الرئيسية / الشأن العراقي / ايها العراقيون .. كونوا بحجم وطنكم !

ايها العراقيون .. كونوا بحجم وطنكم !

الوطن اولا
كنت قد استخدمت هذا العنوان في مقال سابق لي نشر في العام 2003، وأود أستخدامه ثانية وانا اخاطب كل العراقيين.. وهم يمزعون التعبير عن مطاليبهم المشروعة والعادلة من الحكومة العراقية .. وكلنا يعلم ان التاريخ بطوله وعرضه يختزل اليوم عصارة من المكونات اللامتناهية التي بدأت في منطقتنا مع ولادة القرن الواحد والعشرين وعلى ارض العراق.. وكلنا يدرك ان العراق هو البلد الوحيد الذي دفع اثمانا سخية في هذا الوجود من اجل ان يبقى حرا ومستقلا وموحدا وهو يحتضن ابناءه وبناته كما كان منذ القدم. العراق، انه العنقاء التي ما ان تسحق حتى تتخلق من جديد برغم كل المخاطر والتحديات، وانني مؤمن بأن الله تعالى سيحفظ لنا وطننا في ما تعرّض له من هجمات وما سيصادفه من محن ربما لم ينلها أحد منذ الاف السنين في هذا الوجود.. وهو بجغرافيته المركزية لا يمكن ان تجد فيه الا عبقرية مكان لا حدود لها في هذا العالم.
ولا اعتقد بأن اي عراقي قد افتقد عاطفته المتوقدة واحاسيسه الجامحة، حتى وان ولد بعيدا عنه ولم يره ابدا.. لكنه يحمله في جينات موروثاته منذ الازل حتى عند الاف المهاجرين من يهود ومسلمين ومسيحيين غادروا وطنهم قبل عشرات السنين نتيجة لاوضاعه السياسية والاجتماعية الصعبة.
ودوما اقول بأن العراقي هو ابن جماعة ذكية جدا توطنت قبل الاف السنين في واد كله زرع وضرع وخيرات لا حدود لها ولكنها دوما من نصيب الاخرين ليبقى صاحبها كادحا وجائعا وحزينا وصلدا ومقهورا وصريعا في مواجهة اعتى الطغاة والطامعين .. اكتسب العراقي الوان بيئته المتنوعة واثرت فيه عواملها الجيوتاريخية الصعبة والقارية وتتنازعه بدائل الزمان وتوحده فضائل المكان وبرغم كل الغلظة والقساوة والعنف والتوحشات تستكشف من طرف آخر عالما انسانيا جميلا يترع بالعواطف والحنين والرهفة وكل الموجدات!

مناشدة من القلب
انك ان خرجت الى العالم لتعلن عن مطاليبك العادلة.. عليك بالمسالمة والمكاشفة.. عليك بامن البلاد والعباد .. عليك بالمؤسسات والاسواق .. عليك بالمتاحف ومراكز العلم والثقافة.. عليك الرأفة حتى بالاشجار والسيارات والعربات ووسائل النقل .. عليك بالمال العام واحرص على المال الخاص.. ان كل مؤسسات البلاد امانة في عنقك.. كن امينا على اهلك في بيوتهم ومزارعهم ومصالحهم.. قل ما تشاء ونادي على كل من تشاء.. وناشد كل المسؤولين ان يفعلوا شيئا من اجل العراق واهل العراق.. ولكن حاذر من الغلو والتطرف والاساءة .. حذار من استخدام النار او اشعال الحرائق او زرع الرعب في قلوب الناس.. اعلن عن شعاراتك بالوسائل الحضارية والسلمية، ولتكن شعاراتك محددة ومطاليبك كبيرة.. اعلم بأن هناك من يرصد كل العراق كي يزيده حطاما ويضفي عليه تدميرا ودمارا.. لا تمنح الفرصة لاعداء العراق المتربصين هنا او هناك كي يصفّوا حساباتهم السياسية والمذهبية والامنية على ارضك الطيبة.. لا تمنح الفرصة للمحتل ان يعبث بالعراق.. انا معك في كل خوالجك وآلامك.. انا معك في كل عذاباتك وما تحملته من الضيم والقساوة.. انا معك وانت تفتقد كل اسباب العيش والحياة الكريمة .. طالب بما تريد تحقيقه من حكومة ضعيفة لا تقوى على تحقيق امنياتك الكبيرة وطموحاتك اللا متناهية..

العراقي .. من يكون؟
اخي، لقد وصفوك باروع الكلمات وشتموك بأسوأ انواع الكلام مذ تجاذبتك اهوال التاريخ ومذ اسهمت في صناعة امم شتى قبل مئات السنين. وتعلم ان وطنك العراق يتسع لكل الاعماق اذ كان مهدا للبشرية البكر منذ عصور ما قبل التاريخ، على ضفاف نهريك الازليين استقر الانسان وعرف العالم بكل الاولويات: الزراعة والعائلة والجماعة والقرية واول مدينة وتنظيم ودولة وجيش.. انه مؤسس الكتابة والحروف والعجلات والزوارق والسفن من القصب عابرة للقارات! انه مؤسس امبراطوريات العالم القديم! انه مصدر القانون والتشريعات البشرية وفكرة العدل المدنية والعسكرية! انه منطلق كلكامش والاساطير والملاحم والغرائب والقصص الاولى في الثقافة العريقة للبشرية قاطبة، انه صاحب اولى الجنائن المعلقة والثيران المجنحة والحدائق الغناء واول من اعتنى بالالهة وبالمعابد وبالشمس والاشعار.. بالشجرة والنخلة والازهار ورمز عشتار.
انه بيت الاديان السماوية ومبعث ابو الانبياء ابراهيم (ع)، انه ملتقى العالم ومنتدى البشرية ومجمع القارات ومركز التجارة العالمية بمسالكه البرية والنهرية نحو البحار المركزية عند البصرة فينيسيا الشرق، انه دار الخلافة الاسلامية وموطن الفقهاء ومدارس العلماء والنحويين ومهوى شعراء ومذاهب المسلمين ومجمع الرحالة والجغرافيين الفلكيين .. الخ ومرت عليه القرون العجاف ليغدو ساحة صراع دموي مزمن بين القوى وصولا الى القرن العشرين لكي ينفض عنه كل غبار الماضي ويبدأ حياته دولة ومجتمعا جديدين، وشارك بنفسه في الحربين العالميتين الاولى والثانية، وعند منتصف القرن العشرين سجلت نخبه اروع لمنتجات في الثقافة والتشكيل والابداعات والمعمار، وغدا مدرسة سياسية معلمنة متنوعة ولدت فيه مختلف التيارات والاحزاب على ايدي نسوة ورجالات لهم قيمتهم وسمعتهم في العالم كله.. ودخل العراق مرحلة تاريخية جديدة عندما تزعمت بغداد حلفا اقليميا ليغدو دوليا استعماريا، ثم تحدث انعطافة تاريخية مهمة وتبدأ مرحلة الدكتاتوريات التي كثرت فيها الانقلابات الانقسامات والانشقاقات والتمردات والانسحاقات والحروب والحصارات.. فهل يسجل اليوم عند فاتحة القرن الواحد والعشرين منعطفا جديدا في التاريخ، ليس في الشرق الاوسط وحده بل في العالم اجمع! لقد استقطب انظار العالم كله خوفا عليه او شماتة فيه او استفادة من خيراته وثرواته! انه يتعرض اليوم لأصعب مخاض جديد من التحديات في حياته الطويلة.. فهل سيشهد متغيرات حاسمة يكون ثمنها غاليا جدا – لا سمح الله – ام انها تحولات ستجري بمنتهى الهدوء وهذا ما لم نألفه أبدا عند العراقيين الذين سحقتهم السنوات العجاف وكلهم يتطلعون الى ولادة جديدة ولكن من دون اية حرب يكون وقودها جمر وهام..

صرخة من الاعماق:
هنا.. دعوني انادي باعلى صوتي: ان ضميرنا الحي يطالبنا نحن العراقيين ان يكون عقلنا كبيرا وصدرنا واسعا وصبرنا لا حدود له .. انني اخاطب أخوتي وبني جلدتي منهم نظرا لأنني وجدتهم بحاجة الى اكثر من خطاب ونصيحة في هذه الايام المصيرية! اليوم نحن عند مفترق طريق صعب جدا في تاريخنا كعراقيين .. من يدري؟ ربما ستنقلب الموازين من عاليها الى سافلها او من سافلها الى عاليها.. ربما ستخرج العنقاء سالمة متعافية بعد ان تتغير كل الالوان والعناصر والمكونات التي افسدت علينا وجودنا .. وربما ستبقى ضحية هامدة سنوات طوال وقد نزفت دما ونضحت دموعا لا يمكن تخيلها بعد الخراب، ان غدا لناظره قريب، ولكن عليكم ان تتذكروا أخوتي كل ما مر بكم من المحن القاسية. عليكم ان تذكروا من وقف معكم ومن وقف ضدكم في الايام الصعبة واعلموا ايها العراقيون انكم مهما اختلفتم في ما بينكم فبيتكم واحد ومصيركم واحد ووجودكم واحد. ولا اعتقد ان صدمة اليوم سوف لا تعلّمكم شيئا بعد ان تغسل كل الاشياء وترجع المياه الى كل اوانيها المستطرقة وتتطهر كل ذرات التراب. لقد مرت بكم صدمات لا تعد ولا تحصى على امتداد القرن العشرين ولكنها لم تعلمكم الا النزر اليسير .. كنتم في قلب الدنيا وتوالت عليكم كل المآسي والالام وبشاعات اولئك الذين يتلذذون بمرآنا وتشتتنا او يتندرون بسماع اخبارنا وحروبنا .. كفاكم تنقسمون على انفسكم في مزيد من التشتتات السياسية وعليكم ان تكونوا بحجم بلادكم القارية.. عليكم ان تتعلموا بأن تنوعاتكم الخصبة هي اشياء جميلة لا يمتلكها الاخرون، عليكم ان يكون العراق عندكم اولا واخيرا.
انني أدعو صادقا ان يختزل العراقيون زمنهم ويقفزون فوق كل الذي خسروه من تاريخهم الحديث وشغل بالحرائق الكبرى وسحل البشر والانقلابات والصراعات والانشقاقات والمؤامرات والحروب السياسية، الاذاعية الباردة والساخنة والحصارات وسياسات العنف والاغتيالات وزراعة الطائفيات والعشائريات والممنوعات والفناء البطيء.. انهم بحاجة ماسة الى الحريات الحقيقية والاستقلالية الحقة والمعارضة الصريحة والرسمية.. والبرلمان القوي واصدار القوانين والتشريعات الكبرى.. لابد من اصلاح دستور وعدونا باصلاحه منذ ولادته العسيرة.. لابد من بدء برامج خدمية كبرى .. لابد من كهرباء لكل العراقيين منذ هذا اليوم.. لابد من ترجمة مطالب العراقيين الى فعل حقيقي على ارض الواقع بالاستجابة من قبل المسؤولين عن العراق.. ان العراقيين بحاجة الى الاستقرار والهدوء والعمل والقيم الجديدة واعلاء شأن النخب وتكافؤ الفرص وتوفير الحريات وتأمين حقوق الانسان من اجل بناء تاريخ جديد تنتفي فيه كل نوازع الرعب والاستلابات والانقسامات.. حياة جديدة تختلف جملة وتفصيلا عن كل مستنسخات الماضي بكل الامه واحزانه وبكل قساوته وفظاظته وبكل رداءته وبشاعته! ان العراقيين يفقهون جيدا خطورة اولئك الذين يقفون ضد مصالحهم من المسؤولين وما بينهم من الفاسدين والكسالى مهما كانوا ومن اي منبت وجدوا.. وليعلم كل العراقيين بأن هناك من يتكالب ضدهم من اجل ابقائهم منقسمين اولا ومن اجل خيراتهم وثرواتهم ثانيا.. وكأننا في سوق داعرة للمزايدات بين الدول كافة، ولا استثني منها احدا، لابد من تصفية مخلفات ما مضى واطفاء نار الفتنة وكل التعقيدات واطفاء المديونيات وآثار العدوان وكيفية التعامل مع الاخرين.

العراقيون .. ماذا يريدون؟
ان العراقيين بحاجة ماسة الى ان ينزعوا عنهم كل العباءات السوداء، وان تنهدم امامهم كل الجدران السامقة الفاحمة وان تذوى كل الرموز القاتمة والفاسدة والجاهلة.. ويحيون بحرياتهم ومنطلقاتهم.. ولابد ان يتحرروا من كل الممنوعات والمسكوتات وتموت كل العناصر التي صبغت حياتهم بالخوف حتى من نسمات الهواء، عليهم ان يتحرروا من ازدواجية التصرفات والاقاويل وثنائية الظنون وشيزوفرينيات التفكير نفسه.. لقد سحقت النفوس نتيجة الخوف والكبت والرعب القاتل.. ما يقولونه سرا في ما بينهم ليلا يمحونه جهارا امام الاخرين نهارا!! عليهم ان يتحرروا من اي وازع طائفي مقيت.
ان افجع ما يمكنني تخيله ان يبقى العراقيون يسمون انفسهم على اجندة طائفية، والمصيبة انهم ما كانوا هكذا قبل سنين، عليهم ان يحترموا فقط تنوعهم ويكونوا عقلاء في توزيع فسيفسائهم الرائعة في اسمى تصنيف لتكافؤ الفرص على نحو حضاري وسياسي معا.. عليهم ان يتقبل احدهم الاخر ويقبله مهما كانت افكاره ويصنفه على اساس العراق اولا واخيرا.. عليهم في الشتات ان يفكروا قليلا باخوتهم في الدواخل بعيدا عن كل الانوية والنرجسية والمكابرة والتشظيات العقيمة.
ان اولئك في دواخل الوطن الحبيب بحاجة ماسة اليوم الى الرخاء ورقي العيش والانفتاح على العالم والى المعرفة الجديدة وان تلبي الحكومة كل مطالب الشعب العراقي بدءا بتنظيف بغداد وكل المدن وان يتمتع كل عراقي بنور الكهرباء الوطنية ليل نهار وانتهاء بتنفيذ المشروعات الكبرى بالقضاء على الفساد والمحاصصة واصلاح الدستور.. الخ ان العراقيين بحاجة الى مستحدثات العصر وان يتآزروا بكل تنوعاتهم وتعددياتهم وان يجتمع ولاؤهم على رمز معين من اجل المستقبل !

نشرت في الصباح البغدادية ، الخميس 24 شباط / فبراير 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …