الرئيسية / افكار / انحدار قيم المعرفة والعِلم في دولنا ومجتمعاتنا !

انحدار قيم المعرفة والعِلم في دولنا ومجتمعاتنا !


مدخل فى العلل والأسباب
كنت قد نشرت مقالاً عن ” فوضى القيم في مجتمعاتنا ” قبل أشهر، ووعدت القراء الكرام، أنني سأكمل «الموضوع» في مقال قادم، وقد اخترت اليوم مقالتي كي أعالج من خلالها انحدار قيم المعرفة وضعف المستوى العلمي في مجتمعاتنا العربية، إن المعرفة قيمة إنسانية واجتماعية لا تقدّر بثمن، فكيف إذا افتقدت، أو تجدها كسيحة، وهى تترجم حالات عقيمة، ومضامين خاطئة، لقد هزلت المعرفة العربية تمامًا على أيدي أناس أخذوا يتطفلون على مجال العلم وهم بلا تخصص وبلا منهج وبلا أسلوب وبلا فكر.. بل تجد بعضهم بلا أية أخلاق عندما يريد فرض وصاياه على المختصين والعلماء الأكاديميين الحقيقيين، إننا نعيش اليوم انحدارًا معرفيًا لم تشهده حياتنا كالتي تربينا على مناهجها في القرن العشرين، بل نشهد اليوم فوضى عارمة في الكتابة والنشر والتأليف في كل التخصصات ، وفى مجمل التصانيف.
صحيح أن هناك ضعفًا كبيرًا في المستويات العلمية والمنهجية والنقدية.. وأن هناك أزمة ثقافة حقيقية.. وأزمة نشر أكاديمي نتيجة ما مورس في الثلاثين سنة الأخيرة من أخطاء في التربية والتعليم الجامعي والتعليم العالي وما يسمى بـ «البحث العلمي»! صاحبه ضعف كبير في المستويات الثقافية وهزال في الإبداعات، وقد ندرت الأعمال التأسيسية بسبب طغيان الكم على النوع، وضعف القراءات وانشغال مجتمعاتنا بمشاكلها السياسية مع القيود الأيديولوجية التي جعلت الإنسان مقيدًا بالأحاديات، ثم هجمة الإسلام السياسي التي سحبت مجتمعاتنا إلى شرانق عزلتها عن العالم.. ناهيكم عن استحواذ الإعلام على الحياة السياسية والاجتماعية، فانسحقت الثقافة شيئًا فشيئًا، وبات المجتمع لا يقرأ ولا يتابع.. بل واحتقنت الحياة جراء الانتكاسات المريرة والهزائم النفسية والانقسامات الجديدة.. فغدا المجتمع مؤهلاً للعبث بنفسه، وخصوصًا أن تكنولوجيا الإعلام، أو ما يسمى بتكنولوجيا المعلومات وانتشار الفضائيات بشكل كبير قد أثرت جميعها على ما كان من معارف عربية مع دخول حياتنا القرن الواحد والعشرين.

المستحدثات الجديدة
انشغلت مجتمعاتنا بالمستحدثات الجديدة التي نقلت الحياة من طور إلى آخر، وكان ذلك على حساب القيم التي كان المجتمع يقدرها حق قدرها، فالمعرفة كان لها أصحابها من العلماء والمختصين الحقيقيين، المؤهلين لها، والذين لا يمكنهم أن يجازفوا بمعالجة أي موضوع إن لم يتمكنوا منه، فهما ودقة ومنهجا وأسلوبًا.. كانوا يميزون بين المعلومة وحيثياتها وبين الرأي وصنوفه، وعندما يواجهون نقدًا معينا، فهم يتقبلون تصويب المعلومات، ولكنهم يجادلون في الرأي والرأي الآخر، وبأخلاقية عالية وثقافة واسعة ، ولا يصدرون أحكامًا، إلا بعد التأكد من مراجعة مصادر الموضوع ومقارنة مراجعه، فهم يميزون بين المصدر والمرجع ، ويدركون العمل بالنقد الباطني السلبي والإيجابي والمقارن فضلاً عن قياس الظواهر والعلل والمعلولات .. وعندما يكتبون ، وبأساليب رائعة ، يعرفون أن غاياتهم سامية ونزيهة وعلمية محضة.. دون تسويق بضاعتهم لأغراض سياسية الهوى ، وسيئة الأهداف، وقميئة النوايا، وكان الكتّاب لا يتجاسرون على أساتذة الموضوع ولا يسيئون إلى العلماء ولا يجعلون من أنفسهم أندادًا لمن صرف حياته في إثراء تخصصه لامتلاكه المعرفة.
المعرفة الحقيقية اليوم مفتقدة في مجتمعاتنا، ويا للأسف الشديد.. لقد غابت القيم المعرفية والأخلاقية والمنهجية عن مجتمعاتنا، وضاع التمييز بين الغث والسمين، وأخذ الجيل الجديد يفرض أجندته السياسية والعقائدية على المعرفة.. وسجنت كل الإبداعات، وتم تقييدها بالأغلال ليس من قبل الأنظمة السياسية، كما كان في الماضي، بل أمست اليوم مقيدة من قبل الأنظمة الاجتماعية التي تسودها الفوضى وفقر الأخلاق.. أصبحت موضوعات خطيرة يعبث بها طفيليون لا يقيمون للمعرفة وزنا، ولا للمناهج قدرًا، ولا لأصحاب التخصص من العلماء قيمة.. وإذا ما انتقدوا على أخطائهم، فهم يردون بحماقة ردودًا سيئة ومن دون أية أخلاق ، إذ لا حجة عندهم، ولا رأى لديهم، بل ينحدرون إلى مستوياتهم الضحلة كي يشتمون ويسبون، إذ ليس لديهم أي سلاح إلا البذاءات التي تعبّر عن انحطاط تربيتهم ، وقلة أدبهم ، وسوء أخلاقهم ، ورعونة تصرفاتهم !
المعرفة عربيًا، في خطر شديد، عندما تتراكم الأخطاء من دون أية معالجة، ولا أي نقد، ولا أي مواجهة، ولا أي تمحيص، ولا أي دقة.. المعرفة اليوم تنسحب تمامًا عن حياتنا، فغدت مجتمعاتنا بعيدة عنها، فالفضائيات تعرض رجال دين وتابو وطوائف ومذاهب.. ينابز بعضهم بعضا، بل وصل الأمر أن يستخدم أحد كبارهم ألفاظا متهتكة غاية في العهر وهو يحمل فوق رأسه عمامة كبيرة.. أو يعبث مسلسل تليفزيوني بتاريخ بلد عربي عبثًا غاية في السوء.. أو يصل الإسفاف في الفن والثقافة إلى منحدرات بائسة.. ناهيكم عما ينشر كل يوم من مقالات تافهة ينشغل بها الناس، وأغلبها يتضمن معلومات خاطئة أو مفبركة أو كاذبة.. لا تجد من يصحح أخطاءها، ولا من يقارن معلوماتها بالأصل، ولا من يؤكد سلامة مروياتها أو نصوصها.. إلخ أجد اليوم أناسا قد اشتروا شهادات عليا ليطلقوا على أنفسهم «دكاترة»، وهم خواء من أي معرفة! أو يدّعي البعض انه يحمل الدكتوراه كذبا وزورا كي يستعرض عضلاته الهشة بها .. وعندما يكشف أمره ، لا يحاسبه أحد ، بل يبقى يتبوأ مكانه أو منصبه ، وكأنه لم يطعن بأي قيم للمجتمع ، وكأنه لم يكذب وينحدر إلى الأدنى ! وهذا لم يحصل أبدا في مجتمعات تحترم نفسها دوما وبأي صورة من الصور .. نعن ، قد تباع شهادات لهذا أو لذاك ، ولكن لا يمكن أبدا أن تجد كاذبا أو مزورا أو محتالا في منصب علمي أو إداري أو خدمي ، كما هو حال مجتمعاتنا التي تزداد فيها الضحالة يوما بعد آخر !

الانقسامات.. الخواء.. الانحدار
إن مرحلتنا هذه تعد من أصعب المراحل التي أنتجتها مرحلة سابقة كانت المعرفة فيها مبتذلة تمامًا، كي تبدأ اليوم مرحلة الانحدار بوجود جيلين اثنين: جيل لم يزل على تقاليده الإنشائية وهو لا يعرف آليات التقدم الجديدة، ولم يزل يتكلم بلغة الأمس.. وجيل انعدمت قيمه وأصبح عبثيًا وهو يسوق عبثيته من خلال الوسائل الجديدة التي تزداد مخاطرها كل يوم على مستقبل مجتمعاتنا كلها.. إن مجتمعاتنا التي رضخت للهجمة الجديدة التي بلورتها الماضويات تتأخر يومًا بعد آخر بفعل ردود الفعل القوية ضد الحداثة والتقدم، ولما أصبحت آفاق التفكير محدودة، فإن مجتمعاتنا تعتقد أن ما ينتج عندها أو ما يعاد إنتاجه على لسان هذا، أو كتابات ذاك.. خطاب هذا ومنتجات ذاك هي المعرفة الحقيقية.. إنها تعتقد أن ما يزاوله هذا أو ذاك هو من صميم المعرفة.. أو أنها تخدع نفسها، عندما تعيش خواء معرفيا حقيقيا وهى تتسلح بالخواء من دون أن تفكر قليلاً بما يطوقها من قيود وسدود وحدود مقارنة بما يعرض في التليفزيون، مثلاً من معرفة عن الحيوان وعن الفضاء وعن الفكر وعن الفلسفة وعن الأدب وعن التاريخ وعن الأنثروبولوجيا وعن الصناعة وعن الزراعة وعن الوراثة وعن العمارة.. إلخ.
إن واحدًا من منزلقات مجتمعاتنا اليوم، تلك الانقسامات التي ولدتها الأيديولوجيات التي اجتاحت حياتنا في عالمينا العربي والإسلامي.. وهى متنوعة في طبيعة العقائد الفكرية والسياسية والدينية والمذهبية التي سحقت القيم المعرفية التي هي بأمسّ الحاجة إلى الحريات الفكرية والاجتماعية أساساً.. ثم هجمة السلطات المتنوعة التي عرفتها دول المنطقة بالكامل سواء كانت عسكرية أو فردية أو دكتاتورية أو انقلابية.. بحيث لم تجد مجتمعاتنا أي فرص للاستقرار، فعمّت التناقضات في أغلب المؤسسات والجامعات ودور العلم حتى طال العبث المجامع العلمية واللغوية! وزحفت مؤخرًا الهجمة الطائفية والمذهبية باسم الدين تارة وباسم الأحزاب والجماعات الدينية تارة أخرى لتسحق ما كان موجودًا لدينا في جامعات وما تبقى من مؤسسات.. بل لتنشر الخراب والتخلف والجمود في كل مرافق حياتنا الاجتماعية.. إنهم باسم الديمقراطية يغتالون القانون، وهم باسم الحريات يعبثون بالقيم.. وهم باسم الدين يفرضون أجندة على الفكر.. وهم باسم التراث يقتلون الحداثة.. وهم باسم المذهب يحرّمون الفن.. وهم باسم الطائفة يفرقون المجتمع ويقسمونه.. وإنهم باسم فئة معينة يزورون التاريخ.. وهم باسم تفسير معين يذبحون الآخرين.. وهم باسم حزب معين يزرعون الأحقاد.. وهم باسم الأكاذيب يدينون المعرفة.. وهم باسم رأى واحد ينشرون كل التناقضات.. وهم باسم التعصب يزرعون الكراهية والأحقاد.. إلخ.

الأجيال الجديدة.. إلى أين؟
إن مجتمعاتنا اليوم أمام منعطف خطير جدًا في تاريخ القرن الواحد والعشرين.. لقد انشغلت الأجيال الثلاثة السابقة في القرن العشرين بهمومها النهضوية والاستقلالية والوطنية والقومية والفكرية والأيديولوجية.. كانت تحث الخطى نحو التقدم، ولكن لاحتها الهزائم العسكرية والنفسية وقمع السلطات وجور الحكومات، فعاشت تناقضات متنوعة، ولكن بقيت الانقسامات سياسية وفكرية.. أما الأجيال التي ستحيا في القرن الواحد والعشرين، فإنها ستحيا تناقضات من أنواع أخرى.. إن جيل اليوم وهو عند بدايات قرن جديد لا يفكر تفكيرًا عقلانيًا أو رومانسيًا أو جدليًا أو نضاليًا أو تقدميًا.. إنه منشغل اليوم بالخزعبلات أو الأوهام أو الانقسامات والكراهية وعبادة الذات ونشر الانتماءات، وقد غلبت الذات على الموضوع، والأوهام على الحقائق، والكراهية على التسامح.. مسخت الثقافات الجديدة والفكر الحر إلى أقنية وأزقة وانغلاقات.. تحولت الأوطان إلى سلعة من الدرجة الخامسة وغلبت النزوعات العرقية والطائفية على التفكير، بحيث أجد الأب لا يكره أي شعب أو أي مجتمع، ولكن ابنه مشبع اليوم بكراهية هذا الشعب أو ذاك العرق أو هذه الطائفة أو تلك الملة!! مرة أخرى أنادى بتغيير السياسات وتحديث الأنظمة والقوانين.. أنادى بتجديد الأفكار وتغيير المناهج.. بإصلاح الإعلام والتربية والتعليم.. أنادى بتطوير الجامعات ومضامينها وعناصرها.. مجتمعاتنا إن بقيت على حالها، فهي ستدفع أثمانًا باهظة في المستقبل، ينبغي التفكير بتأسيس إستراتيجية جديدة لتغيير مجتمعاتنا نحو الأفضل.. إن صناع القرار لابد أن يعتمدوا على أناس تحترم المعرفة.. إن خلق بيئة جديدة يتمتع فيها الناس بسلوكيات من نوع آخر، فإن الوعي والعقل سيولدان ثقافة مدنية من نوع جديد في المجتمع.. وإن الثقافة المدنية ستأخذ بيد المعرفة شيئًا فشيئًا.. إن أجيال الأمس سترحل في غضون 10- 20 سنة، وليس أمام الأجيال الجديدة إلا مشكلات الدواخل وأزمات ميراث صعب إزاء عالم يتقدم بسرعة مذهلة، فهل استوعبنا الدرس ولو لمرة واحدة؟

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4300 – السبت الموافق – 6 نوفمبر 2010
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …