الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / محمد جواد رضا استاذ متميز في فلسفة التربية المعاصرة : أول مؤسس لنظام الساعات الاكاديمية المعتمدة

محمد جواد رضا استاذ متميز في فلسفة التربية المعاصرة : أول مؤسس لنظام الساعات الاكاديمية المعتمدة

” كنا قد دخلنا في هزيمة الخامس من حزيران / يونيو 1967 مهزوزين وقد اظلمت دروب الفكر أمامنا وضاعت منا الصور الدالة على اتجاه ” .
محمد جواد رضا

مقدمة
رحل عنّا بمزيد من الحزن والاسى احد اعلام رجال التربية والتعليم العراقيين ، اذ كان محمد جواد رضا قد تخصص في التربية منذ اكثر من خمسين سنة .. وتنقّل في بلدان عدة كواحد من الرجال الاكاديميين الممتازين .. حتى انتهى به المطاف في الولايات المتحدة الاميركية .. دعونا نستعيد اليوم ذكراه العطرة لمناسبة اربعينيته .. فضلا عن تسجيل سيرته وافضاله تاريخيا .. فماذا يمكنني القول عنه ؟
صديق قديم وزميل جامعي لا يمكن ان تنسى ذكراه الطيبة .. مثقف عالي المستوى له تميزه وخبراته وقراءاته وعمق تفكيره والادق في الوصف : شفافيته وقوة حجته ومنطقه .. اكاديمي متمرس له خبراته منذ سنوات طوال في فلسفة التربية المعاصرة وله باعه المؤثر في تقديم خبرات واقتراحات واستشارات .. عربي النزعة والهوى له مواقفه السياسية القوية التي دفع ثمن تمسكه بها غاليا .. هاجر من العراق منذ اكثر من ثلاثين سنة كونه لم يتلاءم مع نظام الحكم البعثي السابق وتنقل في ارض الله الواسعة ، لكنه استقر في الولايات المتحدة الامريكية بعد ان عمل في جامعة الكويت لسنوات طوال ، وللكويت خصوصا والخليج العربي عامة في قلبه مكانة كبرى .. رجل يحترم الزمن احتراما بالغا ، كثير القراءات ويعتني جدا بطلبته وبمحاضراته التي تعتبر غنية جدا .. له تفكيره الحديث ورؤيته المعاصرة للأشياء والتاريخ والواقع وهو يستهجن التخلف والتبعية والتقاليد والاعراف البليدة ..
عرفته معرفة حقيقية من خلال مزملتي له سنتين كاملتين في جامعة آل البيت بالأردن ، وكان مكتبي في جناح يقابل مكتبه بالضبط في جناح آخر ، وكثيرا ما التقينا وتحاورونا في الشؤون الاكاديمية والتربوية العربية المعاصرة في اوقات متنوعة من نهارات تلك الايام .. فضلا عن آرائه في التعليم العراقي ، وكنا في حوار مستمر عندما كنت اكتب تاريخ جامعة آل البيت العراقية 1924- 1930 ، وكيف ماتت تجربتها الفتية على عهد فيصل الاول ! وقد اكتشفت في هذا الرجل عالما رائعا من الخبرات والافكار فهو مرب خدم في الجامعات العربية في كل من العراق والسعودية والكويت التي استقر فيها منذ العام 1968 مرتبطا بجامعتها منذ ذلك الحين حتى خروجه منها اثر غزو العراق للكويت العام 1990 مغادرا الى امريكا التي بقي فيها وحصل على المواطنة الامريكية ليرجع الى الاردن العام 1994 ويشارك زملاء له في تأسيس جامعة آل البيت التي كانت لها ميزات خاصة ومعينة وقد حكى لي عن جهوده البالغة في تأسيس المجلس العلمي وارساء تقاليده الاكاديمية رفقة زملاء اكفاء له واستقال منها العام 1998 ليعمل عميدا في جامعة عمان الاهلية .. ولا ادري اين هو اليوم وقد سمعت انه في مكان ما من الخليج العربي !

منهج متميز في التربية المعاصرة
ذكر لي انه أسس تأسيسا علميا رائعا في جامعة الكويت بحيث نجح في ان يضع موضع التطبيق كثيرا من افكاره التربوية فلسفة وطريقة . وكان أبرز اعماله التطويرية والتطبيقية عمله مع لفيف من إخوانه الجامعيين الكويتيين الطلائعيين والعرب الاخرين على تحويل جامعة الكويت الى نظام المقررات ( = الكورسات ) او نظام الساعات المعتمدة العام 1974 ، فكان ذلك عملا علميا انقلابيا رائدا في منطقة الخليج العربي . وفي الكويت ايضا التي يعشقها عشقا غريبا لما وجده فيها من الالفة والمحبة والامان ، تفرغ الرجل للتفكير المتعمق في اشكاليات التربية العربية المعاصرة ، فوضع وألف سلسلة من الكتب الرصينة التي اصبحت مراجع اساسية يرجع الباحثون اليها في كثير من المجالات التربوية ، ومنها : التربية والتبدل الاجتماعي في الكويت والخليج العربي ، وكتاب : العرب والتربية والحضارة ، وكتاب : الاصول الاجتماعية والعقلانية للفكر التربوي العربي الاسلامي ، وكتاب : معركة الاختلاط في الكويت ، وكتاب : فلسفة التربية ومعضلة القصور الذاتي في التربية العربية المعاصرة ، وكتاب : الاصلاح الجامعي في الخليج العربي .. وغيرها من الاعمال الرصينة ، فضلا عن عشرات البحوث والدراسات التي نشرها في العديد من المجلات العلمية واعمال المؤتمرات والندوات الفكرية ..ولقد تأثر تأثرا بالغا بأستاذه العراقي العلامة الدكتور مّتي عقراوي وكان اول رئيس لجامعة بغداد عند تأسيسها ، وكان يبره جدا ويذكر خصاله العلمية العليا في ارساء دعائم الحياة الاكاديمية العراقية المعاصرة . ويمتاز محمد جواد رضا ليس بخبراته التربوية حسب ، بل انه يعد من المؤسسين العرب المحدثين لنمط جديد من الادب التربوي ، وهو يستنبط الافكار من واقعه ومن تفكير طلبته الجامعيين مباشرة محاولا تهشيم الحالة التقليدية المألوفة في الاعتماد على المراجع والكتب الاجنبية والعربية .. انه حقيقة قد كسر الحلقة المفرغة التقليدية العربية في الاستنساخ من الكتب والقائها على الطلبة ..
لقد نجح محمد جواد رضا ان يجعل من طلبته عقولا للتفكير لا موادا لتمرير المعلومات .. واعترف انا نفسي بأنني تعلمت من هذا الزميل الاقدم منهجا تربويا جديدا في عدم جعل الطلبة حقل تجارب لنظم ونصوص وافكار وخطابات ومعلومات .. تفعل بهم ما تشاء ويمضي الزمن وكأنهم خشب مسّندة لا يعرفون ولا يميزون ولا يحللون ولا يشخصون ولا يقيمون ولا يتكلمون .. نعم ، انها الطريقة العربية المعروفة والمنتشرة في كل اروقة الجامعات العربية لا تفعل شيئا سوى صب الاجيال في قوالب اسمنتية ، وليس للأستاذ الجامعي الا ان يقرأ في اوراقه او يخطب خطبته العصماء او يجهز على موضوعه بلغته السمجة وعاميته الجوفاء!! في حين يعتني منهج هذا الرجل على ان يكون طلبته بذاتهم منتجين اساسيين في العملية التربوية والتعليمية .. وللرجل تقنياته ومهاراته العليا التي لابد ان يستفيد منها كل الاساتذة من الجامعيين العرب الذين ليست لديهم خبرات عملية في التدريس ، اذ تكتفي جامعاتهم بشهاداتهم العليا فقط كي تجعلهم على رأس المسؤولية الاكاديمية من دون اية مؤهلات عملية .. وهذا واحد من الاسرار في تخلف جامعاتنا العربية التي تنفق عليها الملايين من دون اي منتج نوعي له حيويته وفاعليته .

لقاء في الغسق
سمعت بأن الصديق محمد جواد رضا قد وصل من الولايات المتحدة متوليا مسؤولية جديدة في جامعة عمّان الاهلية التي كان يترأسها الاخ الزميل الدكتور امين محمود، ولما اتصلت بالدكتور رضا تلفونيا فرح بي فرحا غامرا ودعاني برفقة عائلتي الصغيرة الى لقاء في بيته الكائن في قلب الجامعة ، فالتقينا هناك وكان في انتظارنا عند المساء ودخلنا في عمارة سكنية جديدة بنيت من الحجر الصلد وهناك امام شباك كبير يطل على فضاء مليء بالصخور اخذنا الاحاديث شتى في السياسة والمعرفة والحياة الاكاديمية العربية المعاصرة .. وكان متألما جدا من الاوضاع التي آلت اليها الامة وخصوصا العراق الذي قال بأنه لا يعرفه اليوم بعد مرور عقود على مغادرته اياه . حدثنا عن الكويت وكان قد رجع لتّوه من زيارة لها وكيف استقبله الناس فيها ذاكرين له جهوده الخيرة .. ثم تناول خدماته التأسيسية في ارساء نظام تعليمي في جامعة آل البيت بالأردن وكانت له عضويته في مجلس الجامعة وحدثني عن معاناته مع رئيس المجلس رئيس الجامعة وقت ذاك – كما قال لي – ، فخففت من ثقل تلك المعاناة .
ان اهم ما كان قد اكتشفه الرجل في جيل الشباب ومنذ هزيمة 1967 غياب ” المنطق المعرفي ” في ضبط تفكير الشباب الجامعي .. وبدأت تجاربه الاولى في جامعة بغداد ، وما هي الا شهور حتى وصل الكويت ليبدأ حياته التطبيقية هناك ومن خلال تكريس ظاهرة التقويم EVALUATION التي كانت غائبة ولم تزل في كافة مؤسساتنا التربوية العربية ! قال : انا لا اريد ان يكون الطلبة كما مهملا ليس له الا الاستماع والتثاؤب والتمطي والتلقي من دون معرفتي الاكيدة ان باستطاعته ان يتكلم ويجادل ويفحص ويقارن ويكتب ويحلل ..

افكاره في التحديث
كان محمد جواد رضا يؤمن بالعروبة ايمانا لا يتزعزع ، وكان يحمل فكرا سياسيا قوميا لا يحيد عنه ابدا مع اعتزازه بوطنه العراق بشكل كبير لا يبارى .. وكثيرا ما اخذنا الحوار طويلا حول مشكلات تاريخ العرب المعاصر والوحدة العربية والاشتراكية العربية ، فكنا نتفق ونختلف ، ولكن نستفيد من تبادل الرأي وتناغم الافكار واحتداد الجدل . يؤكد الرجل على ترسيخ عدة ركائز بنيوية من اجل تطوير الاجهزة التربوية في محيطنا العربي مستهدفا تأسيس التربية العلمية في عالم يستخف كثيرا وبشكل ظاهر بكل المواقف التجريبية ولا يهمه الا الخيالات واليوتوبيات .. ان افكار محمد جواد رضا تنادي بالتطبيقات العملية من اجل خلق البراهين والمهنية والتجريبية في الذهنية العربية منذ الصغر ، فضلا عن العمل على اتساع المدارك وبناء الوعي في المجتمعات التي تعتبر التعليم والمعرفة دليل صحة على نضوج الحياة فيها . انه ايضا يدعو الى تكريس النزعة العلمية بمعناها الموضوعي بديلا عن اية نزعات اخرى .. وهو يدعو الى اشاعة ثورة تربوية من اجل تغيير حقيقي في المناهج التربوية المعمول بها اليوم في المدارس والجامعات العربية . لقد سمعته يوما يقول في واحدة من محاضراته : ” نحن لا نستطيع مواجهة العالم بتربية ناقصة وتفكير مجزوء ضيق يفقدنا مزية كبرى من مزايا العصر .. انعكاس العالم في عقولنا وتأثيرنا فيه . ان كل انسان يريد ان يحيا في هذا العصر يحتاج الى نظرة واسعة شاملة كنظرة الطائر ، نظرة باشعاعات تمتد مئات الاميال كتلك التي يلقيها المرء من طائرة نفاثة تخلق في طبقات الجو العليا . كذلك يحتاج كل شخص الى نظرة ضيقة مدققة فاحصة كنظرة الدودة التي تنفذ في جوف الارض ولمئات الاقدام .. كتلك النظرة التي يلقيها الجيولوجي حين ينخّل الطبقات المتتالية من التربة التي تجلبها الى السطح حفارات النفط كلما غورت في باطن الارض .
ان هذا الجمع بين الشمول والتخصص ضرورة حياة في الازمنة الحديثة ، فمن دون الشمول سنبقى معزولين عن العالم ، ستظل تحليلاتنا لظواهره وأحداثه محلية وناقصة ومتعصبّة . ومن دون التخصيص سنجهل امكانياتنا بشريا وماديا . وباتحاد الشمول والتخصيص في تقويمنا للأشياء نضع انفسنا في المكان الطبيعي من العصر الذي نعيش فيه ونتلمس خطانا بين اممه وشعوبه بشكل افضل . ويوم ندرك هذه الغاية سننسلخ من الضعف الى القوة لأننا سنرفض آنئذ ان نكون ملايين من الاصفار الاجتماعية لنصبح ملايين من البشر . كم نحن اليوم بحاجة الى افكار الاستاذ الراحل محمد جواد رضا من اجل بناء اجيال عربية جديدة تؤمن بالعلم والتمدن من اجل التقدم .. كم نحن بحاجة ماسة الى رجال امثال ذلك الاستاذ التربوي المبدع والتعمق في مآثره التي اتمنى مخلصا الاستفادة منها في بناء المستقبل . انني لا انسى ابدا ما قدمّه لي من معلومات عن استاذه التربوي العراقي الشهير الدكتور متي عقراوي ، فضلا عن قراءته مسودات كتابي الذي خصصته عن تاريخ جامعة آل البيت في العراق .

واخيرا ، انادي بمؤسسات التربية والتعليم في كل دولنا العربية الاستفادة مما تركه لنا محمد جواد رضا من اعمال علمية ، كما واقترح على المؤسسات العراقية في هذه الميادين الاستفادة من خزين خبراته وتجاربه التربوية التطبيقية الى العراق ، فالعراق والعراقيون بحاجة ماسة هم الان الى ارساء مناهج جديدة للبدء بتحديث التربية والتعليم في العراق .. وان يحتفى به في العراق والكويت والاردن وكل الدول التي قدم خدماته لها ، وان تكون اعماله وافكاره وذكراه حافزا للأجيال الجديدة ، فهي بحاجة الى من يضعها على طريق السلامة والتقدم .

فصلة بايوغرافية .. كنت قد نشرتها منذ عشر سنوات في مؤسسة البيان ، والفصلة يتضمنها كتابي زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ ، وتنشر اليوم على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الأولى والثانية)

الحلقتان الاولى والثانية اولا : تاريخ نضالات أم صفحة خيانات ؟ 1/ مقدمة : أهداني …