الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / خلدون النقيب … وداعا !

خلدون النقيب … وداعا !

رحل عّنا فجأة قبل ايام ، الصديق الاستاذ الدكتور خلدون النقيب اثر سكتة قلبية حادة ، ففقدنا بغيابه عالما جليلا ، واستاذا قديرا ، ومفكرا مبدعا ، ومثقفا حقيقيا .. نعم ، لقد افتقدنا الى الابد ، انسانا وفيا لعلمه وامته وبلاده .. رحل عن عمر يناهز السبعين عاما ، ولكن هيئته وشكله يوحيان انه لم يزل في طور الشباب .. اذ كانت روحه مقبلة على الحياة .. كما وافتقدت الاكاديمية العربية احد ابرز رموزها ، اذ كان خلدون النقيب يعد ابرز رجال علم الاجتماع السياسي العرب المحدثين ، لما ابدعه وانتجه منذ ثلاثين عاما مضت .. خصوصا وانه امتلك فكرا معاصرا تجديديا ومثيرا ، فلقد كانت لآرائه وافكاره وتحليلاته وقعها الشديد على الاذهان العادية .. فأثار الرجل زوابع واشكاليات ومشكلات واسعة النطاق انعكست عليه ووقفت بالضد من حياته الاكاديمية ، وبقي صامدا بوجه الاعصار الذي استقبله ببرود شديد ، واجاب على كل التساؤلات ، وترك وراءه كل التخرصات ..

وقفة مبسطّة عند سيرته
ولد خلدون حسن النقيب عام 1941 في عائلة كريمة عاشت في الكويت ، واحبت وعشقت الكويت ، وكان اصلها كما هو معروف من العراق ، فهو من صلب السيد طالب النقيب الشخصية العراقية الشهيرة في مطلع القرن العشرين .. عاش خلدون وتعلّم في الكويت التي عشقها .. وحصل على درجة البكالوريوس في علم الاجتماع من جامعة القاهرة في عام 1963، والماجستير في علم النفس الاجتماعي من جامعة لويسفيل الأميركية عام 1969، ثم حصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة تكساس في الولايات المتحدة الاميركية عام 1976 .. وعاد الى الكويت ليعمل في جامعتها استاذا .. وأسس المجلة العربية للعلوم الانسانية وحوليات كلية الاداب ، والمجلة العربية للعلوم الاجتماعية ، واصدرها باللغة الانكليزية في لندن .. شغل العديد من المناصب الأكاديمية حيث ترأس بين عامي 1983 و1986 مجلة العلوم الاجتماعية ، وهي مجلة اكاديمية دورية اصيلة ، ثم شغل خلال الفترة ما بين 1986 و1988 منصب عميد كلية الآداب بالجامعة ، ثم عمل رئيسا لقسم علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية في جامعة الكويت خلال الفترة ما بين يوليو/تموز 1991 وسبتمبر/أيلول 1992 .

وكان دائم الزيارات للعديد من جامعات دول مجلس التعاون الخليجي ، مشاركا في مؤتمراتها ومحاضرا في اروقتها .. وانتخب مؤخرا رئيسا لمجلس ادارة المركز ( العربي ) للابحاث ودراسة السياسات في الدوحة بدولة قطر .. وقد نعاه الاخ الدكتور عزمي بشارة مدير المركز بقوله : ” كان النقيب باحثا وأستاذا رصينا مخلصا لمعايير البحث العلمي ولطلابه ومواطنا عربيا عروبيا ديمقراطيا ومتنورا، وأنتج من الأبحاث ما سوف يغني المكتبة العربية طويلا”.

التركة العلمية لصاحب منظور مختلف
ترك خلدون النقيب للمكتبة العربية العديد من المؤلفات المهمة ، ومن أبرزها كتاب “تأملات في فقه التخلف: العرب والغرب في عصر العولمة”، و”مفهوم الحكم والمثالية الجديدة”، و”مستقبل الفكر الاجتماعي العربي” و”مستقبل منطقة الخليج” و”جدلية الدولة والأمة” و ” بناء المجتمع العربي ” و ” العقلية التآمرية عند العرب ” و”القبلية والديمقراطية: الكويت نموذجاً” و”الدولة والمجتمع في الخليج والجزيرة العربية ( من منظور مختلف ) “، وكتاب : الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر ( دراسة بنائية مقارنة ) وغيرها ، ناهيكم عن تلك الابحاث والاوراق العلمية التي شارك بها في عدة مؤتمرات وندوات .. فضلا عن عدد من المؤلفات المشتركة والبحوث والدراسات والمقالات التي أثرت الساحة الفكرية والثقافية في كل المنطقة العربية ، وله في الانكليزية : التدرج الاجتماعي في بعض الاقطار العربية .
وكان الرجل وثيق الصلة بالعديد من مراكز البحوث والدراسات العربية ، وابرزها مركز دراسات الوحدة العربية الذي نشر العديد من اعماله في بيروت ، وشارك في عدد كبير من مؤتمراته وندواته مشاركة فعالة .. وكان ولم تزل بعض كتبه ومؤلفاته مثيرة للجدل ، بل ان كتابه الاول ” الدولة والمجتمع في الخليج والجزيرة العربية ” قد سبب له مشكلات كبرى جراء اجتهاداته وشجاعته في تشخيصاته وصراحته في التحليل والاستنتاجات ، انعكست جميعها على حياته ومناصبه الاكاديمية ، بل وحتى على ترقيته العلمية .. ودوما كان يقول : انا اكبر منها جميعا .
لقد نجح الفقيد الراحل خلدون النقيب في تقديم اطروحة فكرية مستقلة منذ قرابة ربع قرن ، وكان صادقا في تسميتها بـ ( منظور مختلف ) ، اذ استطيع القول بعجالة ، انه اول عالم اجتماع عربي نجح في تفكيك العلاقة التاريخية بين الامبريالية- كما اسماها- وبين القبلية في تكوين العلاقة بين الدولة والمجتمع في الجزيرة العربية ومنطقة الخليج ، وهو الذي آمن ايمانا راسخا ان روحا ناطقة قد تمكنت تاريخيا في منطقة الجزيرة العربية وامتدادها الطبيعي من وادي حضرموت الى وادي الفرات . يقول : ” واقصد بالروح الناطقة الكل الحضاري او النظرة الكلية الاجمالية للاشياء التي تتراكم عبر العصور ، مهيمنة بشكل خفي وظاهر على مسلكيات ونزوعات السكان ” .
لقد اعتنى كثيرا بالخليج والجزيرة العربية في اصدارات رائعة وتحليلية تدارس فيها الحالات الطبيعية والمجتمع في الخطة الامبريالية العظمى وعصر الامن البريطاني وانهيار الاقتصاد القديم والانتقال من الدولة الريعية الى الدولة التسلطية .. وتجدر الاشارة الى ان ترقيته الى الاستاذية قد تأخرت طويلا .. بسبب منظوره المختلف وآرائه الجريئة ! ثم عالج الدولة التسلطية ، ويخلص في العام 1987 الى ان الازمة القادمة قادمة ! وفي العام 1991 يقول في الكتاب الذي نشره بعد انفجار الازمة : ” لقد كانت ازمة الخليج لسنة 1990 ، ومن ثم حرب الخليج بأحداثها المأساوية الرهيبة شديدة الصلة بالظاهرة التسلطية .. وانها لتبعة تاريخية على من يتصدى لمحاولة فهم المجتمع العربي المعاصر وتفسيره ” .
لقد شغل نفسه في التسعينيات بتفسير ظاهرة التخلف الحضاري في مجتمعاتنا العربية ، وتدارس ايضا مفهوم الحكم بين الواقعية والمثالية واعطانا تفسيرات جد مهمة من خلال معرفته العلمية بواقع تلك المجتمعات وطبيعة الدولة التسلطية التي حكمتها .. ثم ينتقل الى الرؤية المستقبلية ليقدم لنا نظرته الى مستقبل الفكر الاجتماعي العربي .. وفي العام 1996 تباينت وجهات نظرنا نحن الاثنين عندما حاورت الرجل في الصحافة العربية ، اذ عقبت على مقال نشره بعنوان : هل هناك حقيقة في التاريخ ؟ وكان حوارا رائعا بيننا نحن الاثنين في الصحافة ، وخصوصا حول استخدام الرجل لمصطلح ” الامبريالية العثمانية ” عندما قرن الحكم العثماني بالاستعمار الغربي ، وقضايا التاريخ المرئي وخصوصيات المجتمعات العربية ..

خصاله وانسانيته : خلدون كما عرفته
عرفت الرجل منذ اكثر من ثلاثين سنة عندما التقيت به لأول مرة في لندن .. وجدته باحثا نشيطا لا يكّل ولا يتعب في قضائه الساعات الطوال منكبا على عمله .. ثم توثقت عرى صداقتنا في لقاءات عدة في بريطانيا وبيروت والقاهرة والامارات .. كان مثال الصديق المخلص الذي ما يثق بالذي يتعامل معه حتى يمنحه محبته واحترامه .. وكان بسيطا في معاملته لا تجد معه كلفة ولا صعوبة .. يتلقى الرأي برحابة صدر ولكنه لا يستطيع ان يتحمل اولئك المنغلقون على انفسهم .. وجدته صريحا في قول ما يؤمن به ، ولا يقيم للحواجز والموانع اي دور فيصرح ما يعتقده دون خوف او خجل .. يؤمن ايمانا راسخا بعروبته ويدافع عنها دفاعا مستميتا ، ولكن من وجهة نظر حضارية ، فهو يؤمن بالتجديد والتمدن ايمانا عميقا .. ولا يعمل بالتوفيقية ولا بالتلفيق ولا بتبويس اللحى .. كان كريم اليد عزيز النفس ، ويبدو انه قد ورث خصال اهله من آل النقيب الكرام ، فهو سخي ولا تهمه المادة ابدا ، بل دوما يقول : المال وجد كي ننفقه لا نكتنزه ! كان انيقا على الدوام ، يقتني اشياؤه والبسته من افخر المحلات العالمية .. ويتحرر في كثير من الاحيان من ربطة العنق ، اذ يقول اشعر انها تخنقني ! كان يرتاد فنادق الدرجة الاولى وافخم المطاعم وله اطلاع كبير على انواع المأكولات ، اذ كان ذواقا من الدرجة الاولى ..
من جانب آخر ، كان يتعاطف مع المتألمين في العالم ، ويطالب بالعدالة دوما .. ويؤمن بالتغيير الحضاري ، كما يؤمن بأن الانسان العربي ليس انسانا ان لم يسع لبناء مستقبله . كان عقلانيا في عروبته ، وكان جريئا في انتقاد الزعماء العرب والانظمة العربية ، ولا يتورع من تسمية الاشياء والاسماء كلها باسمائها .. وجدته في ساعات عمله لا يعرف الا الجدية والصبر ، ويبغي ان يكون لوحده يتأمل طويلا ثم يكتب .. ووجدته في ساعات لهوه يهوى ان يكون مع اي جمع من الاصدقاء سواء في ناد او مطعم ام رحلة .. لم اجد احدا كمثله مريحا في السفر والصحبة ، اذ ينتزع القيود ويبحث عن حلو الحديث ورائع الكلام .. كان دوما يتفقد اصدقاؤه من خلال الموبايل حتى وان كان الصديق في اقصى الارض .. واكثر ما يزعجه الاغبياء وركام المتخلفين الذين ينتقدهم نقدا مريرا .. لا يهتم ابدا لخصومه وما اكثرهم ، وكثيرا ما يقول : دعهم ينبحون ، فعندما لا ترد عليهم يسكتون ! كان يهاجم التقاليد البالية ، ولا يريد ابدا ان يجادل الجهلة والحمقى ..
وكنت اسمع كم يحبه طلبته ويصغون الى ما يقول .. لم انس ابدا وقفته الانسانية معي لأكثر من مرة ، اذ كان وفيا لخدمة اسديتها له منذ ايام بريطانيا عند نهاية السبعينيات .. واخرى عندما اهديت له بعض الكتب والوثائق التي كان يحتاجها ليكمل بها توثيق مادة كتاب له عام 1991.. ضاعت اصوله في الكويت بعد اجتياحها وغزوها عام 1990 .. وفي ايام تلك الازمة القاتلة كان مزمجرا غاضبا لما حدث .. ولما يغيب عني ، كنت اسأل عنه دوما الصديق الدكتور فيصل الكندري فيخبرني اخباره بحلوها ومرّها .. كان يعاني ( رحمه الله ) من بعض المشاكل الصحية ، ويداوم على ادويته .. ويبدو ان القدر كان له في المرصاد ليختطفه من بين اهله واصدقائه وطلبته وكل معارفه ..

واخيرا .. وليس آخرا
لقد فقدت الامة العربية كلها برحيله انسانا رائعا ، ومفكرا قديرا ، وصديقا وفيا في زمن اختفى فيه معظم الرائعين ، وندر منه كل المجددين ، وقلّ فيه عدد المبدعين .. دعونا نذرف دمعة حزن على فقد خلدون النقيب رجل المبادئ ، غمره الله برحمته الواسعة وجزاه عن اعماله الرائعة خير الجزاء ، والهم كل اهله وذويه واصدقائه الصبر الجميل .

نشرت في ايلاف ، 5 آيار / مايو 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …