الرئيسية / افكار / أقفاصٌ لمْ تعدْ مقفلة!

أقفاصٌ لمْ تعدْ مقفلة!

يبدو واضحا أن كل شيء قد تغير اليوم ، أو انه في طريقه إلى التغيير ذلك لأن جملة من المفاهيم والقناعات وحتى المبادئ باتت في حكم اللا فعل واللا تفاعل وحكم اللاتأثير الذي ما كنا نلمسه قبل عقود من الزمن ، وخصوصا ذاك الذي شهدناه في القرن العشرين . إننا نرقب اليوم تأثير الرأي العام العالمي ، وقد بات معدوما على تغيير السياسات ، وتبديل القرارات وإسقاط الحكومات وهز العروش .. وان تأثير الدولة بات يفترس تأثير المجتمع خصوصا بعد التغييرات التي أصابت بنية النظام الدولي المعاصر بعد سقوط الاتحاد السوفييتي واضمحلال المنظومة الاشتراكية ، وتألب الإرادة الدولية بيد الولايات المتحدة الأمريكية التي غدت تستقطب عناصر القوة في العالم ، وبدأت تعلن عن عدة استراتيجيات لها من دون أية تفاصيل ، وهي تعتقد أنها راعية هذا العالم الفسيح بكل جغرافيته ونطاقاته الإقليمية وصولا للتأثير والهيمنة على كل المجالات الحيوية فيه اثر انقسام العالم إلى شمال وجنوب بعد تعثر سياسات الوفاق الدولي التي ولدت كسيحة على استحياء بعد أفول شبح الحرب الباردة وانقسام العالم وقت ذاك إلى شرق وغرب ضمن إطار الصراع بين كتلتين كبيرتين ، هما : الرأسمالية والاشتراكية .

من ثنائية الصراع الى الاستقطاب الاحادي
لقد انتهى ذلك التوازن الدولي الذي عرفناه على امتداد التاريخ الحديث وخصوصا في القرنين الماضيين : التاسع عشر والعشرين ، اثر مؤتمر فيينا عام 1815 أوروبيا مرورا بمؤتمر فرساي عام 1919 عالميا وصولا إلى استحواذ الولايات المتحدة الأمريكية على مقاليد النظام الدولي وهي تسعى منذ قرابة عشرين سنة ، وبكل قوة من اجل تغييره إلى نظام عالمي جديد ، والفرق واضح بين النظامين : الدولي والعالمي بعد انفتاح العالم وامتدادات ظاهرة العولمة في كل الاتجاهات . واليوم يمر عالمنا في مخاض صعب جدا من التغييرات الجذرية والتاريخية الكبرى التي ستؤثر في مفاصله كلها ، خصوصا عندما نعلم بأن سطوة الدولة القوية قد ازدادت وتفاقمت جدا بحكم قوة إمكاناتها وتضخم أرصدتها وتطور كل مرافقها ومؤسساتها وآلياتها ومنتجاتها واقتصاداتها التي شاركها فيه المجتمع جنبا إلى جنب في كل العمليات التي شهدناها في السنوات العشر الأخيرة ، ناهيكم عن صراع الدول القوية على المجالات الحيوية في العالم من اجل اثراء مصالحها في المستقبل . إن العديد من الزعماء والدبلوماسيين والمراقبين يشعرون فعلا بتلك التحولات ولكنهم لا يستطيعون قياس مخاطرها إلا على أنفسهم!

تاريخ جديد للعالم بدأ مع العام 2009
كنت قد نشرت عام 2004 مقالا عنوانه : العرب والآخرون : سيان بين نقيضين ، قلت فيه :
” كل هذا وذاك يعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك أن تاريخا جديدا قد بدأ وسيبدأ فعلا – في نظري- عام 2009 ، وما بعده بقليل ، أي اثر الاقتراب من نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين إذ سنلحظ اختلافا مباشرا عما ألفناه في القرن العشرين من التجارب والأحداث والتفاعلات والآثار والخطابات والعلاقات .. إنني أجد بأن إرادة الدولة غدت أقوى بكثير من تطلعات المجتمع الذي لم يزل يعتقد بأن صوته له تأثيره وفاعلياته في الحياة السياسية ، وهو على خطأ كبير في التقدير وخصوصا بعد مرور القرن العشرين الذي عاشت التكوينات والأحزاب والمؤسسات وكل النخب فيه مختلف البدائل التاريخية بولادة وظهور ثم تلاشي وموت العديد من الأيديولوجيات والعقائد السياسية التي كنستها اليوم عمليات ما اسمي بـ ” تغيير العالم ” . إذ غدا المهيمن على هذا العالم لا يسمع فيه إلا صوته ، ولا يعمل إلا من خلال ما يفرضه على الآخرين من التوجهات والأساليب والمناهج ” .
لقد بدا واضحا أن كل ما تعبت عليه ومن شأنه دول ومنظومات وتكوينات سياسية وعسكرية ممثلة بأحزاب وكتل وجيوش وجماعات وتحالفات وتراكيب .. فضلا عما تربت عليه الشعوب من قيم ومبادئ وطنية وقومية ودينية وقيم وظيفية ونقابية ومهنية .. ناهيكم عن أعراف وقوانين ومؤسسات ومنظومات وأجهزة .. كلها لا نفع أبدا فيها ، كما أنها لا قيمة لها ولا تتمتع بأي نوع من السيادة والكبرياء وشرف المواطنة .. لأنها غدت – كما تعتقد – جزءا من تقاليد الماضي التي تعتبرها ظاهرة العولمة اليوم بمثابة موروثات لا دور لها اليوم في ظل تغيير العالم المعاصر ، وغدت مجموعة القيم والأفكار السياسية والعقائدية لها من الخصوصية التي لا يرى العولميون الجدد أن الشعوب بحاجة إليها .. باستثناء العادات والتقاليد الاجتماعية والفولكلورية فهي جديرة بالانتشار إذا ما رغبت فيها شعوب أخرى . وعليه ، فان الفكر والتفكير السياسي هو غير الثقافة والفولكلوريات الاجتماعية .
هنا يمكننا القول ، ان كل ما يحدثه الآخرون في شوارعهم السياسية وخصوصا في أوروبا والولايات المتحدة ما هو إلا تعبير رافض للقيم والأفكار والمبادئ المستهلكة وليس بالتمام أنهم يعبرون بالضد من سياسات معينة تنتهجها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية كونهم ضد تلك السياسات ، وليس لأن الشارع السياسي غدا هكذا بسرعة ضد تدخلات الدولة الاقوى بشؤون الدول الصغرى ! ونحن بدورنا نسأل : لماذا سكت العالم كله طويلا ولمدة ثمان سنوات على أشرس حرب إقليمية بليدة ودموية ومريعة بين العراق وإيران أكلت الأخضر واليابس ذهب ضحيتها الآلاف من البشر ، حتى سماها البعض بـ ” الحرب المنسية ” ! ولماذا يخرجون اليوم في الشوارع ؟ إنهم ليسوا ضد أي حرب بشعة ، اذ لم يكن الضمير الإنساني ميتا مثلما هو اليوم ، بل لأنهم في حقيقة الأمر يختلفون مع السياسات الأمريكية .. وانا لا استثني العرب مما اقول !!!

لماذا يتحرك العالم متأخرا ؟ ولماذا لم يتململ العرب إلا في الرمق الأخير ؟
يبدو واضحا أن الفرق كبير بين الذي يتحقق في دواخل التكوينات السياسية وبين الذي يجري عبر المسافات البعيدة ! إن التحركات الشعبية أنواع عندما يتكلم الشارع السياسي ليعبر ليس عن وجوده ، بل عن مواقفه الإيجابية والسلبية ! وهناك ثمة تحركات تدين سياسات وأحكام وقرارات وخطابات .. وهناك تحركات شعبية وسياسية تنتفض في الشارع بل وتثور لتقلب كل الطاولات رأسا على عقب ! واعتقد بأن لم يعد للشارع السياسي ولا للتظاهرات أو الاحتجاجات تأثيرها في اتخاذ القرارات أو تنفيذ السياسات .. لقد ثارت الشوارع والحارات والميادين ، ولكن من دون اية خطط ولا أي طريق طويل تعرف ملامحه ولا أي منهاج عمل .. لقد فرغت الحياة العربية من القوى السياسية الحقيقية على حساب قوى إعلامية ، أكثرها بلا مصداقية ،، ففقدت الحريات السياسية طويلا ، وبات الإنسان ومجتمعه في واد وغدت الدولة وسلطاتها في واد آخر .. بل لم يعد القادة ولا الزعماء ولا الحكومات يهابون من حركة الشعوب أو يخشون من ثورة الجماهير .. أبدا ! ان مفاهيم جديدة اليوم تقول بان الشعوب لم يعد باستطاعتها أن تفعل شيئا ، إذا لم تجد هناك من يؤيدها من حكومات وصحف وإذاعات ومختلف الإعلاميات والفضائيات وشبكة المعلومات الدولية !
ولقد كانت للدول الكبرى والصغرى أدوارها في صناعة الرأي العام المؤيد والمخالف لها أو للآخرين وأن دولا وحكومات عدة اختفت وراء إعداد سيناريوهات متنوعة لتهييج الجماهير وتأليبها على أهداف معينة وضمن فبركة شعارات معينة من اجل خدمة أغراضها .. ففقدت الجماهير مصداقيتها واختفى تأثير الشارع السياسي المصطنع لإدانة هذا أو التصفيق لذاك ! وهذا ما نلمسه بوضوح في عدة بلدان عربية تختفي حكوماتها وأجهزتها الخاصة وراء كرنفاليات ومسيرات وتظاهرات لتسوقها إلى العالم باسم حريات التعبير.. ولكن بدأ العرب يتململون منذ العام 2009 لينطلقوا عام 2011 .. إنهم إن لم يحققوا أهدافهم وتطلعاتهم ، فإنهم قد كسروا الحواجز المنيعة بينهم وبين الدولة ، وبين مجتمعاتهم وبين السلطات التي هيمنت طويلا عليهم تحت مسميات وشعارات شتى .

السؤال الان : ما المطلوب عمله ؟
هل سيصدق العالم ما يقوله الشارع السياسي اليوم ؟ لقد كان الاتحاد السوفييتي سابقا هو أول من ابتدع هذا الجانب من السيناريوهات الجماهيرية في القرن العشرين ، ومن ثم تأثرت به الكتلة الاشتراكية والعالم الثالث عموما ! وعليه ، فان الأحزاب العربية التي كانت باركتها الحكومات الثورية العربية ، لم تعد تقوى على الحياة ، بل تبلورت مؤخرا حركات لقوى الشباب الذين يتطلعون لآفاق لم يشعر بها أبناء الأجيال السابقة .. وهي التي كانت وراء إعداد التظاهرات الضخمة التي تنطلق هنا أو هناك لتعبر عما يريده الشعب . وعليه ، فإنني أرى ونحن عند فاتحة القرن الواحد والعشرين ومن خلال رصد جملة من التغيرات الكبرى في الحياة السياسية العربية المعاصرة ، أن ليس هناك أي تأثير آني وسريع لكل الاحتجاجات المضادة لكلّ السلطات وأصحاب صناعة القرار السياسي ، بل أن تداعياتها وتأثيراتها ستكون كبيرة ! بل إنني أرى أن الجيل الجديد لابد ان يأخذ حقوقه بنفسه ، فهو جيل مختلف عما ألفه الزمن الماضي .. ان التغيير بات ضروريا ، بعد أن طالبنا منذ سنوات طوال بالإصلاح وتحديث المرافق وإعادة التفكير بالواقع وضرورات الحياة المدنية من خلال دساتير مدنية متطورة .. ان التغيير لابد ان يطال مؤسسات التعليم والتربية والثقافة لزرع وعي جديد بالضرورات والانطلاق نحو المستقبل ، وهذا ما تحتاجه المجتمعات العربية قاطبة ..

نشرت في جريدة الصباح البغدادية ( عمود مكاشفات عراقية ) ، 3 شباط / فبراير 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …