الرئيسية / الرئيسية / عراقي أم عراقوي ؟

عراقي أم عراقوي ؟

اعترضت على أحد الاصدقاء ونحن في تجمّع موّسع للمثقفين العراقيين على استخدامه مصطلح ” المشروع العراقوي ” كونه قد قرأه عند واحد من الكتّاب المحدثين، وعلى الرغم من قناعة الرجل بتصويبي اللغوي له، لكنه اضاف قائلا: ” ومع ذلك فأنا أفضل استعمال هذه المفردة بسبب جماليتها اللغوية “. ثم تدخّل صديق آخر ليقول: ” مصطلح عراقوي يختلف في المعنى عن عراقي وهو يقابل Iraqist. عراقوي يؤمن ويسعى لترقية ونشر الثقافة أو النزعة العراقية بينما عراقي Iraqi هو مجرد نسبة إلى العراق. وهناك أيضا مصطلح عراقاني… اللغة اصبحت أكثـر تعقيدا من ذي قبل وبالإمكان اشتقاق مصطلحات جديدة للتعبير عن أفكار جديدة…فهناك ماضٍ وهناك ماضوي وفردي وفرداني وعربي وعروبي… “،
ثم تدخل صديق ثالث معلقا: ” أنا شخصيا أنادي بال Iraqism لأكثر من 35 سنة.. ولم أجد غير العراقوية التي أستثقلها.. Iraq العراق ، Iraqi العراقي Iraqism العراقوية عراقوية العراقوي عراقوي Iraqist التعريق Iraqization .
لقد خالفت استخدام ” العراقوي ” مخالفة شديدة ، فالمسألة لا يمكن ان تؤخذ هكذا ببساطة وعلى خلاف ما هو معهود في العربية .. وحسنا اثرت اشكالية هذا ” الموضوع ” في تجمعنا، كي اعالجه تفصيليا، وهو امر يتعلق اصلا بمعرفة فقه اللغة، ومن ثم يتاح لي نشره على الناس.. والمشكلة في الاصل قد تبلورت جراء التأثر باللغة الفرنسية لا بالإنكليزية!
نقول “إسلامي ” ونقول ” إسلاموي “.. من هو الاقوى معرفيا؟ ومن هو الاقوى ايديولوجيا؟ الاسلامي هو المتعلق بالإسلام دينا، أما الاسلاموي، فهو المتعلق بالإسلام السياسي ايديولوجية. وهنا يتوجب التنويه بأن هذا الاختلاف مستمد اساسا من الترجمة عن الفرنسية، وهي ترجمة درج على استخدامها كتاب ومؤلفون عرب تقليدا اعمى للاستخدام الذي درج عليه الفرنسيون بحيث يتم التفريق بين النعت الحقيقي (Islamique) الذي يعني “إسلامي”. وبين النعت المؤدلج (Islamiste) الذي يعني “إسلاموي”، وهناك (Islamisation)، والتي تعني “أسلمة”. ان هذه التباينات لها أهميتها في الفرنسية فالنعت الاول يعكس حالة الامتداد التاريخي الطبيعي للإسلام المتوارث والحقيقي (= الاصل) – بحيث يتطابق تطابقا تاريخيا خالصا -. أما النعت الثاني فيعني به الشبيه المستمد من الاصل، أو ما استحدث اليوم باسم الاول بطريقة مؤدلجة غير تاريخية . ان هذا الاستخدام له اهميته، وهو ليس سالبا، ولكنه يطلق على من هو معاصر اليوم شكلا ولكنه غارق في مراحل تاريخية غابرة، اذ لا تطابق بينها وبين حياة هذا العصر ، ولا مطابقة بينها وبين ما استمدته من الاصل!
ولما كان الماضي قد رحل مع اهله، فليس هناك اسم لابنه اليوم، ولكن من يعيش في الحاضر وله ميل الى الماضي وقد غطس فيه، فنقول عنه ” ماضوي “، فهو لا يعيش في الماضي حقيقة! فالمصطلح اسم منسوب إلى ماضٍ وليس من الماضي نفسه! وعليه فان ” العراقي ” هو المصطلح الحقيقي لمعنى الانتماء الى العراق وليس “العراقوي” كاسم منسوب إلى العراق على غير قياس.. وهكذا، فان الاسم الحقيقي للأشياء من يرتبط بها ارتباطا حقيقيا، في حين ان ” العراقوي” من له ميل سياسي او ايديولوجي او ما يشبهما الى العراق! وهكذا بالنسبة للقومي والقوموي، ولكن ليس للعربي والعروبي ، بل للعروبي والعروبوي، فالعروبة مصطلح قائم بذاته وله وجوده التاريخي وهلم جرا..
ويا للأسف ان مثل هذه ” المصطلحات ” لا ” المفاهيم ” تتأرجح أبعادها المستخدمة بين الكتّاب العرب المعاصرين، وهم لا يدركون تلك الابعاد الدقيقة، فيخلطون بين ما هو ايجابي او سلبي.. او انهم يتلقفون المصطلح ويستخدمونه من دون معرفة معناه الحقيقي او الدقيق، كما حدث على سبيل المثال لا الحصر في مصطلح ” اشكالية ” الذي كنت وراء نحته في اللغة العربية منذ اكثر من ثلاثين سنة، ذلك ان ” المشكلة ” هي ما يواجه الإنسان والمجتمع من معضلات وأزمات لا دخل له في صنعها، أما ” الإشكالية “، فهي ما يثيره الباحث في موضوعه من تساؤلات غير مكتشفة ولا معلنة تثير الذهن وتشغل التفكير من أجل إيجاد حلول ومعالجات. وهناك مصطلحات اخرى قمت بنحتها مثل ” المجايلة ” الذي تصدّر عنوان احد كتبي والماضوية والرؤيوية.. الخ، ولقد شاع مصطلح ” الاشكالية ” على الالسنة العربية كثيرا جدا من دون ان يعرف احد من استنبطه ليعرفوا معناه الحقيقي ، بل ولم يعرفوا الفرق الحقيقي بينه وبين مصطلح ” المشكلة “! نتيجة الجهل الكبير في المعاني اللغوية العربية والاجنبية!
وعليه، من السذاجة ان نصف مشروعا او شخصا او حزبا.. بالعراقوي.. والمسألة ليست مزاجية كمن يحب جمالية هذا ويكره توحش ذاك، بل المسألة محسومة الدلالات بين الذي يعلم وبين الذي لا يعلم..دعوني ألقي الضوء على هذا المصطلح، من حيث دلالاته وأبعاده.. وعليه، ينبغي التفريق بين الوصف المجرد والوصف المؤدلج (او: الشبيه بالرغم من ان شبيه الشيء منجذب اليه)، بحيث يمكن التفريق، ومن مجرد استخدام المصطلح، لوصف الحالة المجردة، وبين تحميلها جملة اثقال أيديولوجية معينة، لتأخذ لها صفة سلبية. وان مجرد الخلط بين الاثنين، فهو خروج عن الموضوعية المطلقة، بالرغم من ان الموضوعية مسألة نسبية مثل أي امر آخر، لكنّ هنالك هامشا مُعينا منها تتدرج من خلاله وضمنه معاني المصطلحات كي تتكون المفاهيم. وعند معالجة ما يتعلق بالعراق وما يتفرع عنه من مفاهيم وصفات، نجد الصفات والمصطلحات الآتية مثلاً:
Iraq, Iraqi, Iraqism, Iraqist, Iraqization
كل واحد من هذه المصطلحات له معنى مختلف عن الآخر، وبذلك يمكن التفريق بين العراقي / العراقية Iraqi، والعراقوي Iraqist , وبين العراق Iraq ، والعراقية من العراقيين Iraqism, وكل ما هو منتم للهوية العراقية مثلاً Iraqization, أي التعريق من عراقي وهكذا، فحين الحديث عن مشروعات العراق التاريخية وقد كانت قد اعلنت وحدثت ومضى عليها ازمنة، فيستلزم ان يكون التعبير معرفيا واضحاً من خلال العراقي وليس العراقوي دون شرح أو تفصيل، وحيث يكون التعبير عن العراق بوصفات أيديولوجية سياسية، فيكون التعبير بالعراقوي وليس العراقي واضحاً أيضاً.
إنني لا احبذ استخدام مصطلح ” العراقوي “، فالعراق ليس مذهبا ولا دينا ولا قومية ولا ايديولوجيا.. العراق وجود تاريخي وجغرافي قديم .. ولكن ربما يستخدم ” المصطلح ” في حالة واحدة تتعلق بـ ” الهوية “، فالفرق كبير جدا بين العراقي هو ابن العراق الوطني الحقيقي وان العراقوي هو ابن العراق المزيف السياسي والمؤدلج كما هو الاسلامي والاسلاموي والقومي والقوموي .. الخ .. ولفظ العراقي يطلق على منتجات مركبات العراق الحضارية والثقافية، وليس على الأشخاص فقط، وهذا ما يقع فيه العديد من المثقفين الجدد الذين لا يدركون المعاني، وانهم لا يفرقون بين المصطلح معرفيا وبين المصطلح ايديولوجيا، بل ولا يتداركون أخطاءهم، وهي اخطاء مصطلحية تودي إلى خلط في المعاني لتتكون اخطاء في المفاهيم وهذا ما يستوجب فهمه و تجنبه.
وأخيرا، علينا ان ندرك ايضا، بأن من يكتب بالإنكليزية – مثلا – لا يمكنه توظيف استخدامات مماثلة لما هو مستعمل في الفرنسية والألمانية.. وعليه، فإن خلطا وابهاما قد حدث في استخدام ذلك في العربية، بحيث طال الخلط ما هو يخص الحاضر بما يعتني به الماضي، وخصوصا في تحليل ظواهر خطيرة نحياها .. كما نجد ارباكا واسعا لدى الكتّاب العرب المحدثين الذين يقومون بتسويد صفحات كاملة، ويستخدمون جملة من المصطلحات التي لا علم لهم انفسهم بمعانيها. كما نلحظ افتقار القراء الذين يتلقون هذا الزخم الكبير من الكلمات والمصطلحات، وهم لا يدركون ما يقصد بها أبدا.. مع غياب المعاجم والقواميس، التي لم يعد احد يستخدمها اليوم ويا للأسف. ان الثقافة اللغوية عندنا نحن العرب قد اصابها عقم كبير، وابتذال للمصطلحات، وفوضى في المعاني، وفقر مدقع في معرفة اللغات الحية في العالم .. وقد اتيحت مرافق اعلامية مرئية لنقل هذه الاوبئة مع وجود اعلاميين جهلة في اللغة والثقافة وحتى في اللياقة العامة .. وهي تزيد المتلقي خرابا والثقافة العربية دمارا ، وستبقى الحالة متدهورة مع غياب اوعية جديدة للتصنيف المعرفي والدقة اللغوية. وعليه ، قل عراقي ولا تقل عراقوي بالرغم من ان العراقويين قد ازدادت اعدادهم وحجومهم اليوم بشكل كبير اكثر من أي زمن آخر !

نشرت في جريدة المدى ، بغداد الاحد 26 تموز / يوليو 2015 . ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …