في ذلك


د. سيار الجميل
تاريخ الماده:- 2002-12-24

نشرت في صحف ومواقع عدة

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …