الرئيسية / الشأن العراقي / كيف يشقّ العراقيون طريقا جديدا في التاريخ ؟

كيف يشقّ العراقيون طريقا جديدا في التاريخ ؟

نعم ، لابد ان يشارك كل العراقيين في بناء العراق الجديد في القرن الواحد والعشرين بعد كل ما تحقق من كوارث وخراب ودمار في كل جزيئاته . وعندي قناعة كبيرة بأن العراقيين وهم المسكونون بعذوبة العراق قد غادروا تاريخا مروعا تحملوا كل غرائبه وعجائبه ليستقبلوا مرحلة من نوع اخر .. نأمل من صميم اعماقنا ان تكون افضل بكل المقاييس من المراحل السابقة في القرن العشرين ، ولا اعتقد ابدا ان هناك شعبا قد عانى مثلهم ابدا وقد دخلوا اليوم تاريخا جديدا فاما ان يتشكّل بقوة وتسارع نحو تحقيق اي نوع من التقدم ، واما ان يخوض في اتون دوامة عسيرة ربما يتأخر خروجه منها سنوات طوال أو لن يخرج لا سمح الله !

مبادئ من اجل التحولات
كنت قد نشرت النص أعلاه منذ العام 2003 ، وقلته في أكثر من مكان .. واليوم استعيده من جديد ، إذ لابد من القول أن كل عراقي له وعيه وقوة التصاقه بالعراق واعتزازه بالعراقيين ، يشعر بأن تبدلا جذريا لابد أن يحصل للعراق والعراقيين .. كي يخرجوا من دوامتهم التي وجدوا أنفسهم فيها .. وأنهم لابد أن يسترجعوا أحلامهم التي راودتهم لازمان طوال ، ليعملوا على تحقيقها .. فضلا عن الأمنيات الجميلة التي تغّنت بها الأجيال .. إن علينا نحن العراقيين ان نخرج من حالة العجز او الشعور بالعجز إزاء ما نشهده من خطايا ترتكب ، او تجاوزات تحدث ، او جرائم وجنايات ترتكب .. ان الإنسان الجديد مطالب لأن يشكل حالة اندفاع للتصدي والبناء وسعي واضح لفهم ما أصاب العراق على مدى نصف قرن مضى بكل كوارثه ونكباته وحروبه وآثامه .. وذلك من اجل ان يغدو كل عراقي مسالما لنفسه أولا ومسالما للعراقيين من أبناء وطنه ثانيا .. وان يغدو السلم احد ابرز المبادئ الأساسية في التعايش بين الجميع على تراب واحد .. بعيدا عن أي عنفوان بين الجماعات والمدن والأعراق والطوائف والأديان والجهويات المتنوعة . ان هذا لا يتحقق أبدا ، إن لم يتغير الإنسان في العراق في سلوكه وتفكيره ووعيه وإدراكه المتبادل مع قوة شخصيته .. إذ أتمنى عليه أن يتبدّل من شخص مصفق بجنون ، ومنافق بلا حدود ، وارعن أحمق وخرف ضنين ومقلد كالببغاء وخائف كالنعجة ولائذ بالصمت والرهبة تلاحقه الهواجس المرعبة إلى إنسان جديد من نوع جديد له توازنه وثقله وتواضعه وتفكيره ومشروعه ورأيه وحريته وقيمه وتقبله للآخر واستيعابه لأي فكر واحترامه للآخرين .. إنسان لابد أن يشعر بأهمية العصر وضروراته .. إنسان يفكر بمستقبل العراق قبل ماضيه الصعب .. إنسان صريح قد تخلّص من كل التواءاته واختفاءاته وراء هذا او ذاك .. إنسان يعي أهمية الانسجام الاجتماعي بين كل عناصر النسيج العراقي .. إنسان يتخلص شيئا فشيئا من مركباته الذهنية التي تجعله أسير هذا او ذاك .. إنسان يجد ان مجتمعه بحاجة اليه في حاضرنا .. اذ يكفي أن الماضي سرقنا بكل طاقاتنا لازمان طوال !
ان الحاضر مليىء بكل المعاني والتشيؤات ، بل سيبقى ذاكرة مشتعلة متوهجة عن الماضي العقيم الذي يحفل بكل موبقات الحياة اليومية الصعبة ، وخلال مراحل عهود جائرة مضت تفنن قادتها وادواتها وأحزابها وتشكيلاتها .. وكل مناصريها وأصحابها ، باعتقال الحريات ، وتقييد الكلمة ، ووأد التفكير ، وارتهان الانفتاح ، واحتكار الإبداع ، وتهميش المثقفين ، وبناء اسيجة الممنوعات ، وتثبيت المحرمات ، وتسلط مركزية مثقفي السلطة الأغبياء وبشاعتهم ، وسماجة الإعلام في شراء الذمم والأصوات وتفاهة تقاليد الخطاب الرسمي الذي ليس له غير السذاجات والبدائيات والمؤدلجات والموعظات التافهة والاحاديات والخطابات الحاقدة والتمجيديات والمفاخرات والتشويهات والتربويات الهشة .. ولقد اضعف ذلك كله قيمة العراق في الثقافة الإنسانية ، وقلل كثيرا على امتداد السنين من قدرة العراق على إنتاج القوى البشرية الحية المشبعة بروح المغامرة ، ورفع مشعل الحرية أولا وبالكفاءة والإبداع والتألق ثانيا .. لقد كانت الحكومات المتعاقبة في العراق تعمل ويا للأسف على قهر الذهنيات وإبعاد الأذكياء وتهميش الكفاءات والمساهمة بالضعف المتزايد للقوة الحديثة واغتيال كل أشكال ومضامين التحديث السياسي والاجتماعي والثقافي ..

مشروع حضاري عراقي جديد
انه غير كاف ان نتحدث عاطفيا من دون معالجة كل ركام السلبيات والأخطاء والمثالب التي ابتلي بها العراق منذ نصف قرن وحتى يومنا هذا ، وكما خلفتها العهود السابقة .. إذ لابد من تعرية ماهيتها، من اجل مجابهة المستقبل بمشروع عراقي حضاري جديد لا يمكنه أن يبقى حبيساً لنظرة قومية شوفينية أو دينية متعصبة أو طائفية مجردة أو محلية ضيقة . إن العراقيين لهم خصوصياتهم الثقافية المبدعة والمدينية الاجتماعية الحضرية التي يشتركون بها منذ أزمان طويلة وسحيقة في القدم ويكتشف ذلك كل من يتفحص تواريخهم وآثارهم وكل من يقرأ أشعارهم ، وكل من يورد أمثالهم الشعبية وأزجالهم وكل من يمعن في سيرهم ، أو من ينقّب عن تقاليدهم أو من يستكشف تراثهم الخصب أو كل من يتعمق في فلوكلورياتهم وموسيقاهم ومقاماتهم .. أو كل من يستحضر مجالسهم ومقاهيهم ودواوينهم.. وفكاهاتهم ونكاتهم واقصوصاتهم ؟ أو حتى منتدياتهم وكابرياهاتهم وسينماواتهم وحفلاتهم .. وكل من يرجع إلى معارض فنونهم التشكيلية وإبداعات عمالقتهم في الرسم والنحت والكرافيك ..ومسارحهم وما أنجزوه على خشباتها من حداثة في النص ، وروعة في الأداء وتقنية الإخراج لفن القول ؟ ثم الكشف عن ثقافة في السرد والقص والمقال والنثر ؟ أتذكرون مطرباتهم في الأيام الخوالي ؟ فرقة الإنشاد وإبداعاتها ؟ والفرقة السيمفونية وجمالياتها ؟ جرائد ومجلات قديمة كانت مثيرة وغنية بأدبياتها المتنوعة ؟ من يتمكن أن يقف على أسرارهم من خلال لغة العيون التي يتحدثون بها من دون كشف تلك الأسرار التي يدركها العراقيون وهم أهل حسجة بتمكن واقتدار ؟؟ وهل من يعيد أمجاد أولئك العلماء والأدباء الأفذاذ الذين أسسوا ميادين العلم في مجمع وجامعات وكليات ومعاهد ومكتبات ومدارس ورياض أطفال ؟؟ وهم يعشقون السفر والسياحة في ربوع البلاد أو خارجها .. من اجل التناغم مع أبعاد العراق الجغرافية ، أو مع جغرافيات متنوعة في العالم ؟ وأجمل ما لدينا تنوعاتنا ، فمن ذا الذي يجهر بتلك العادات والتقاليد الثقافية التي تتميز بها كل بقعة عراقية معينة ملونة ؟

عناصر التقدم
اولا : الثقافة المدنية :
لتكن ثقافة العراقيين نموذجا منفتحا على كل العالم في الشرق والغرب ، ومن دون أن يتدخل أو يتطفل غير المدنيين ، وان يبتعد كل أصحاب التناقضات عن واقع الحياة الدنيا بكل أشكالها ومضامينها .. وان تفصل حياتنا العراقية عن كل ما يضّرها من عوامل التمزق والفتنة والخلاف ، فالمشتركات العراقية لابد أن تكون اكبر بكثير من المفارقات .. كي ننجح في خلق انسجام واضح بين العراقيين .. وان تلتزم الدولة بذلك ، وتغدو معبرة فقط عن روح المجتمع ونزعاته ومشكلاته وطموحاته ومضامين أطيافه .. الخ وان تغدو بعض الوزارات والمؤسسات محركات أساسية لهذا التوجه مثل وزارات التربية والثقافة والتعليم العالي وكل المؤسسات الإعلامية . لقد بقيت الدولة حتى اليوم بلا أي مشروع إيديولوجي وطني يجمع عليه كل العراقيين ليشق طريقا جديدا في التاريخ .. والخروج من عالم مشتت وضعيف وغير قادر على تجميع قواه الإبداعية في اتجاه سبل الحداثة والتقدم . كما وان الاضطراب واضح في رقاعه المختلفة وبالخصوص في العاصمة والمدن الرئيسية الكبرى والتي استرجعت حضوراً من اجترار الأحاديات والتراجعات الماضوية على حساب التطور الداخلي في الأعماق.
ثانيا: السياسة الاعلامية :
صحيح أن الثقافة الإعلامية العراقية قد خرجت بطريقة أو أخرى ونهائيا من أردية الدولة وسلطاتها الرسمية ، وغدت تتمتع بالحرية مقارنة بما كانت عليه على امتداد نصف قرن مضى ، ولكنها بحاجة إلى مضامين قوية ، وعناصر ثقل أساسية ، وإبداعات مبهرة .. لتكون حرة طليقة ضمن ثوابت أخلاقية وحضارية ومعرفية وقيمية عراقية خلاقة تسعى إلى البحث عن الحقائق من دون أن تتدخل في شؤون الآخرين وتكون لها حياديتها وشفافيتها خصوصا وان من سيقودها لابد ان يتمتع برؤية واضحة للأمور وان يكون بعيدا عن التقاليد الإعلامية العربية التي تسيطر اليوم على كل الفضاء الإخباري والتقريري والحواري العربي .. ومن هنا ، فان تأسيس هيئة عراقية إعلامية مستقلة مركزها العراق وتتوزع في كل أنحاء العالم سيقود بالضرورة إلى انجذاب الآخرين إليها والتأثر بأفكارها وتطبيقاتها من اجل مستقبل جديد يسعى لمنح الحريات لكل البشر الذين يقطنون هذا الذي يسمونه منذ خمسين سنة بـ ” الشرق الأوسط ” .
مطلوب من العراقيين الانفتاح المباشر على شبكة المعلومات الدولية من اجل المشاركة الحيوية والفاعلة فيها باللغة العربية والانكليزية وبعشرات بل بمئات وآلاف المواقع الالكترونية التي تخدم بالضرورة كل من الثقافتين العربية والبشرية ، خصوصا عندما نعلم بأن المضامين العربية المتخلفة هي التي تسود اليوم على شبكة المعلومات الدولية ( = الانترنيت ) باسم هذا الطرف أو ذاك وكلها مضامين تراجعية وتقليدية وماضوية وتافهة متخلفة عن سيرورة الحياة المعاصرة التي تتميز بالتقدم والتخصص والإبداع . واعتقد أن العراقيين أهلا لتلك السيرورة ، فإذا ما نجحوا في منتجاتهم على مدى ثلاثين سنة قادمة ، فان دورا رياديا سيكون لهم في الثقافة العربية وتحولاتها نحو الأفضل مقارنة بما هي عليه اليوم إذ تثوي اليوم في مراتع التقليد والسكونية والاستتباع والمتعة باجترار منتجات الماضي المتيبسة !
ثالثا : المناهج الدراسية للمدارس والجامعات :
إن من أهم متطلبات المرحلة القادمة في الثلاثين سنة الآتية ، العمل على تبديل كافة المناهج الدراسية العراقية وتحديثها كاملة في المدارس والجامعات بكل مراحلهما ، فلقد ازدحمت مضامينها القديمة المستهلكة كلها بأمثلة ونصوص وأقوال وأخبار وعبارات وفصول بليدة .. ولم يزل هذا الجانب بائسا في تخريج كوادر مشوهة .. وكم كنت أتمنى أن تبدأ ثورة التغيير في المناهج العراقية .. كي ينجح العراق في بدايات القرن الواحد والعشرين على صناعة الزمن القادم .. إن أهم ما يحتاجه هذا التغيير ، عناصر علمية عراقية قوية تقود ثورة التغيير .. وان لا تخضع كل هذه العملية لأي أجندة سياسية أو إيديولوجية .. لقد تحرر الاعلام في العراق من سجنه ، ولكن التربية والتعليم لم يزالا في أقبية وسراديب مظلمة !

وأخيرا : ماذا اقول ؟
أتمنى أن تتحقق الخطوات الأولى في هذه السنوات القادمة ، لتكون للعراق نهضته الحضارية الجديدة من خلال تجديد وسائله وعناصره الثقافية ومناهجه الدراسية ومؤسساته الثقافية وتحديث كل مرافقه الاجتماعية الحية. فيا أيها المسكونون بعذوبة العراق : هل من استجابة حقيقية لمثل هذه النداءات ؟ هل من تفعيل للمزيد من الرؤى ؟ إنني واثق بأن الثقافة العراقية ستساهم في المستقبل مساهمة فعالة في الحياة المعاصرة .. وستمتلك إرادتها في تنمية الثقافة العربية من اجل المستقبل .. ولكن لأي مشروع رجاله وعناصره وخططه ودراساته . فهل سمعنا او قرأنا شيئا حول ذلك . الجواب : كلا ويا للأسف الشديد !

نشرت في الصباح البغدادية تحت صفحة ( مكاشفات عراقية ) ، 19 كانون الثاني / يناير 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …