الرئيسية / مقالات / الجمهورية المصرية الثانية والعبور الى المستقبل

الجمهورية المصرية الثانية والعبور الى المستقبل

لا يختلف اثنان على أن العرب افتتحوا زمناً جديداً مع نهاية العام 2010، من خلال إرهاصات سياسية وثورية قوية التأثير في العديد من أوطانهم، بحثا عن الديمقراطية والعدالة، بعد مخاض عسير عاشوه لثلاثين سنة مرت عليهم، شهدوا فيها مختلف البدائل المخزية، والتجارب الصعبة، والدكتاتوريات المخيفة والحكومات المستبدة. وكانت القوى السياسية قد تجددت على أيدي جيل جديد خرج إلى الحياة من قعر المآسي الاجتماعية والمشكلات الثقافية والاغترابات السياسية، وتمّ التعبير عن ذلك بوسائل شتى، بعد أن بقي الشارع السياسي صامتا لسنوات طوال، وهو يشهد واقعا يزداد فسادا يوما بعد آخر، ناهيكم عن انقسامات جديدة لم يألفها في الماضي، وقامت الثورات العربية التي انتظرها الجميع، من أجل طي صفحة جمهوريات القرن العشرين العسكرية، للبدء بتاريخ جديد وولادة جمهوريات عربية مدنية جديدة.
ولعل اهم ما يميز ثورات اليوم، هو البحث عن الديمقراطية بوسائل كانت محرمة أيام تلك الجمهوريات العسكرية والمرعبة! وبطبيعة الحال، فإن انتخاب رأس البلاد مهمة صعبة، إن لم يكن هناك زعيم قد أنجبته الأحداث.الزعامة غير الرئاسة وغير الإدارة، فهي تولد عفويا في مخاض الشعب، وتفرض شخصيتها باستقطابها وربما بانتخابها، ونحن اليوم لسنا في عصر زعامات، بل في زمن البحث عن كفاءة واضحة في إدارة البلاد وإعادة بناء المؤسسات، وخدمة الناس بحكم القدرة والنظافة والكفاءة في صنع القرار، والسير في طريق رسمته إرادة الشعب. ليس كل من قاد البلاد نجح في أن يكون قائدا، إنه بحاجة إلى مؤهلات، فربما أصبح زعيما بسحره للجماهير وجاذبيته لهم بلا قوة ولا بطش ولا سلاح ولا مال ولا تنكيل، ويبقى مزروعا في الضمائر.
الزعامة مختفية اليوم، ليس عند العرب وحدهم، بل في كل قسمات العالم. نحن اليوم أمام امتحانات عسيرة، فليس كلّ من يؤهله شعبه سيكون المثال الحقيقي للحكم، أو سيحقّق حلم شعبه. انتخابات الجزائر أبقت حكامها على سدة الحكم، والتجربة العراقية ولدت كسيحة في حاضنة أميركية وسرقها الآخرون، والخوف أن تفشل التجربة المصرية هي الأخرى، ولكنني متفائل بنجاحها، وتكمن هواجسي في ما ستؤول إليه الأمور بعد الانتخابات، وأعتقد أنها أهم انتخابات رئاسية عربية تحدث حتى الآن! لا أعرف حتى هذه اللحظة من سيختاره الشعب المصري رئيسا له، لكن تاريخا جديدا قد بدأ وبدأت مرحلة داخلية جديدة. كان المرشحون لرئاسة مصر 13 مرشحا، اختلفت أجندات بعضهم عن الآخر كثيرا، واندفع المصريون بقوة ولأول مرة على مدى يومين بعد ستين عاما، كي ينتخبوا رئيسا لهم ليخدمهم لأربع سنوات فقط، وبعد جيلين اثنين حكمهما أربعة رؤساء عسكريين! فهل ستعيش مصر في ظل رئيس مدني أم لا؟ وهل ستكون لمصر حياة سياسية جديدة تسود فيها الديمقراطية؟ وهل سينجح أي رئيس مصري منتخب في حكم مصر وإدارتها على نحو جديد يختلف عن أسلافه العسكريين؟
إن انتخاب رئيس مدني جديد خطوة تاريخية لانتصار الديمقراطية، ولكن المشكلة تكمن في تعريف الحكم المدني، والوعي بالمؤسسات المدنية، والإبقاء على الشرعية المدنية من دون أي تغيير لصالح ما يناقضها، وأخيرا الحفاظ على مكتسبات الثورة الشعبية وما طالبت به، لتحقيق ذلك من دون أي احتواء للثورة أو نحرها أو اقتناصها وسرقتها. دعوني ألتفت الآن إلى الرئيس الجديد، لنرى ما الذي سيفعله في تأسيس نظام الجمهورية الثانية: كيف سيتعامل مع إسرائيل التي لها معاهداتها مع مصر؟ كيف سيجد حلولا لمشكلات مصر السياسية والاجتماعية والمعيشية والخدمية وتحقيق العدالة والرفاهية والتقدم؟ كيف سيتعامل مع أنصار النظام القديم من طرف ومع إرادة الثوار من طرف آخر؟ أين ستكون مصر على عهده من الانقسام الطائفي والمذهبي الذي يجتاح كل المنطقة الآن؟ وكيف سيعيد دور مصر عربيا إلى الواجهة بثقلها وأدوارها؟
نعم، إن مصر تعد أهم دولة عربية، ومصيرها يهمّ كل العرب، فلا يمكن أن يؤتى برئيس مصري مخادع، لكي يبقى القديم على قدمه ويبقي على الفساد والفاسدين، ولا يخطو خطوات تاريخية من أجل التغيير واختزال ما فات من زمن. إن مصر وكل العرب بحاجة إلى ذلك الرجل المؤمن بالثورة والتغيير والتمدن ومحو الفساد، ولا بد أن يأتي من تسير سيرته النضالية في المعارضة متقدمة على تجربته السياسية في الحكم.. لا بد أن يأتي الرجل الذي يؤمن بأن مصر ينبغي أن تكون فاعلة في التاريخ.
إن عوامل نشوء الثورات كانت تنضج على مهل شديد في ظل استياء لا يوصف، وخصوصا من قبل الفئات الشعبية المسحوقة والعاطلة والهائمة والمهمشة والمتمردة والصامتة في عشوائياتها، وقد كرهت رؤساءها بشكل لا يصدق، بل وأصبح رئيس البلاد هو المدان رقم واحد، وهو الذي يتحمّل مسؤولية كل الخطايا التي يجنيها نظامه! ولم يكن الشعب بحاجة إلى ذكاء مفرط ليكتشف المعادلة الصعبة. بل وجدها واضحة تمام الوضوح، وهو يشهد يوميا من خلال الإعلام سلسلة جنايات يرتكبها هذا الحاكم أو ذاك، بل وبدأ يقارن بين زعماء عرب كانت لهم قيمتهم وأدوارهم التاريخية الناصعة، وبين حكام أقزام لا يهمهّم إلا السلطة والنفوذ والمال والقوة..
زعماء عرب كانوا مثالا للتجرّد والنظافة والقوّة السياسية والحكمة والمكانة الدولية، وبين مجرّد رؤساء لا يستقيم أمرهم إلا بمصادرة الحريّات وقمع الانتفاضات وقطع ألسنة المعارضين، بل وزادوا بأن ورثّوا الحكم أو كادوا لأطفالهم وأولادهم وبناتهم.. احتكروا السلطة العليا لعشرات السنين، ونسوا ماضيهم في ثكناتهم أو الأماكن التي تخرجّوا فيها.. كانوا جهلاء ولم يفهموا حركة التاريخ أبدا. فهل سيبدأ تاريخ عربي ومصري جديد، بولادة رؤساء تنتخبهم شعوبهم حسب الأصول، ويعيشون هموم أوطانهم؟ وهل ستبدأ مصر فعلا عهد الجمهوريات الثانية عربياً؟!
نشرت في البيان الاماراتية ، 29 مايو / ايار 2012 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …