الرئيسية / فن وموسيقى / فيروز : الصوت الملائكي الصادح الذي سبق زمانه ومكانه !

فيروز : الصوت الملائكي الصادح الذي سبق زمانه ومكانه !

” اذا بدك تروح .. روح روح وانا قلبي تعود على العذاب ”
فيروز
لا يمكنني ان اكتب مذكراتي كشاهد لرؤية حياة هذا الزمن الصعب من دون ان اخصص حلقة خاصة من نسوة ورجال عن الفنانة اللبنانية القديرة السيدة فيروز التي تعد واحدة من ابرز من انجبتها العرب في القرن العشرين ، وهي تشكل بحد ذاتها : ظاهرة تاريخية مميزة في الفن الغنائي العربي الراقي . لقد برزت فيروز في ظل الضوء الثقافي اللامع لبيروت في عقدي الخمسينيات والستينيات ، وهي الفترة الذهبية العربية التي وصلت الابداعات فيها الى قمة مداها بظهور المع الشعراء والادباء والفنانين والعلماء والمثقفين .. ان فيروز ظاهرة فنية بحد ذاتها سواء احببنا صوتها او لم نحبه ، وهي تاريخ حافل بالعطاء والامجاد الفنية الراقية على مدى خمسين سنة . بدأت آذاننا تتلقى صوت فيروز مذ كنا اطفالا ، فعشنا معها في الصباحات الجميلة التي تحثنا فيها بكل تحدياتها وتطلعاتها وصوتها الرخيم على العمل في كل الميادين ..
لقد سجلت الفنانة فيروز تاريخا حافلا لا يبارى في اثراء الغناء العربي المعاصر ، وانها قد تميزت على الاخريات والاخرين بحنجرتها الماسية التي تعد واحدة من أقوى الاصوات الاوبرالية التي يندر وجودها في الشرق .. وبرغم جفاف الصوت ولكنه رقيق ودقيق وله عمق من المتسعات التي تستطيع صاحبته التقلب فيه وتلوينه حسب طبيعة ما تغني .. وهي قادرة على شد السامع والمتلقي الى صوتها بصعوبة ، ولكن ما ان ينشد المرء لصوت فيروز حتى يكاد يعشقه في اويقات زمنية معينة وخصوصا عند تلك الاويقات التي استحوذت فيها فيروز على اذن المتلقي . وبرغم كل هذه الميزات الباهرة ، فلا يمكننا اعتبار فيروز مطربة عربية بأي حال من الاحوال فهي لا تعرف الطرب ابدا ، انها اسطورة في الغناء وبين الغناء والطرب مسافة شاسعة من المعاني المختلفة . ان فيروز مغنية من الدرجة الاولى تتمتع بقدرات فنية اوبرالية عالية المدى في حنجرتها المتميزة .. ومقارنة بسيطة بينها وبين كل من الفنانتين الكبيرتين : ام كلثوم واسمهان ، استطيع القول ان ام كلثوم نقيض فيروز فهي مطربة من الدرجة الاولى .. في حين جمعت الفنانة اسمهان النقيضين معا فكانت مطربة شرقية اصيلة وذات صوت غنائي اوبرالي صادح !
ما الذي بجذبنا في صوت فيروز ؟
ثمة أمر آخر يجذبنا نحو صوت فيروز الرخيم والذي طوعته صاحبته ببراعة محليا وعربيا بحيث تناولت موضوعات شتى ، فلقد غنت كل الالوان المحلية اللبنانية وابدعت في غناء القصيدة العربية .. وأثرت المسرح الغنائي العربي بكل ما هو رائع واصيل .. كما اثرت الاغنية الوطنية والقومية والنضالية معا اذ صدح صوتها مباشرة بعد هزيمة العرب عام 1967 لتطلقهم بالمزيد من التحدي والانطلاق عندما استنهضت بهم الامل بصوتها : الان الان وليس غدا .. ولعل ابدع من غنت عن القدس المفقود في مناجاتها التي تنفذ نحو الاعماق بصوتها لقصيدة ” زهرة المدائن ” .. الخ من الالوان . ولعل اهم ما يميز فيروز في زمننا المعاصر وعلى امتداد اكثر من ثلاثين سنة اقتران صوتها النقي وموسيقاها المحفزة بسقسقة العصافير والبلابل في الصباحات العربية الجميلة ، اذ تعّود الانسان العربي المثقف والعامل والطالب والموظف والمدير وحتى الطبيب والمهندس .. ان يسمعها لساعة من الوقت قبل ان يبدأ عمله ان لم يكن في بيته ففي سيارته .. فهي تثير عنده المزيد من الفاعلية والنشاط والحركة .. وان فيروز تستدرجه من حيث لا يعلم للدخول في عالم جديد ذلك الذي سيكلل يومه بألوان شتى وأطياف لا حدود لها .. هذا اذا نجح المستمع المتلقي الذي يجذبه صوت فيروز ان يعيش العوالم التي ترسمها له بصوتها وموسيقاها معا ! وقلما تكرر فيروز نفسها اذ انها غدت تمتلك ثروة غنائية لا حدود او سدود لها ابدا . فلا يمكن لأي مستمع لصوتها ان يصيبه الضجر عندما ينسجم واياه ربما تتكرر اغنيات معينة بذاتها كأن نسمعها مرارا وتكرارا لسنوات طوال ، ولكن الامر يعتمد على قدرة المتلقي السامع في التكيف معها وانفتاح مخيلته لرسم فضاء من المعاني الخصبة النقية .. هذا في حال عدم انشغال تفكيره بغير ما تسمعه اياه فيروز ..
ذكرى قديمة لا انساها ابدا
دلفت وأنا غض غرير عند مطلع الصبا وكنت برفقة عائلية والصحبة جملة من الاصدقاء اللبنانيين القدماء الذين يعرفوننا منذ زمن مضى وانقضى .. كانت السيارة تنهب الارض صاعدة من بيروت نحو الجبل لتقطع بنا تلك السلسلة من المرتفعات الخضراء التي تحتضن الاف شجيرات الارز عنوان لبنان ورمزه الحيوي . توقفنا في عاليه وشربنا القهوة والهواء عليل وواصلنا الى الاعالي واطللنا على البقاع السهل الاخضر الواسع ثم وصلنا زحله التي لا يمكن لمخيلتي ان تغيب عنها ذكراها الجميلة ، وهي تتميز بهوائها المنعش واشجار كرومها وواديها السحيق فهي جارته وكم كان ابي رحمه الله يردد قصيد احمد شوقي عنها فهي جارة الوادي التي غناها عبد الوهاب وفيروز .. وعلى اسماعها اخذنا وجبة الغداء اللبناني الشهي وكنت استمع لحكايات ادبية وفنية مع متابعات الكبار للاحداث السياسية . كنا نتمنى لو طال بنا الوقت في زحله ، ولكننا في نفس الوقت كنا نتمنى ان يختزل الزمن من اجل ان نصل مبكرين لحضور حفل تحييه الفنانة فيروز في بعلبك .. كانت مهرجانات بعلبك الشهيرة في اوج عطائها وازدهارها اذ كانت تمثل قمة ما وصل اليه ابداع المسرح الغنائي العربي .. وكانت تلك المهرجانات الرائعة يحييها نخبة من ابدع من انجبته لبنان من الفنانين في القرن العشرين .
جلسنا والهواء جد عليل بعد ان تجولنا في بعلبك وآثارها العريقة وكان الليل قد جاءنا مسرعا ، جلسنا في الصفوف الامامية امام مسرح اقيم في الهواء الطلق وتحت ظل الاعمدة الرومانية وفي ساحة قديمة من معبد مبني من الحجر الصلد الذي غدا اصفرا بعد ان توالت عليه الاحقاب وعشرات الاجيال .. جلسنا وكانت الاستعدادات قائمة على المسرح الذي يتصدر تلك الاعمدة الرخامية ومن اجمل ما يعجبني سماع الموسيقيين وهم يداعبون اوتارهم قبل ان ينطلق الحفل .. كانت الاعمدة الرومانية شاهقة وجبارة وتعلوها التماثيل .. انها تنبؤنا بعظمة التاريخ الكلاسيكي الروماني .. كان المسرح منارا باضواء ساطعة وكل الحاضرين من الذين شغفوا باصوات العمالقة ساسة ومثقفين ووزراء ومدراء وسائحين وضيوف ..اتوا من اماكن قصية .
بدأ الحفل الذي اذكر منه اطلالة فيروز التي كانت تدور في قلب المسرح وهي تشارك طاقمها الفني ابداعاته ، وانبرى صوتها صادحا يتردد في ارجاء ذلك المعبد الرخامي الروماني العتيق وكأنه يخترق الزمن والوجود لوحده .. لم أنس تلك الليلة الرائعة التي رسمت في تفكيري تعبيرات لم تزل رسومها ورموزها وجمالياتها مختزنة بكل جزئياتها في اعماقي ! لقد غنت فيروز مع رفاقها ورفيقاتها الحانا رائعة للاخوين رحباني وهي ترفل بالملابس الفولكلورية ساعات طوال . ولعل اهم ما اذكره وقفتها وهي نحيفة وقصيرة ونظراتها الزائغة العميقة تمتد في الاشياء والوجوه من دون ان ارى اية ابتسامة على وجهها ، اللهم الا مرة واحدة بتأثير موقف وقع فيه احد الفنانين .. كانت مسرحية ” ميس الريم ” الغنائية رافلة بكل المعاني الرائعة . كان صوت فيروز صادحا مغردا حينا ثم ينقلب ليصبح طودا كاسحا للزمان والمكان اولا ، وكانت الحركات الراقصة المبرمجة التي تؤديها الفرقة المسرحية متناسقة ومستلهمة من ارث المجتمع المحلي فولكلوريا ثانيا ، وان الالوان الرائعة للالبسة الانيقة تضفي اجواء من التنوع لحزمة من الاطياف اليانعة ثالثا .
كانت فيروز ترمق الاعمدة الهائلة والشاهقة في اطوالها وهي من فوقنا وكانها تباهي السماء وتطالبنا نحن العرب ان نكون في شموخ تلك الاعمدة الرخامية الكبرى .. كانت تشيع في مسرحيتها انواعا من الحزن في الكلمات والنظرات معا .. هنا اويقات الفرح وهنا فسحة للحزن والبكاء ! انها انغاما اوركسترالية تحيلنا مرة الى رهبة الاجواء الكنسية وخشوعها او تطلقنا مرة في الفيافي والطبيعة عند السواحل او الدواخل ، واعترف هنا ان فكرتي في الجغرافية التاريخية عن السواحل والدواخل استلهمتها عن اجواء فيروزية وانا اسمعها لوحدي ! تنسدل الاستار عن مشاهد من الصور المعبرة التي تتضمنها جملة هائلة من المعاني وهذا ما يميز الفنانة فيروز التي تعلم منها العديد من المثقفين اشياء لا حدود لها .. وانا اقول بأن فيروز قد علمتني ايضا بأن الحياة لها طعم من نوع ما عند الصباحات المتألقة التي تشحن كل يوم بالحركة .. وعلمتني ايضا بأن فن الغناء له من السموق والتجلة والسمو بعيدا عما الفه المجتمع العربي من اقتران الغناء بالاسفاف والابتذال والمهانة والمحرمات !
اغان فيروزية عن فلسطين
لم تتوان فيروز ابدا في الغناء الوطني بكل جوارحها ، غنت عن لبنان وجنوبه اروع الاغنيات ، وغنت عن مصر ارض الكنانة وعن بغداد الشعراء والصور وعن مكة المكرمة وعن غيرها ولكن اروع اغانيها الوطنية كرستها عن القدس وفلسطين .. اذكر ان صديقا لبنانيا كان قد اهداني ونحن ندرس سويا في اسكتلندا شريطي كاسيت يحتويان على اروع مجموعتين لفيروز كلها عن فلسطين والاوطان وكنت اهرع لسماعهما دوما ، وفي مرة من المرات الح علي الصديق الفلسطيني الاثير اميل شحادة ان يستعيرهما مني ، فقبلت ويا ريتني لم اقبل .. اذ اخذهما ولم يرجعهما لي ابدا ، وكم مرة اطالبه بهما ولكن تقصد في عمله وكان معجبا بما فعله السادات وبمشروع السلام مع اسرائيل وكان لا يريد ان يسمع احد تلك الاغاني الفيروزية .. وكم حاولت لاحقا ان اجمع تلك الاغاني ، فلم افلح خصوصا وكلما يمر الزمن تندر الاعمال الفنية القديمة .
كلمة أخيرة لابد منها
لابد لي ان اكتب شيئا ولو يسيرا بحق هذه السيدة القديرة التي صدق من سماها فيروز ، فهي سيدة عربية لازوردية قلما تظهر على الناس .. تتمتع بسجايا العزلة الصوفية لا تحب الاضواء ولم توافق ابدا على اية مقابلات اذاعية او تلفزيزنية .. لم تزل تحترم ذكرى زوجها الفنان الموسيقار عاصي الرحباني ، وهي تحترم زمنها وعمرها وجمهورها وحياتها الخاصة وليست كمن تهذي وتغير نمط حياتها وشكلها من سنة الى اخرى .. لم تجعل الناس تضحك عليها بعد ان نالت من المجد والشهرة ما يكفيها . سيبقى اسم فيروز علامة لامعة براقة في هذا العصر الذي جمع كل النقائض والاعاجيب .
عن كتاب الدكتور سيار الجميل ، نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية

شاهد أيضاً

فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو

ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …