الرئيسية / الشأن العراقي / متى نحرق شهادات الدكتوراه في ساحة الفردوس ؟!

متى نحرق شهادات الدكتوراه في ساحة الفردوس ؟!


شهادة الدكتوراه : كيف حملناها ؟
كتب لي أحد الأصدقاء من بغداد رسالة مؤلمة جدا ردا على تعليق قرأه لي على صفحة التجمع الثقافي الذي يجمع نخبة عليا من المثقفين والعلماء العراقيين في الداخل والشتات ، وكنت انتقد بضراوة أولئك الذين جعلوا من أنفسهم أصحاب شهادات عليا في العراق ، وهم يتبارون ليس بتبادل ألقاب التفخيم والتعظيم فقط ، بل الكارثة أنهم راحوا يسّمون أنفسهم بـ ” دكاترة ” ، وما هم كذلك أبدا ولا هم يحزنون ! إذ قلت لنفسي ، وأنا اضرب كفا بكف : كيف تتساوى جهودي العلمية بدراستي العليا ، وإعدادي أطروحة على مدى سنوات طوال ، اتعب من اجلها تعبا بالغا ، وأدافع عنها دفاعا علميا مستميتا ، وأعيش سنوات طوال مغتربا وراء البحار ، وأنا أقرأ وأكتب وابحث وادقق وأفهرس وأحقق وأحاور وأدافع .. وأتحمل المشاق في حّر الصيف وقرّ الشتاء ، وأرى النجوم في عز الظهر ، مع شظف الحياة ، وسهر الليالي من اجل الامتحانات المضنية .. أتساءل: كيف أتساوى ومعي المئات من الزملاء الدكاترة الذين تعبوا حقا ، وافنوا زهرة شبابهم في الدراسة والتحصيل العلمي .. كيف نتساوى جميعا مع من أصبح يتنطع بهذا ” اللقب ” كذبا وحيلة ودجلا ورياء ، وقد منح لنفسه نفس هذا ” اللقب ” بلا أي عناء أو بلاء ، أو منح إياه من قبل المهرجين كما تمنح الحلوى للأطفال ؟ لقد ساء كل شيء في العراق ، ووصل الأمر حتى للشهادات العلمية التي يبدو أنها تباع وتشرى ، كما تباع وتشرى أية بضاعة في أسواق اللصوص والحرامية ، وخصوصا عندما تغدق إلى الذين لم يعد ينقصهم ، إلا أن يكونوا أصحاب شهادات علمية عليا بوزن الدكتوراه ، وهم لا يستطيعون فهم أبسط الأمور ، بل ولا يعرفون بديهيات المعرفة أو ألف باء التخصص ، أو القواعد العامة للمنهج ، أو حتى تركيب جملة مفيدة .. بل ولم يقرأ أيّا منهم كتابا واحدا في حياته !

المزوّرون الجدد
لقد أصبحنا أمام جوقة من الدكاترة العراقيين الجدد ، وبعضهم من المسؤولين والطفيليين وأصحاب رؤوس الأموال في العراق الجديد ، والناس تدرك تماما أنهم لا يخجلون أبدا ، إذ لا حياء لديهم .. ليس فقط عندما يشترون الدكتوراه من سوق الهرج والمرج أو من سوق مريدي وسوق الحرامية ! بل عندما يتداولون اللقب بلا حياء ولا خجل وقد أوهموا أنفسهم ، وكأنهم دكاترة فعلا . كنت أتابع برنامجا تلفزيونيا على إحدى القنوات الفضائية العراقية ، فكان مقدّم البرنامج يحادث ضيفه بلقب ( دكتور) ، وهذا الأخير يطلق على نفسه صفة ( خبير قانوني ) ونحن نعرف انه لم يحمل أية شهادة عليا ، ومع كل هذا وذاك ، فهو جالس وقد نفش ريشه مثل ديك هراتي ، كونه ( دكتورا ) أمام الناس من دون أن يعّلق مسرعا ليجيب محاوره انه ليس بحامل للدكتوراه !
هل ضاعت القيم والأخلاق إلى الدرجة التي يتبادل لقب (الدكتور) زعماء سياسيون عراقيون وبرفقتهم شيوخ وكتبة ومهرجون ووعاظ سلاطين ومن يسمون أنفسهم برجال أعمال طفيليين في ما بينهم في المجالس ، وأمام كاميرات التلفزيون ، ويعرض المشهد أمام ملايين الناس ؟ هل فقدوا غيرتهم عندما استحوذوا على كل شيء في العراق ، ولم يبق إلا أن يستحوذوا على ارفع لقب علمي لا يمكن البتة أن يتلقّب به من لا يمنح إياه رسميا .. بل وليس لهم الحق في التنطع به ، إن لم تعادل شهاداتهم وتقّوم أطروحاتهم تقويما في أعلى مؤسسة علمية في البلاد بعد توثيقها من مصادرها الأولى ؟؟ لا ادري كيف يحق لهم أن يتبادلوا الألقاب العلمية الرفيعة ، وهم يدركون أنهم ليسوا بعلماء ، ولا بباحثين ، ولا حتى بمثقفين عاديين ، وليس لهم أي جهد علمي ، ولا أي إبداع حقيقي ، ولا أية إضافة علمية إلى المعرفة ؟ رحم الله المئات من جهابذة العلماء والباحثين الذين اغنوا الثقافة العراقية والعربية والعالمية بأعمالهم الرائعة وإبداعاتهم الجديدة .. وكانوا يعتزوّن بأسمائهم فقط ، وما كانوا بدكاترة ولا تنطعوا باللقب زورا وبهتانا .. رحم الله زعماء ومسؤولين في العراق الملكي والجمهوري كانوا يحترمون هذه الألقاب وأصحابها ، ولم يتجرأ أحد منهم ، أن يطلق مثل هذا ” اللقب ” على نفسه ، أو يسمعه من الآخرين ، كي ينفش ريشه الملون وهو يجلس كالديك أمام عدسات التلفزيون ، أو في المحافل الرسمية والشعبية ، كما يجري في العراق اليوم !؟

احترموا الألقاب العلمية
إنهم لا تكفيهم ألقاب التفخيم والتعظيم التي منحوها لأنفسهم ، وهم يتبارون بها ليل نهار وهي لا تليق بهم أبدا .. وبعضهم أتمثل صورهم أقزاما في سيرك ، وهم بألبسة فضفاضة ، وقد ضاعوا في طواياها ! لقد جاءوا اليوم ، ومن دون أي حياء ليتلقبوا بالدكتوراه ؟ فبدوا أنهم محرومون وينقصهم الجاه ويشعرون بالنقص أمام الأكفاء ، وأمام العلماء ، وأمام المثقفين الحقيقيين.. إنهم يدركون أن الناس لم تكن تحترمهم طوال حياتهم ، فكيف ينبغي أن يكونوا سوبرمانات في كل المجالات ؟! أخبرت أن زعيما حزبيا كبيرا منحته مذيعة قناة فضائية قبل أشهر لقب ” الدكتور” ، وهي تخفي ابتسامة خبيثة ، فاخذ يرقص من الفرح في مكتبه ! وعلمت بأن زعيما حزبيا كبيرا آخر من حزب كبير ، أعدّ شهادة دكتوراه بثلاثة أشهر ، ليقوم عميد الكلية في الجامعة المستنصرية بدعوته إلى المنصة للمناقشة وهو يقول : يتفضل الأستاذ الطالب للمناقشة ! وسمعت أن بهلوانا آخر له موقع معيّن في الدولة ، يبرر أكذوبته كونه صاحب دكتوراه أحرزها بالانترنيت ! وشهدت أحدهم ، وهو مسؤول كبير يرشح مسؤول كبير آخر على منصة البرلمان ، ويطلق عليه ” دكتورا ” كون الأخير حصل على الدكتوراه قبل شهرين ، إذ تبرّع احدهم بها عليه هدية بإحدى المناسبات !
يعيش الناس في العراق ، مهزلة حقيقية عندما يستخدم هذا اللقب من دون وجه حق ، وهي اهانة حقيقية لكل من حمل هذا اللقب العلمي عن جدارة واستحقاق .. إن بعض الجامعات العراقية مدانة أمام كل العالم ، إن منحت زعماء وقادة من السياسيين أو مشايخ من الوعاظ والملالي ألقابا علمية رفيعة ..

اننا نرفض قراركم
لقد قرأت قبل يومين أن مجلس الوزراء الموقر في العراق ، قد اصدر قرارا يقضي بتشكيل لجنة لتقديم مقترحات بشأن العفو عن الموظفين الذين قاموا بتزوير شهادات ووثائق وتقدم مقترحاتها خلال أسبوعين !!!! وأعلن الناطق الرسمي باسم مجلس الوزراء أن المجلس قد أمر بتشكيل لجنة برئاسة المستشار القانوني وعضوية مدير الدائرة القانونية في الأمانة العامة وممثل عن وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى لتقديم مقترحات بشان العفو عن الموظفين الذين قاموا بتزوير الشهادات والوثائق وتقدم مقترحاتهم خلال أسبوعين! هنا أسأل : كيف يجرؤ مجلس الوزراء الموقر أن يصدر هكذا قرار يلتمس العفو رسميا وقانونيا بحق أناس مزورين لشهادات ووثائق ؟ إنني أطالب البرلمان العراقي أن يقوم بالتحقيق والمساءلة في هذه القضية التي لا يمكن السكوت عنها أبدا ! والمطلوب من مجلس الوزراء أن يقدّم توضيحا بهذا الشأن ، فلا يمكن أن يبقى بعد اليوم مزّور وغشاش وكذاب يحتل منصبا أو وظيفة في الدولة على حساب الأكفاء وأصحاب الشهادات الحقيقية . لا يمكن للفساد أن يبقى في العراق ولا يمكن أن يبقى في السلطة من يحمي هذا الفساد . ولا يمكن السكوت بعد اليوم على ما يرتكب جملة من آثام وجرائم بحق العراق والعراقيين .

دعوة الى ساحة الفردوس
إن أبواب الجامعات مفتوحة أمام الجميع ، ولكن شريطة تطبيق كل التعليمات الصارمة على الجميع من دون أية استثناءات ! كما ينبغي أن يطالب كل من يدّعي حمله الدكتوراه أن يثبت للعالم انه خضع لدراسات عليا وخاض امتحاناتها ، ودافع عن أطروحة علمية دفاعا علميا منح اللقب على أثرها ، بل وان يأتي بصورة المعادلة العلمية التي يعترف البلد به قانونيا انه حامل للشهادة واللقب معا . وعليه ، وردا على ما يحدث اليوم ، فإنني أدعو أيضا إلى أن يجتمع كل دكاترة العراق الحقيقيون لا المزيفّين ، والعلماء لا الكاذبين ، يجتمعون في ساحة الفردوس ، وترافقهم أطروحاتهم التي يعتزون بها اعتزازا كبيرا ، لترمى كلها في تلك الساحة الكبرى ، وتشعل فيها النار ، فتحترق وتصبح هباء منثورا ، وهو الرد الطبيعي على هؤلاء الأقزام الجدد الذين يسيئون لنا جميعا ، ويريدون أن يزايدوا على تاريخنا وإمكاناتنا وجهودنا واستحقاقاتنا وإبداعاتنا أمام هزالهم وضعفهم وهم يتشدقون أمام العامة أنهم دكاترة .. يريدون التنطع بألقابنا نحن ! فليس من العدالة والأخلاق أبدا أن يتساوى العلماء المتواضعين مع جوقة الكاذبين والمزورين المارقين ، وليس من القيم أن نسكت على هؤلاء ، ولم نوقفهم عند حدّهم ! إن كانت لديهم ذرة من الغيرة والحمّية أن يقدّموا اعتذارا لنا ولجميع الناس العراقيين .. فهم مدانون بتهمة شرف !

نشرت في الصباح البغدادية ، 23 ديسمبر / كانون الاول 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …