الرئيسية / افكار / انحدار الاخلاق واستلاب التفكير

انحدار الاخلاق واستلاب التفكير

ابتليت مجتمعاتنا بنقيضين في التفكير.. ولقد سببت المخاضات الصعبة في بعض بلداننا منذ خمسين سنة باستفحال امراض نفسية ومجموعات من العقد التي قد لا يشعر بها الا من يرصدها، ويحلل تصرفات البعض واقوالهم وخطابهم وما يعكسه تفكيرهم، وما يتداعى عن مواقفهم.. يقولون لي: لقد قل الاسوياء في هذا الزمن.. وندرت رجاحة التفكير، وانهارت القيم وانحرف المجتمع.. بل ويغالى البعض في قوله: لقد انعدم التوازن، ولم يزل يغالى فيهما اولو التفكير الضيق، وما اكثرهم، اذ طار عقلهم، وتيبست احاسيسهم.. كانت التربية في المدارس والبيوت معا قبل خمسين سنة تشدد على التربية الاخلاقية، ويشدد المربون على حسن السلوك وكيفية التعامل وتعلىم اللباقة واللياقة والتعامل الرائع مع الاخرين.. ولكن انحدر ذلك كله عندما الغيت من قاموس التربية والتعلىم تلك المناهج واستعيض عنها بالتربية الوطنية فقط، وهي مجردة من قيم الانسان وجمالىات المجتمع.. ثم بدلوها الى التربية القومية، فكانت هناك سلسلة من الاكذوبات والشعارات الفارغة، وخلت من الاخلاقيات والسلوكيات عالية المستوى.

انحدار الاخلاقيات
لا ادري من اين هجمت السيئات من كل حدب وصوب، وانحدرت الاخلاقيات وانحرفت السلوكيات.. لقد تراكمت الاخطاء الى درجة لا يمكن معالجتها اجتماعيا.. ولما لم يعد القانون سيدا في المجتمع، فلقد ازدادت الفوضى ، وانتشرت العبثية في كل مكان.. ولم تعد البيوت ولا المدارس ورياض الاطفال تربي الاجيال الجديدة على القيم العالية والاخلاقيات السامية.. فضلا عما صنعته الانحرافات لدى السلطة، وعما فعلته الدولة بالمجتمع.. وما انتجته الظروف القاسية والحروب والحصارات والجوع والضنى.. لقد تغّير المجتمع العراقي بغير المجتمع الذي الفناه في القرن العشرين.. وضاعت الاساليب الرسمية واعراف المجتمع الاهلي بغياب القيم الحضرية وانقضاض الاعراف الهمجية والعادات السيئة .. لقد اندثرت تلك الوشائج الاجتماعية الرائعة في كل المجتمع سواء في المدن الكبيرة ام البلدات الصغيرة ام الارياف .. وهجمت كل الاوبئة والسيئات والاعراف البليدة واساليب التخلف.. هل جرى كل ذلك بمنأى عن الدولة؟ هل حدث كل ذلك من خلال سوء سياسات.؟ صحيح ان مجتمعنا لم يكن مجتمعا مثاليا، بل كان افضل بكثير مما هو عليه اليوم !

التعاليم الاولى .. اندثرت مع اهلها !
اذكر انهم كانوا يعلموننا ما الخطأ وما الصواب.. وكيف نتصرف في بيوتنا وفي خارجها .. وكيف يحترم الكبير ويعطف على الصغير.. وان مشينا في شارع لا يمكن التلفت او نأكل او نضحك .. وان اكلنا لا نعلس ولا يصدر عن افواهنا اي صوت.. وان جلسنا لا نقاطع غيرنا عندما يتكلم.. وان مشينا فمن العيب ان نبصق على رصيف، وان لا نتكلم ونحن نعلك.. وان تكلمنا فلا يمكن ان ترتفع اصواتنا.. وان دعانا احد لغداء او عشاء ، فمن الاصول ان لا نفتح بطوننا بلا اي حدود ، وكأننا لم نأكل من قبل ابدا ! وان دخلنا الى غرف آبائنا او حتى اخوتنا، فينبغي ان ندق على الابواب للاستئذان.. وان لا نرمي اي شيء في الشارع.. وان وجدنا اية زهرة، فلا يمكننا قطفها.. وان لا نعاكس اية فتاة، فهي بمثابة الاخت في المجتمع.. وان وجدنا امرأة او شيخا او عجوزا في باص الامانة، فلابد ان نفرغ مقاعدنا لهم.. وان شكرنا احد فلابد ان نبادره بكلمة العفو.. وان نبادل الكلمة الطيبة باطيب منها.. وان نكون امناء على الاسرار.. وان نساعد من يطلب منا المساعدة.. وان نعين الفقراء والمحتاجين، وان نحترم العمل والدوام وان نقدس المال العام، وان نؤدي الواجب الذي يلقى على عاتقنا.. وان نعتني بنظافة انفسنا وبلادنا واشجارنا .. كانوا يفتشون اظافرنا ويحاسبوننا على نظافة البستنا .. علمونا كيف نفرش اسناننا كل يوم وكيف نستقبل مناسباتنا واعيادنا .. علمونا ننام مبكرا لنصحو مبكرا .. علمونا قيمة اوطاننا وروعة لغتنا وامجاد ماضينا .. علمونا كيف نحترم العمل .. وان نكون صرحاء وطلقاء وامناء وصلحاء واوفياء واذكياء وان لا نعاند ولا نكابر ولا نكذب ولا نراوغ ولا نناور ولا نسرق ولا ولا.. الخ

استلاب التفكير بين الانبهار والاستهتار
ولعل ابرز من استلب التفكير في مجتمعاتنا هذا الذي ترافقه عقدة الخواجا،اذ يغالى جدا في تبني فكر معين والانغلاق على ثقافة اجنبية اوروبية ينبهر بها ولا يرى احسن او افضل منها في هذا الوجود.. اما نقيضه فتجده لا يرى ابعد من ارنبة انفه، بل وينظر الى الحياة بكل سذاجة وبلاهة في ظاهر الامر، ولكنه يخفي حقدا وكراهية لها ان الاثنين كنموذجين تزدحم بها مجتمعات الشرق الاوسط قاطبة ويطغيان بشكل كبير، وهما بحاجة الى تفكير نقدي معمّق والى نقاد عقلاء ومهرة لهم توازنهم وموضوعيتهم.. والمطلوب قرارات وصناعة بدائل تقدم الناقد، فالنقد عملة نادرة في حياتنا الىوم بفعل استلاب التفكير منذ خمسين سنة مضت.. ان حياتنا الفكرية والثقافية تكاد تكون مشلولة مع ركام من يمثلها بانعدام النقد والنوع والاستكشاف والابداع والعالمية..
من يحاول ان يعيد البناء عندنا لا يستطيع العيش في اوساط الذين لا عمل لهم الا كيل المديح وهز الرؤوس او يهرج باسم الشعارات السياسية وسط اقوام من المنافقين والكسالى والمعقدين وعديمي الاخلاق من المستهترين .. انه يعرفهم لا يقرأون ولا يهتمون ابدا وتجدهم يعلنون بكل صفاقة عن توزيع احكام بالجملة على هذا وذاك.. وغدا الضحية من يقول كلمة حق! نعم ، ان الضحية من لا يجامل على حساب مشاعر الاخرين! الشجاع هو الضحية دوما.. انه الذي يكشف ما استطاع من التزييفات التي تصل الى حد الجبن عند الاخرين من الذين يتربعون في اماكنهم ويوزعون احكامهم وسفاهاتهم!

التفكير الاعمى بين استلابين
المواطن الحقيقي من استطاع ان يعالج الاخطاء وينقد السلبيات ويواجه التحديات بكل جرأة ومضاء ودقة وصبر ويكتشف الحقائق ويعلنها من دون ان يلتفت الى هذا وذاك.. المواطن الحقيقي هو من يهتم بالقيم والاساليب المتمدنة، انه يؤسس على الاولى ويحترم الثانية.. وكم نجد من انهيارات تقابلتها معالجات، ولكن ان انتفى هذا العامل او المقصد، فثمة انحرافات ستحصل، وسيسود العبث ويغرق المجتمع بالفوضى وينطفئ الضوء الشاحب ويا للاسف الشديد..
تجد عقدة (الخواجا) ازاء الاخرين من الاجانب من جانب ، وتجد قضية الانغلاق مع ما يقوله ( الملالي ) من جانب آخر ! نعم ، انهما قضيتان ، بل عقدتان قد تمكنتا في اعماق هذه السيول العارمة من نخب ابناء المجتمع الجديد ، ليس عند الناس العاديين حسب، بل حتى عند من يسمون انفسهم باعضاء المجتمع الحيوي ونخب تصنف عناصرها بـ ” المثقفين “.. وعلى الرغم من تلك العقدة الخفية القديمة او هذه العقدة المستحدثة، فالكل يلعن الغرب ليل نهار ولا يميزون ابدا بين مجتمعات الغرب وسياسات دوله! كما ان البعض منا بات لا يميّز بين المعاني والتشيؤات ولا يعرف كيف ولدت مجتمعات معاصرة منتجة وذكية في عالم اليوم، وكل واحد منها له اخلاقياته وهي غير محسوبة على الغرب ابدا.. بل انها في اقصى الشرق البعيد ! ان الانبهار بالخواجات واوضاعهم ، قد اودى بالمجتمع الى انحرافات كبيرة .. وان الانغلاق والاستماع للملالي وخزعبلاتهم واكاذيبهم قد استلب هو الاخر التفكير السوي .. وبات مجتمعنا صورة كاريكاتيرية مضحكة ، او مسرحية هزلية مفضوحة .

الأطواق وزمن الانعزال
إن ما فرض على مجتمعاتنا المعاصرة منذ خمسين سنة من اطواق ايديولوجية ، وانشقاقات حزبية ، وانحرافات سلطوية ، وسطوات دكتاتورية ، وآثار حروب ، وانقسامات مذهبية ، وانفلاتات امنية ، وتقارير رقابية ، واساليب تكفيرية ، واحتلالات اجنبية عديدة قد زادت في خذلان العقل في مجتمعاتنا التي طوقتها الايديولوجيات المستوردة ، والشعارات الزائفة ، والمخيالات الرومانسية البليدة منذ اكثر من خمسين سنة ، وخصوصا بعد العام 1949 حتى غدا اليوم عند بدايات القرن الواحد والعشرين يخشى على نفسه من ظواهر لم تكن موجودة في ما مضى من الايام.. ومثلما عشّشت في النفوس والمشاعر الساخنة تعبيرات كالخيانة والرجعية والعمالة والتآمر والتواطؤ والانهزام والكفر والالحاد .. الخ في قواميس السلطات والكتاب والاعلاميين.. شاعت الىوم تعبيرات مثل التكفير والردة والضلالة والمروق والارهاب .. الخ وكلها تكشف عن وجوه تختفي وراء اقنعة ايديولوجيات سياسية هشة لا تقاوم هذا الواقع.. او انها تعيش وراء جدران السلطويات المتنوعة في كل من الدولة والمجتمع.. وحيث تبلورت للوجود نخب شابة جديدة من جيل جديد، فلقد ورثت الانماط نفسها والعادات ذاتها، ولكنها اليوم تعيش فراغا قاتلا بين واقع موبوء بكل الامراض السيئة وبين متغيرات صاعقة هي بمثابة صدمات قوية جدا. وعليه، فالمطلوب الانفتاح على حياة هذا العصر الجديد الذي لا يمكننا مقاومته ابدا، ولا يضحك على الناس من يقول بأنه سينعزل عن روح هذا العصر ، وهو لا يشعر بأن كل معطيات هذا العصر تحاصره وهو المستفيد منها اولا وآخرا.

هل من احتضان بدائل جديدة؟
هذا هو السؤال الحقيقي الذي لابد من الاجابة عليه مع طرح نوعية تلك البدائل، فالدنيا تمشي الى الامام ، ولا يمكن ارجاع القديم الى قدمه ابدا.. هل ستتوفر اكثر من ارادة اجتماعية جديدة في مجتمعاتنا تعلن بكل وضوح عن اجندة مستقبلية؟ هل من بداية لزمن تترسخ فيه التربويات عالية المستوى، وتشيع فيه النقدات الحقيقية ويتوفر فيه قدر من الحريات والجرأة والشجاعة .. وان تكون هي نفسها رقيبة لاعمالها؟ وليس معنى استخدام الحريات ان يتحول الناس الى لوحة سوريالية من المضحكات المبكيات كالتي تمارسها اليوم بعض القنوات الفضائية الفوضوية ، او العديد من اجهزتنا الاعلامية والثقافية بكل جهالة اعلامييها وتنطع ضيوفها.. بل وانها ليست الفوضى التي نشهدها اليوم في الشوارع ، بل انها المجالات التي يمارس فيها الانسان ما يراه وما يؤمن به وما يبدعه وما يقوله ضمن اطار القانون وضمن الاساليب الحضارية عالية المستوى .
ان المخفي كان اعظم في مجتمعاتنا التي لا يمكنها بعد اليوم ان تتأخر تحت وطأة اية عوامل مادية او سياسية او ايديولوجية . ان ابعاد الجيل المعاصر في مجتمعاتنا عن شحوبه يستلزم اساسا ان يبعد كل من المواطنين المتنوعين من ابناء النخب الحيوية عن السايكلوجيات والعادات السيئة الموروثة وان يكونوا ملتصقين حقيقيين بواقعهم المضني لا ببهرجة التلفزيونات والندوات او بخطابات ومواعظ المتخلفين ! على من يحمل رسالة شريفة وامينة باسم العراق واستعادة الوعي لدى كل ابنائه جميعا ان يبعد مشاعره عن روح الاحقاد والكراهية وعن الدهاليز المظلمة التي لم تجد النور ابدا.. عليه ان لا يجحد اعمال غيره من اقرانه.. وان يحترم الرأي الاخر ولا يبخس اية بضاعة كانت الا بعد فحصها وتبيان مثالبها.. وان تبتعد الناس عن التفكير السوقي والبضاعة الفاسدة والشعارات العتيقة.. علىهم الابتعاد عن العفرتة والابتذالية والمجونية والتكفيرية والممانعة والكوميديات الهزلية بعرف العقلاء.. وان يتخلصوا من الدعايات المجانية والتشهيرات السيئة والشتائم الكريهة واسالىب التعتيم على الصرحاء الطلقاء الاحرار من علماء ومختصين وادباء ومثقفين ومبدعين حقيقيين.. على هم التخلص من الببغاويات والتكرار والترديد واليات التقليد ناهيكم عن جلافة التفكير والادانة وعن سرقة الافكار والمجهودات عن الآخرين..

واخيرا ..
انني اذ اختتم هذا ” الخطاب ” النقدي ، فانني اتمنى تشريع ما يؤهل المجتمع نحو الاصلاح .. من اجل ان نستعيد النزعة البنائية والحضارية والمدنية التي لا سبيل للعراق الان ان يأخذ بالبدائل الجديدة والتربويات الجديدة والمناهج الجديدة والاخلاقيات الجديدة من اجل تقدمه وازدهاره .. وسوف لن ولم يتقدم ان بقي بعيدا عن الفضائل . وعليه ، فالواجب يحتم ان تتفوق الفضائل على الرذائل ، وان يتوقف الملالي اللعب بالسياسة ليكونوا كما خلقوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .. وان يحسن تقويم المعلمين وتحسين اداء المربين والمدرسين ان يغرسوا جميعا غرسا طيبا .. وقبلهم جميعا يستلزم من الاباء والامهات ان يحسنوا تربية اولادهم وارضاعهم كل المحاسن . فهل تعلمنا الدرس من كل ما حصل عبر خمسين سنة من النكوص والشحوب والذبول؟

نشرت في الصباح ، عمود ” مكاشفات عراقية ” ، 25 مايس / آيار 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com


شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …