الرئيسية / الشأن العراقي / هل يعيش العراق بلا خونة ؟

هل يعيش العراق بلا خونة ؟

هل استطاع العراق أن يبقى يوما واحدا بلا خونة ومتآمرين وأصنافا أخرى من السياسيين ؟؟ هل استطاع أي نظام حكم سياسي في العراق المعاصر ، أن يتخلّص من الخونة والمتآمرين ؟ يكاد هذا التعبير ( الخونة / الخيانة ) وما على شاكلته أن يشحن به ليس الساسة في العراق وحدهم ، بل يزدحم في كل حياة العراق الاجتماعية ، ويعد واحدا من الشواخص المخيفة في تفكير العراقيين السياسي والاجتماعي معا .. فتجد أي عراقي لا يثق بالعراقيين الآخرين ، بل يثق بغيرهم أكثر بكثير منهم .. ويتوضح أمامه ، أن غير العراقيين يثق بعضهم ببعضهم الآخر حتى وان اختلفوا وتباينت مواقفهم ، وعارض احدهم الآخر .. إذ يبقى أيا منهما مؤتمنا على سر خصمه أمام البعداء الآخرين .. ان العراقيين قد اعتادوا منذ مائة سنة على ترديد مصطلحات وتعابير ناشزة تثير القرف والاشمئزاز ، وهي تعكس بالضرورة مفاهيم يؤمنون بها حتما ، بل وتعكس أوضاعهم السايكلوجية في علاقاتهم بعضهم بالاخر ، او علاقتهم كمجتمع بالدولة التي تعد دوما في ذاكرتهم الشعبية ، نقمة عاتية وعدوا شريرا لابد من اتقاء شره بالتملق اليه علنا والطعن فيه سرا ..

قاموس الذاكرة السياسية العراقية
لقد شاع بين العراقيين ، وخصوصا في تعاطيهم للسياسة تعابير : الخونة والخائن والمتآمر والمؤامرة والمتآمرين .. إلى الرجعية وأعوان الاستعمار ، وأذناب الانكليز وعدو الله وعدوكم .. إلى العميل والعملاء والجيب العميل .. إلى الموتورين والوصوليين .. الى الإقطاعيين مصاصي دماء الفلاحين .. إلى الشعوبيين أعداء الأمة الى الشوفينيين العنصريين .. إلى البورجوازيين العفنيين والمعتوهين .. إلى الغدر والغادرين وشذاذ الافاق والافاقين والمأجورين والمرتزقة انتقالا الى الكفار والملحدين والمارقين والمتصهينين والأشرار والأقزام والحاقدين .. وصولا إلى الروافض والنواصب والمشعوذين والدجالين والطائفيين والارهابيين والتكفيريين .. وقد تزداد اللغة قبحا بالقلم العريض لوصف المعارضين والمخالفين بالتافهين والمجانين والقذرين وبالسفلة والقوادين وأولاد الزنا وأبناء العواهر وأولاد الشوارع .. الخ كلها استخدمت من خلال ساسة عراقيين حكاما ومحكومين .. قادة ومتحزبين وضباط أحرار وانقلابيين ورجال دين وإعلاميين .. ولم يقتصر استخدامها في بيانات ومحاكمات واجتماعات وخطابات وشعارات وكتابات وصحف ومجلات وإذاعات .. بل وجرى استخدامها في اللغة المحكية في المقاهي والحانات والمدارس والجامعات والنوادي والنقابات وساحات الاجتماعات بين الناس ، بل وحتى في التعليقات الإذاعية او الحوارات التلفزيونية .. ويصل الأمر إلى المستوى الشخصي ليقال عن الباشا ( قندرة ) وعلى البيك ( قيطانه ) ، ويطلق على الزعيم ( همشري ) ، وعلى المشير ( حاجي مشن ) ، وعلى رئيس وزرائه ( سفن أب ) وعلى الفريق ( النعجة ) ، وعلى رئيس آخر ( ابو الهايشة ) ، وعلى السيد النائب ( ابو الثلج ) ، وسخر من رئيس عربي فلقبوه بـ ( الخفيف ) واطلق على أحدهم اليوم بـ ( القصاخون ) .. الخ
لا يمكننا أن ننفي وجودها باعتبارها مجرد تعابير تقال ، ولكنها حتى وان لم يكن لبعضها أية مصداقية ، فهي تعبر عن وجود لها في الذاكرة الشعبية العراقية سياسيا أم اجتماعيا .. وسواء تأخذنا العزة بالإثم لنفيها عن هذا دون ذاك ، أو تكريسها لأولئك دون هؤلاء ، فان الخيانة والتآمر والتمرد والغدر والشماتة والعمالة والارتزاق والمأجورية .. موجودة كلها واقعيا ، وهي امتداد لما ازدحم به تاريخنا العراقي المعاصر من مشاهد مخزية تماما !
كيف ؟

شواهد حقيقية من الذاكرة التاريخية العراقية
لعل اكبر عراقي لطخت سمعته في الوحل كونه ابرز محتال وعميل ورجعي ومتآمر هو نوري باشا السعيد الذي كان يعترف للعالم علنا وعلى رؤوس الأشهاد ، انه يمتلك أقوى علاقة مع البريطانيين لأهداف يؤمن بها ، ولكن الرجل دفع الثمن غاليا .. بحيث مزقّت جثته إربا إربا وسحقت عظامه في شوارع بغداد الملتهبة ، ولم تزل الذاكرة العراقية السياسية لا الاجتماعية تحمل صورة مشوهّة عنه من دون مقارنته بالآخرين الذين تعاملوا مع دول وأجهزة مخابرات أجنبية ، وما زال بعضهم يتعامل مع الأمريكان في ظل معاهدة رسمية .. فماذا جرى بين الأمس واليوم بين زعماء عراقيين يتعاملون مع البريطانيين وبين زعماء آخرين يتعاملون مع الاميركان ؟ وزعيم يعترف الجميع بوطنيته ولكن ثمة من يعتبره خائنا ، وثمة من صبّ عليه جام الغضب ليوصف بالمجنون والشعوبي وأبو الجنيات وقاسم العراق !! ولا احد ينكر أن نائبه كان مندفعا بحيث ما أن ينفرد هذا النائب بالرئيس عبد الناصر بعد أيام من نجاح الحركة ، حتى يخون الأمانة ويطعن بصديقه طعنة نجلاء ، وكان الاثنان قد اشتركا بصنع حدث تاريخي مهم ! ولا احد ينكر أن يقوم احد الضباط المرافقين لرئيس الوزراء نوري السعيد بقتل سيده علنا في الشارع ! ولا احد ينكر أن رئيسا للوزراء ما أن يجد رئيسه عبد السلام عارف غائبا حتى يخون الأمانة ليجري انقلابا عسكريا فيفشل ! ولا احد ينكر أن يقوم أحد الرؤساء العراقيين العسكريين بإصدار الأوامر لتعذيب زملائه في الجيش ورفاقه في قيادة سياسية تعذيبا تقشعر منه الأبدان حتى الموت ! ولا احد ينكر أن يقوم قادة حزب تقدمي عريق بالتحالف مع سلطة جائرة ، كان قد جرى بينهما نهرا من الدماء ليأتلفوا في ” جبهة ” ، فيتنكر احدهما للآخر ويخون العهود والمواثيق ويبدأ بتصفيتهم وتشريدهم ! ولا احد ينكر أن يتصدر المشهد العراقي رجلا ما أن يصل إلى الموقع الأول في الحزب والدولة ، حتى يغدر بكل رفاقه ويأمر بتعذيبهم وتقتيلهم شر قتلة بايدي رفاقهم ! ولا احد ينكر كيف تمت تصفية العديد من الساسة العراقيين في داخل العراق وخارجه بتهمة التآمر ! ولا احد ينكر أن رفاقا في حزب أسموه بالواحد والقائد .. ما أن يرحل عن الحكم ، حتى يقفز العديد منهم إلى الصوب الآخر ، ليصفقوا للجوقة الجديدة ، فمن يضمن هؤلاء الذين خانوا حزبهم الطليعي ، الا يخونوا أحزابهم غير الطليعية ؟ كيف يمكننا أن نصدق اليوم ، أناسا حملهم إلى البرلمان تكتل معين ، أو اسم معين ، أو قائمة معينة وقبلهم صاحبها كونهم من رفاق المسيرة العراقية ، فإذا بهم ينشقّون عنه ليؤسسوا حزبا آخر ، وهم ينكرون فضل من أوصلهم إلى قبة البرلمان ! كيف يمكننا أن نصدق أناسا من العراقيين ، ليس لهم أي مبادئ أخلاقية في التعامل مع الآخرين ، فهل ستكون لهم مصداقية في التعامل السياسي ؟

العناكب تأكل نفسها
يبدو ان مجتمعنا السياسي في العراق يشبه إلى حد كبير بيت عنكبوت ، ويمكنني تشبيه الساسة العراقيين بالعناكب ، فالمعروف ان العنكبوت ما ان يكبر حتى يأكل ابويه ! ان كانت بعض الصفات القبيحة التي كانت تطلق على الساسة والزعماء والقادة العراقيين جزافا ، فانها اليوم انما تطلق حقيقة واقعة ، ذلك ان المصالح الشخصية والأنانية الفردية قد طغت اليوم ويا للأسف الشديد على السلوك الوطني والحضاري والأخلاقي عند العديد من أعضاء الطبقة السياسية العراقية ، بحيث اثبتوا بما لا يقبل مجالا للشك ابدا ان المفاهيم والتعابير التي كانت تكال بلا حدود لها حقيقتها على الارض . ومن المؤلم ان لا يلتفت اليها احد حتى الان من العراقيين الذين لا يرون مستقبلهم ومستقبل العراق اليوم الا في هذه الطبقة الحاكمة .. الكذابون ينتشرون في كل مكان والمدافعون عن الباطل يمتدون في كل الزوايا ..
ان الادراك المتبادل بهذه الظاهرة العراقية التي لها شواهد وامثلة حية في تاريخنا نحن العراقيين ، ولم تأت غازية لنا من جهة استعمارية او طرف خارجي .. لا يأتي هذا ” الادراك ” الا بعد الوعي بالمعاني والأشياء جميعها في عموم المجتمع العراقي الذي ننتظر جميعا اصلاحه وترميم حياته السياسية من دون ان نلتفت قليلا الى ما يجري وراء الكواليس او امامها من مؤامرات ودسائس واتفاقات ومساومات وخيانات .. الخ تسود بين اعضاء الطبقة الحاكمة اليوم ، كما كانت عليه في ما مضى من العهود السياسية !

هل من علاجات لهذه المأساة ؟
ان علاجات هذه العلاقات والظواهر المدمرة لا تأت بسرعة البرق ، ولا يمكن ان يحلها مصباح علاء الدين يحمله اعضاء في طبقة حاكمة مقتنعة ان وجودها من اجل مصالحها الشخصية فقط لا غير ، وان كل ما نسمعه من شعارات وخطابات رنانة ما هي الا للتسويق الاعلامي واللعب بعواطف الناس وعقولهم .. سوف لن يكون باستطاعة اجيالنا القادمة فعل شيئ من الأشياء ان لم يصل الخيرون والنزهاء والعقلاء والصرحاء الى سدة حكم البلاد .. ويستعان بالخبراء والمستشارين الحقيقيين لا المزيفين من الكاذبين والدجالين لاصلاح كل مرافق الحياة العراقية .
وكما قلت في ردي على إحدى السيدات العراقيات الفاضلات وقد حاورتني في كلمة مني عن إبعاد المثقفين العراقيين وتهميشهم من قبل السلطات الحاكمة اليوم ، والمعتمدة على الجهلاء والنفعيين والوصوليين على اسس محاصصية غير وطنية ، قلت مجيبا : من المؤكد ان القضية برمتها واضحة وضوح الشمس .. وكما تزعجك يا سيدتي تلك الطغمة من المدعين والطفيليين والمقلدين والكذابين والوصوليين والنفعيين .. وهم كثيرون اليوم، فهم يزعجونني ايضا ونحن نعرف كم هم حملة الدكتوراه من الجهلاء اليوم يزدحمون في مؤسسات العراق ..
ان الامر لا يحتاج اليوم الى اسئلة كثيرة ، اذ اسألك بالله : لماذا انت وغيرك من مئات بل والاف المثقفين العراقيين تعيشين ويعيشون مغتربين عن العراق ؟ مئات المختصين ومئات الفنانين ومئات المبدعين من روائيين وادباء حقيقيين وعلماء واطباء ومهندسين وخبراء واقتصاديين ومحاسبين واداريين .. الخ لأنهم بقدر ما يمتنعوا عن مجادلة الجهلاء والمتكلسين ، فهم لا يقدرون البقاء في مجتمع يسيطر عليه الجهلاء المنتفعين الذين لن يأتوا لخدمة البلاد والعباد ، بل جاءوا لنهب الاخرين والمال العام .. قد نختلف مع بعضنا او يختلف المثقفون فيما بينهم سياسيا او اجتماعيا او فكريا او دينيا او مذهبيا او عرقيا .. فهذا لا يمت بصلة الى امكانية كل انسان ودوره في الحياة .. وقد يختلف المثقفون المستقلون فيما بينهم على قضايا وموضوعات وايديولوجيات ولكن يبقى كل واحد منهم معترف به وبدوره في المجتمع بعيدا عن ركام من يسمون بانصاف المثقفين او التابعين او الفوضويين او المدعين او مثقفي السلطة والمروجين لها وكلهم من المتآمرين والخونة والدجالين والوصوليين والمنتفعين .. علينا ان نعترف بأن صراع الطبقة الحاكمة اليوم في العراق ضد المثقفين كبارا او صغارا .. علينا ان نسأل : لماذا ؟ لماذا الحرب على المستقلين ؟ لماذا الحرب على المعارضين ؟ لماذا يصبح الجهلاء مستشارين ؟ لماذا لا نجد الانسان العراقي المناسب في مكانه المناسب ؟ لماذا يبقى العراق أسير جماعة ضباط موتورين ومهووسين ، او سجين حزبيين متطرفين وقمعيين وحاقدين ، او منفي بيد ملالي وملتحين ولابسي محابس جهلاء ونفعيين ؟
ان الخونة لم ينتهوا من العراق أبدا .. وستبقى الخيانات موجودة في كل الاوقات .. وسيدفع كل العراقيين اثمان باهضة جراء سلاسل الخيانات التي حصلت او التي تزحف الينا من بعيد أو قريب .. وما دام العراق ، بلدا مهما وله استراتيجيته وثرواته ومركزيته وكل تنوعاته .. فسيبقى مهددا بالخونة دوما !

وللحديث بقية في وقت آخر

نشرت في الجديدة 9 آذار / مارس 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …