الرئيسية / مقالات / فساد الفئة الحاكمة وباء هذا العصر.. تونس .. رسالة من فوق الماء !

فساد الفئة الحاكمة وباء هذا العصر.. تونس .. رسالة من فوق الماء !

دشنت بدايات سنة 2011 ذروة الأحداث التاريخية في تونس التي لا يمكن مقارنة أوضاعها بأوضاع غيرها من البلدان المحيطة بها.. وكأنها تقول إن البادرة ستأتي من عندي هذه المرة عندما أحرق أحد التوانسة البائسين الذين يعانون من الوضع المعيشي والاقتصادي نفسه، كي يكون الحدث الفردي اندلاع شرارة من النار، راحت تمتد في الهشيم وبسرعة بالغة.. ولم تكن الأحداث مجرد تمرد شباب، أو عبثية أناس متسكعين في الشوارع كما وصفتهم السلطات لأول مرة، بل وجدنا أن الثائرين قد تلونت بيئاتهم ومناطقهم وأصنافهم.
إن أحداث تونس اليوم تمثل انفجارا ، كانت الجماهير بانتظاره، وهو فتح غير مخطط له أبدا ولا بمدروس البتة.. إنه يمثل بالفعل انفجارا شعبيا هادرا.. تبلور بسرعة فائقة بخروج الناس لمؤازرته نتيجة ما يشعرون به من سوء المعيشة ، وتعاظم البطالة ، والمرور بأزمات الحياة الصعبة التي لا أول لها ولا آخر.
إن كل الأسباب التي تفاقم خطرها لا يمكن أن تقارن أبدا مع حجم الفساد الذي أصاب الفئة الحاكمة، وهو وباء العصر الذي يتصف به أغلب الحكام والزعماء ومن يلتف حولهم من الحواشي والتابعين في بلاد ضعفت فيها المؤسسات الدستورية مقارنة بالزعماء القدماء الذين كانوا نزهاء ولم تمتد أياديهم إلي المال العام ولا إلى ثروات البلاد.. هنا علينا أن نسأل: هل كانت الانتفاضة التونسية ضد الفساد والفاسدين عموما.. أم ضد شخص الرئيس التونسي وعائلته؟ وعليه إن كانت ضد الفساد المستشري في الدولة، فليس تونس بأسوأ حالا من بقية البلدان العربية، بل وربما هناك عدة بلدان عربية أكثر تعاسة من تونس، ولكن بدا لي أن المسألة أكبر بكثير مما نتخيل.. إنها أكبر من تونس وأكبر من زعيم تونس.. إنها حركة إن كانت تائهة داخليا، فإنها تعبير عن انتهاء مرحلة، وانتهاء عهد.. بل وانتهاء تاريخ بدأ علي يد الزعيم الحبيب بورقيبة وانتهى مع هروب زين العابدين بن علي الذي لاذ بالفرار خشية من غضب شعبه الذي لم يكن هو نفسه يتصور أن تختم مرحلة تاريخية بهذه الصورة الدرامية.

نهاية تاريخ وليس نهاية وطن!
نعم، إن سقوط النظام في تونس يسجل حالة تاريخية فاصلة بين عهدين ، أو بين تاريخين ، أو بالأحرى بين زمنين.. لقد سقط نظام سياسي كان قد تأسس علي يد الحبيب بورقيبة منذ الاستقلال عام 1956 وكان لأكثر من نصف قرن يمثل تاريخا كان قد أعقب زمنا استعماريا مريرا، ناضل خلاله الشعب التونسي نضالا سياسيا حقيقيا، لتتشكل دولة باسم الجمهورية التونسية، وهي تحمل بقايا نظام الأسرة الحاكمة القديمة التي عرفت بالحسينية «نسبة إلي مؤسسة أغا الجند حسين بن علي الذي نصب بايا لتونس عام 1705» وبقي الحسينيون يحكمون تونس لتـاريخ يقـــدر بـ 250 ســنة، فغدت تونس على امتداد القرن العشرين في كل من الدولة والمجتمع، تضم بقايا موروثات وتقاليد سياسية واجتماعية لها خصوصيتها التاريخية..
ولعل من أهم ما كنت قد وجدته في دراستي لتاريخ تونس الحديث «راجع كتابي: تكوين العرب الحديث ، نشر عام 1991 ، صـ 248 – 252» أنها تملكتها نزعة وطنية بعد أن ذابت في المجتمع بقايا وجذور سكانية متنوعة في بوتقة واحدة كالعرب المدنيين والأمازيغ القدماء والموريسكيين الأندلسيين والفئات التركية وبعض المستوطنين المتوسطيين والأوروبيين.. وصولا إلى الجنوب حيث بقايا العرب الهلاليين والنازحين الأفارقة ، فاكتسبت تونس الحسينية شخصيتها الوطنية بين السواحل التي تعاملت مع العالم والدواخل القديمة، وكانت بحكم موقعها الجغرافي من أكثر البلدان المغاربية انفتاحا على عالم البحر المتوسط وأوروبا الجنوبية.. فكان أن تبلورت فيها منذ القرن التاسع عشر أولى النزعات التجديدية السياسية.. ولقد شكل عهد الأمان التونسي أول وثيقة عربية تنادي بالحقوق الدستورية قبل كل من مصر وإسطنبول، وإذا كانت كل من مصر وإسطنبول قد تشابهتا بالاعتماد على نخب تجديدية، فإن تونس تشابه إلى حد كبير لبنان بالاعتماد على زعماء مجددين إبان القرن التاسع عشر.
إن الحزب الدستوري في تونس كان له الفضل في القرن العشرين في تأسيس الجمهورية التونسية بعد أن خاض نضالا طويلا ضد الوجود الفرنسي، وتحقق الاستقلال لتونس بجهود نخبة وطنية وقف علي رأسها الزعيم الحبيب بورقيبة الذي منحه شعبه لقب «المجاهد الأكبر» ، وقد نجح في تجديد حزبه مستقطبا الحركة الوطنية ومنهيا عهد البايات الحسينيين التونسيين، ليغدو أسطورة بين أبناء شعبه وهو يطوف بمدنهم وقراهم.. وولدت على يديه الجمهورية التونسية التي بقي يتزعمها حتى أطاح به زين العابدين بن علي ليغدو هذا الرجل سيدا للبلاد منذ العام 1987 وحتى مغادرته ترابه مع بدايات 2011 مبقيا علي المبادئ الأولى التي زرعها بورقيبة مع تغيير في السياسات والأوجه وبعض عناصر التكوين الاجتماعي.

تونس في قلب العاصفة
إننا جميعا نعلم ،بأن تونس لا تقارن بجارتيها ليبيا أو الجزائر من ناحية الموارد الطبيعية، فهي تعتمد على مصادر صعبة من المدخولات، وأهمها السياحة والزراعة والإنتاج الصناعي.. ومع كل ذلك، فإن تونس تعد من بين الدول العصامية التي تعتمد على نفسها في كسب أرزاقها، فضلا عما اكتسبته من استقرار أمني وسياسي.. وأعتقد أن الانفجار الذي حدث هو تعبير عن نقمة شعبية من قبل الناس الذين تضرروا بسبب الغلاء والبطالة والحياة الصعبة وهم يجدون فسادا مقرونا بالقمع من قبل زعيم عشق السلطة.. إذا كانت هذه كلها قد مثلّت أسبابا تودي بالنظام السياسي خلال أيام بعد أن اندلعت ثورة شباب عارمة، فإن مسبباتها غير المباشرة كانت مختبئة وراء هذا الانفجار، ممثلا ذلك بالصراعات السياسية، وتشبث الرئيس الهارب بالسلطة ومحاولته لي بنود الدستور من أجل أن يبقي سنوات أطول فيها.. وعلي الرغم من كل الأسباب المباشرة والمسببات غير المباشرة، فإن ورقة زين العابدين كانت قد احترقت، وأن دوره قد انتهي عند هذه النقطة الفاصلة.. مع تصفيق الأغلبية، إذ لم يبك عليه أحد من أولئك الذين تضرروا كثيرا علي عهده، ولم يبق من مناصريه إلا قلة تعترف بإنجازاته، وفي مقدمتها: فرضه للأمن والنظام واستئصاله أي تيار أو جماعة مناوئة أو أصولية، فاتصف بالقمع والديكتاتورية.
إن من يقرأ سيرة زين العابدين بن علي المعروفة والخفية، سيجد نفسه أمام شخصية لها ألوان متضاربة وعلاقات خفية لا يعرفها أحد.. وكلنا يعرف كيف نجح في الوصول إلي السلطة من دون تغيير النظام، وبقي يحكم تونس علي مدي 23 سنة.. فالنظام السياسي في تونس كان آيلا للسقوط بفعل ظروف عدة متفاعلة في الدواخل المجتمعية.. من أكبر الاحتمالات أن ثمة تدخلات أجنبية في الشأن التونسي، لن يكشف عنها إلي حد الآن.. إذ لا يمكن أبدا أن تسجل الحوادث ضد مجهول، ونحن ندرك قوة الصراع الأمريكي والأوروبي في الاستحواذ علي النفوذ في كل المنطقة.. وكان الأجدر بفرنسا أن تستقبل الرجل الذي حلقت طائرته في سماء أوروبا، من دون أن تأخذ طريقها إلي السعودية لتحط هناك!

مدلولات رسالة إلي زعماء قدماء في زمن الفيس بوك
المهم، هل ستشكل أحداث تونس رسالة مهمة تسري إلي دول المنطقة من فوق الماء؟ ما تداعيات ما حدث علي تونس نفسها أولا وعلي محيطها ثانيا؟ إن عرفنا أن نستكشف الصورة التي ستتشكل لتونس بعد عهد زين العابدين وللمنطقة كلها، استطعنا أن نجد أجوبة حقيقية عن فحوي الرسالة التي أخذ يفهمها البعض فهما عميقا، خصوصا أنها كانت مفاجئة لهم، لتقول إن الأمور قد تتغير فجأة في أي مكان، وأن ما كان يحدث من أفعال وردود أفعال علي الأرض قبل عشر سنوات، هو غير ما يحدث اليوم! إذا كان شاه إيران قد أسقطته الكاسيتات قبل ثلاثين سنة، فإن بن علي تونس قد أسقطته ثورة الفيس بوك اليوم! وإذا كان سقوط زعيم كان يتأخر قليلا قبل جيل، فإنه اليوم قد يتأخر كثيرا بفعل ثورة الاتصالات.. كل هذا يدركه الآخرون من خلال أية رسالة تصل من فوق الماء، ولكن مما لا يدركونه عدة أشياء، يمكننا اختزالها بالآتي:
1/ إن العالم يتغير تغيرات بنيوية كبري، في حين أن عالمنا العربي والإقليمي يعيش سكونية قاتلة، فهو يسمع ويرى كل العالم وكل متغيراته ، في حين أن حياته هو نفسه ، تتراجع إلى الوراء من دون أي تغيير.
2/ لا يمكن للزعماء والقيادات في كل عالمينا العربي والإسلامي أن يبقوا أسرى منظورات قديمة كالتي أوصلتهم للسلطة قبل عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن، ولم يراعوا متغيرات العالم كله ! ومن دون ان يعملوا على تحديث مجتمعاتهم من خلال ترسيخ المؤسسات في دولهم .
3/ إن البعض لا يدرك أن المتغيرات غدت صعبة اليوم وليست كما كان الحال سابقا.. فقوة الشارع لم تعد تكتفي بالمظاهرات السلمية أو بالانقلابات العسكرية.. بل تطغي لغة المواجهات الصعبة وانتشار الفوضى وسفك الدماء. أو حرق الأجساد ، أو فعل أي مؤثرات صاعقة تتلقفها الإعلاميات السريعة بلمح البصر .
4/ من طرف آخر، أجد الكل يصفق لهكذا أحداث كونها انتفاضة أو ثورة كما وصفت ، لكي يبدأ عهد جديد يعتقد الجميع أنه سيكون بالضرورة مزدهرا وعظيما، من دون أية حسابات لتداعيات قاسية ستحدث، أو تسلق أي قوي مناوئة للحريات والديمقراطية لخطف النتائج أو سرقة الثمار ، أو الدخول في عالم مجهول لم يألفه الناس يذهب بعيدا بالبلاد وأهلها.
5/ إذا كان هروب الرئيس التونسي قد شكل تحولا أو منعطفا كبيرا في تاريخ تونس، فهو يعني أنه كان أكبر من كل المؤسسات، إن من في بلده مؤسسات قوية لا يخشي علي نفسه، ولكن، هل كان الرجل أسوأ الزعماء قاطبة؟ لقد وصف بشتى الصفات البشعة، ولكن ثمة زعماء، منهم من باع جنوب وطنه! وآخر باع شماله! وآخر اشتري زعامته بمليارات الدولارات! وآخر رقص علي سحق بلده وكل مؤسساته!! وآخر له علاقة راسخة بالموساد! وآخر لم يزل يعلس الحشائش! وآخرون يريدون إرجاع شعوبهم إلي حياة العصور الوسطى !
سؤالي الأخير: هل وصلت الرسالة من فوق الماء إلي من يهمه الأمر، وخصوصا إلي زعماء لم تعرف بلدانهم أية مؤسسات حقيقية؟ أعتقد أن ثمة إجابات تاريخية جديدة علي الأرض سنشهدها خلال المرحلة القادمة؟

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4311 – السبت الموافق – 22 يناير 2011
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …