الرئيسية / محاضرات / الهُويّة العراقيّة: تشكيل معنى واستعادة جذور

الهُويّة العراقيّة: تشكيل معنى واستعادة جذور


نص المحاضرة الشفوية التي ألقاها الأستاذ الدكتور سيّار الجميل
في الجمعية العراقية الكندية / تورنتو مساء يوم الأحد 16 مايس / آيار 2010

تقديم
أصدقائي الأعزاء
أسعدتم مساء ، واشكر لكم حضوركم لسماع محاضرتي في هذه الأمسية الجميلة ، والتي عودتنا عليها الجمعية العراقية الكندية بمدينة تورنتو كل عام ، واشكر الأخ الشاعر كريم شعلان على تقديمه لي . والحقيقة ، هذه هي محاضرتي الثالثة أو الرابعة ، فكل سنة تدعوني الجمعية ، والّبي دعوتها مشكورا فالحديث عن العراق لا يمكنه أن ينتهي ، وما أحوج العراق إلينا ، حتى وان كنّا نعيش مغتربين عنه لما وراء البحار .. لقد كان موضوعي قبل عامين عن الجغرافية الثقافية للعراق الحديث 1، واليوم سأتكلم في موضوع من نوع آخر ، له حساسيته وخطورته ، وخصوصا عندما نعّرف أنفسنا للعالم كعراقيين ! من نحن كعراقيين ؟ ما هويتنا العراقية ؟ وهل لهذه الهوية من جذور تمتد في الأعماق ؟ ما معناها ؟ هل تطّرق أحد من الدارسين والعلماء والمستشرقين لمعالجة هذا ” الموضوع ” سابقا ؟ أو أن الحاجة لم تكن موجودة هناك أصلا في السابق ، حتى يمتحن أي عراقي نفسه حين يتساءل : من أكون ؟ 2 

(1) المعنى .. الغايات والمرتكزات

أولا : الهوية الضائعة !
والحقيقة ، إن هذا ” الموضوع ” الذي أكرسه اليوم عن العراق والعراقيين ، كان له صلة بمقال من مدخلات عن الهوية العراقية 3، وأيضا بموضوع سابق كنت قد عالجته قبل أشهر في مدينة استانبول بتركيا عندما دعيت للمشاركة في الندوة الفكرية عن الهوية العربية والتركية ، وكيف تبلورتا بعد انفصام الطرفين عن الهوية العثمانية بدايات القرن العشرين 4. لقد عشنا قرابة مائة سنة نحن العراقيين أضعنا خلالها الطريقين ، فلا نحن بأصحاب هوية عراقية ، ولا نحن بأصحاب هوية عربية ! وحتى يومنا هذا نحن في طريق ضائع بين واقع كسيح لوطن جريح ، وبين حلم قومي بعيد المنال . إن موضوع ” الهوية ” Identity .. من أنا ؟ من نحن ؟ من أكون ؟ ومن يكون ؟ يشغل الآن كل المجتمعات البشرية 5، وأيضا تفكير الأجيال الجديدة كي يعرف الإنسان من يكون ! ولكن يبدو أن هذا ” الموضوع ” لا يشغل بال كل الدول . ويبدو واضحا أن المجتمعات المهتمة بموضوع ” الهوية ” ، ترغم الدولة ليس للاعتراف بهوية الناس ، بل لتكريس ذلك سياسيا وتربويا وإعلاميا ، لأن الدولة المتقدمة دوما ما تكون في خدمة المجتمع . أن المجتمع المتماسك الذي يسوده الانسجام يجعل الدولة ممثلا له ولهويته ، ولكن عندما يكون المجتمع ضعيفا ، كما هو الحال في العراق ، فان الدولة لا تعمل أبدا ـ كما اعتقد ـ لمساعدة المجتمع في كسب هويته !

ثانيا : من اجل غايات سامية
إن موضوع ” الهوية ” عند العراقيين في هذه المرحلة ، له أهميته البالغة من اجل الوعي بضرورات الانسجام ، ولا يمكن أن يحصّل ذلك من دون الوعي بالهوية العراقية وحدها من دون أية نوازع أخرى . نعم ، أن من الخطورة بمكان أن يكون العراقي عراقي أو لا يكون ، وعندما يقّدم أي عراقي نفسه من غير عراقيته ، فاعتقد أن السكوت أفضل له كي يحترم نفسه أولا ، ويحترم مشاعر الآخرين ثانيا ! هنا ، يبدو المجتمع لا يعيش أزمة وحسب ، بل يعيش مأزقا مفضوحا مقارنة بكل مجتمعات الدنيا . إن من يتكلم باسم الوطن والوطنية .. وهو يتخندق قوميا أو مذهبيا أو طائفيا أو جهويا مناطقيا ، أو قبليا أو عشائريا .. فانه يكذب على نفسه وعلى الآخرين وعلى العالم كله حاضرا ومستقبلا !
إن ” الهوية ” موضوعا ومضمونا تعّلم للأطفال منذ صغرهم في مجتمعات متمدنة .. والهوية ، ليست كما يعتقد البعض أنها مجرد تجمّع لغوي ، بحيث تكون اللغة الواحدة عمادها ، إذ نجد مجتمعات عدة لما وراء الأطلنطي ، أو ما وراء الباسيفيك تتكلم الانكليزية ، ولكن لا تمتلك هوية واحدة تجمعها ! وإذا كان المفكرون الألمان قد اعتمدوا ” اللغة ” مقومّا أساسيا للهوية منذ الثورة القومية في كل من النصف الثاني من القرن 19 وحتى الحرب الثانية في القرن 20 ، أي مرورا بأزمة تلك ” الثورة ” وتداعياتها على المجتمعات قاطبة بعد أن اجتاحت كل العالم ، إلا أن ذلك قد انتهى اليوم تماما ، فاغلب العلماء وبعض الباحثين الذين يقرأون ويكتبون في هذا ” الموضوع ” ، يؤكدون على الثقافة .. بل وتعتبر ثقافة أي مجتمع هي التي تميّز هذا المجتمع عن ذاك ثقافيا . وإنني اعتقد بأن العراقيين ـ كما سأتحدث بعد قليل ـ يمتلكون بشكل عام جملة خصائص ثقافية متنوعة حسب بيئاتها وامتداد مواريث كل واحدة في أعماق الزمن .. وإنني أؤكد على ان حصيلة تلك ” الخصائص ” الثقافية ، تجعلهم مكونا واحدا لا عدة مكونات ـ كما أشاع الساسة الجدد وركضوا وراء التصنيف السياسي الأميركي للعراقيين ـ . إن العراقيين يمتازون بتلك ” الخصائص ” أمام العالم اجمع ، حتى إن قارنا ثقافتهم بأقرب الناس إليهم سواء كان ذلك شرقا أم غربا ، شمالا أو جنوبا . إن هذا ” الموضوع ” ، لم يعالج معالجة عميقة ومقارنة لا من قبل العراقيين أنفسهم ، ولا من قبل الآخرين أبدا .. نظرا لمخاطره وحساسيته المفرطة ، علما بأن العراقيين بحاجة ماسة منذ زمن طويل أن يدركوا هويتهم وعناصرها المخصبة ، وتبايناتها العميقة ، وخصوصيتها التاريخية والجغرافية في هذا العالم .

ثالثا : التنوع والتعدد من اجل وحدة العراقيين أم فرقتهم ؟
قبل أن ابحث في الخصائص ، ثمة محددات لإشكاليات الموضوع التي باستطاعتي إثارتها ، وأبرزها التنوع والتعدد في ثقافة العراقيين ، أو كما تسمّى بفسيفساء اجتماعي ، إذ تبدو غاية في الغرابة مقارنة بمجتمعات أخرى ربما نجده فيها ، ولكنه اخذ حجما اكبر من دوره في العراق ، وبدل أن يكون عامل قوة ، غدا اليوم عامل تفتّت كونه استخدم سياسيا ، أي انه أنتج ألوانا غير متجانسة من الطيف العراقي فمنه المسالم ومنه المتوحش مثلا .. وكان بالإمكان أن يأخذ له مديات من القوة لتكريس هوية عراقية عندما كان العراق يعيش استقرارا سياسيا ، ولكن السياسات التي زاولتها الأنظمة والأحزاب التي مرت بالعراق منذ أكثر من خمسين سنة ، قد أضاعت ليس الهوية لوحدها ، بل شتتّت روح الوطنية العراقية ، ويا للأسف الشديد ! وعليه ، فالمشكلة ليست اجتماعية فقط ، بقدر ما هي سياسية وإيديولوجية بالدرجة الأولى . لو كانت الأنظمة السياسية قد أعطت هامشا ، أو بعض الهوامش للعراقيين في عموم المجتمع كي يتحركوا للتعبير عن ذواتهم ، ولكن ضمن مجموعة قيم وطنية .. وأؤكد هنا على مجموعة تلك ” القيم ” الموحّدة .. لو منح الناس حقهم في التعبير عن آرائهم بالحد الأدنى ، وعولجت الأخطاء سلميا ، لما وجدنا هذا الشرخ الكبير الذي سيقسم العراق اليوم .. لا أقول بأن هناك جنايات اجتماعية صعبة ، ولكن كانت هناك نزعة الأقوى والأضعف ، وكانت هناك نزعة الأعلى والأدنى ، وكانت هناك نزعة الأكثر والأقل ، وكانت هناك نزعة الريف والمدينة ، وكانت هناك نزعة الاستكبار والاستصغار ، وكانت هناك نزعة الشيوخ والأعيان ضد الكادحين والمسحوقين (= نزعة الصراع الطبقي) ، وكانت هناك نزعة الأذكى والأغبى ، وكانت نزعة المركز والمحيط .. الخ كل هذه الثنائيات قد ولدت تناقضات محتدمة في المجتمع ، وقد يعّبر عنها باضطهاد عراقي ضد عراقي من دون أي شعور بالمواطنة الواحدة .. ولكن انعدام الانسجام بين العراقيين ، لم يصل أبدا إلى مستوى الصراع الدموي ، ولا الحرب الأهلية ، ولا الحرب في الشوارع باستثناء ما حدث في كل من الموصل وكركوك عام 1959.. لا كما كنت قد وجدت ما حدث في المجتمع العراقي قبل 250 سنة ، إذ عاشت المدن في صراعات محلية داخلية ، وعاشت الأرياف والبوادي في صراعات عشائرية وقبلية .. لقد اختفت صراعات التاريخ في القرن العشرين في حين بقيت مستعرة في مجتمعات قريبة من العراق .

رابعا : خمسون سنة من دمار المجتمع العراقي
لقد كانت هناك أنظمة حكم قد ساهمت في إبعاد المجتمع عن عوامل فرقته ، والتقليل من حدة تناقضاته .. ويمكننا أن نجد نموذجين مختلفين في حكم العراق ، ولكنهما ارتفعا عن الميول والاتجاهات فنجح الأول وفشل الثاني.. إذ أجد ذلك في الملك فيصل الأول 1921 – 1933 ومدرسته التي تركها من بعده حتى العام 1958 ، والزعيم عبد الكريم قاسم 1958- 1963 الذي لم ينجح في بلورة أي مدرسة له بعد رحيله ، فالأول حكم بعقلية وطنية سياسية ، أما الثاني ، فقد حكم بروحية وطنية عسكرية ! وإذا كان الأول قد جابه تحديات سياسية صعبة ، فان الثاني قد خلق له تحديات سياسية أصعب . إنني اعتقد أن التناقضات الاجتماعية في العراق لا يمكن الحدّ منها ، إلا بوجود ” نظام حكم ” يرتفع فوق ميول الناس واتجاهاتهم ، وان لا يستخدمها كأدوات سياسية أو وسيلة إدارية .. فانه بذلك يخرق الهوية العراقية ، وبالتالي يقلل من شأن المواطنة على حساب الشعارات الإيديولوجية والعقائدية والحزبية التي يستخدمها في حكم البلاد ! كنت أتمنى أن يبقى العراق على شرعيته الدستورية ، ويحافظ على حالته المدنية ، ويطّور من سياسته ومؤسساته وأسلوبه في فصل السلطات والاعتماد على الجيل الجديد وتطوير آلياته الديمقراطية من خلال بناء مجتمع مدني .. لكان وجدنا العراق على غير حالته اليوم ، ثم أن السياسة التي اشتغل عليها الجميع في العراق مختلفة تماما على امتداد عهود سياسية متباينة منذ العهد الملكي وحتى هذه اللحظة التاريخية الصعبة التي لم نشهد سقوطا للدولة فحسب ، بل دمارا للمجتمع .. لقد زاولت الأحزاب القومية والدينية وأساليب حكم العسكر الانقلابية ، شتى الأخطاء بحق العراق والعراقيين .. إنهم أضاعوا العراق والعراقيين منذ خمسين سنة وحتى اليوم .. لو أدركوا ما معنى المجتمع العراقي ؟ ما خصائص المجتمع العراقي ؟ ما تناقضات المجتمع العراقي ؟ ما الذي يحتاجه الناس ؟ لأدرك العقلاء أن ثمّة ضرورات أساسية في التعامل مع أربعة أسس أو مرتكزات ، يمكننا إجمالها وتحليل مضامينها على التوالي :

خامسا : مرتكزات الهوية العراقية
1/ أحادية قطبية العراق في الجغرافية التاريخية للعالم ( العامل التاريخي ).
لم يتدارس أحد هذا ” الموضوع ” بشكل موسّع ، علما بأنه من أثمن الموضوعات التي كان بالإمكان توظيفها معرفيا وتربويا عند الأجيال العراقية الصاعدة إبان القرن العشرين .. كي تدرك دور هذا المرتكز النادر في تشكيل الهوية العراقية . لقد حظي العراق بدور أحادي الاستقطاب في العالم من الجانب التاريخي ، كونه من أقدم البلدان في العالم ، وانه كان وسيبقى يمّثل ذلك الاستثناء في الجغرافية التاريخية للعالم . ليس بسبب وجود أقدم الحضارات على أرضه حسب ، بل لأن المجتمع العراقي قد توارث منذ آلاف السنين جملة هائلة من العادات والتقاليد والتعابير .. فالهوية العراقية قد تشكلت منذ الأزمان السومرية ، وقد تطعمّت بما أضفي عليها من معالم أكدية وبابلية وآشورية وعربية وسريانية وكلدانية ومندائية وكردية وتركمانية ويزيدية وشبكية وارمينية وكاكائية وعثمانية .. الخ هنا يمكنني القول أن الهوية العراقية هي أحادية عبر التاريخ كونها مستقطبة جغرافية المنطقة كاملة .
2/ ثنائية الدواخل والأطراف .. المركز والمحيط ( العامل الجغرافي ).
من خلال هذه ” النظرية ” التي حاولت أن أزاول عدة تطبيقات على العراق وجغرافيته ، سنلمح تأثير هذه الثنائية على تشكيل ” الهوية ” .. إن الدواخل والإطراف في حالة صراع حينا ، أو انسجام حينا آخر ، وهذه الجدلية تشكّل قوة للعراق لا ضعفا له ، أن ما تمتعت به مركزية العراق في بغداد من ادوار ، وكذلك مركزية كل من الموصل والبصرة إزاء الأطراف سواء في الجذب السكاني إليها ، أو الطرد منها ، والحالة جدلية ، كما يبدو ، إذ اثر ذلك سلبا وإيجابا على معنى الهوية العراقية .. لقد كانت تهتز نتيجة للسلبيات التي تعصف بالمركز والمحيط ، أو كانت تتجذر نتيجة للايجابيات التي تمنح العراقيين حيوية ونشاطا في جعل العراق بودقة تنصهر فيه جملة هائلة من الأعراف والتقاليد والنصوص والأفكار والأشعار التي تمتد في أصولها إلى جغرافيات المحيط .. وبالضد يحدث عندما تتراكم سلبيات جائرة سببها ما اصطلح عليه العراقيون بـ ( اللملوم ) ، أي يلتم حول المركز كل الطارئين ليعبثوا بكل المصائر . علينا أن نتعرف على دور هذه الثنائية الجغرافية في تخصيب الهوية او إضعافها .
3/ ثلاثية البنية الاجتماعية : المدينة والريف والبادية ( العامل الاجتماعي ).
اعتقد جازما أن هذا العامل هو من اخطر العوامل التي سببت الكوارث والفواجع للعراق ، خصوصا بعد أن عبّرت عنه السياسات المختلفة في العراق بأحزابها واتجاهاتها المختلفة . إن ثلاثية ابن المدينة ( الحضري ) وابن الريف ( الفلاح ) وابن البادية ( الرعاة ) تمثّل منتجاتها المتصادمة حالة التناقض في البنية الاجتماعية العراقية ، في حين أكد المرحوم الدكتور علي الوردي على ثنائية البداوة والحضارة ، ولكنه لم يفّصل في منتجاتها التي قادت العراق إلى المهالك .. انه لم يعايش منتجاتها اليوم ، فالمجتمع العراقي هو غير ما كان عليه قبل خمسين سنة ، وكان قد كتب كتبه قبل خمسين سنة ، ولم يشهد ما يجري اليوم في شوارع مدن العراق ولا في قرى ريف العراق .. عندما يزحف ابن الريف إلى المدينة منذ خمسين سنة ، نتيجة اضطهادات أو بسبب العمل في أجهزة الدولة ، أو للتمتع بشوارع المدن واضويتها ، فان زحفه موصول بما كان عليه نزوح الفلاحين العراقيين من بيئاتهم نحو أسوار المدن منذ 150 سنة ، أي منذ عهد الوالي مدحت باشا .. لقد وجدنا أحزمة سكانية من الطارئين تقطن يوما بعد آخر حول أسوار البصرة وبغداد وكركوك والموصل والنجف واربيل وغيرها من المدن .. وعليه ، فلقد كان هدفهم اختراق المدن والعيش فيها ، وخصوصا بعد هدم الأسوار القديمة ، ومن ثمّ صدور قرارات الزعيم عبد الكريم قاسم ببناء مدن الثورة والشعلة حول بغداد وتشكيل مدينة بغداد الكبرى ، وهذا ما حدث لبقية المدن العراقية الأخرى أيضا ، فمثلا لم يكن يقوم في الساحل الأيسر من مدينة الموصل قبل مائة سنة ، إلا مقام نبي الله يونس (ع) ومن يسكن حوله من البيغمبارلية ( من أصول تركمانية قديمة ) .. ولكن انتشرت الأحياء الشعبية التي امتصت الآلاف المؤلفة من الطارئين والمهاجرين مثل حي الجزائر والدركزلية .. وغيرهما .
ولكن لابد أن أقول ، بأن المجتمع القديم في العراق لم يندمج أبدا بالمجتمع الطارئ ، وبقيت هناك فجوات هائلة بين الطرفين إذ لم يفهم احدهما الآخر مع تزايد السكان الطارئين على حساب انكماش السكان القدماء .. وعليه ، فلقد تحولت بغداد ـ مثلا ـ من ثقافة أحادية إلى مجموعة ثقافات غرائبية هائمة على وجهها ، وهذا ما حدث وجرى في بقية المدن العراقية الأخرى . فان كانت الهوية ممثلة بأشكال مدينية متنوعة ، فلقد غدت مضطربة ومختلطة وتائهة في بحر من التضادات العراقية ، وخصوصا بعد أن أصبحت الثقافة العراقية بأيدي الطارئين . وهنا ، قد ينتقدني البعض كوني افرّق بين العراقيين على أساس طبيعة ثقافة كل طرف منهم ، ولكن كان الأستاذ علي الوردي قد فّرق من قبل بين المزدوجات العراقية ، معتمدا في ذلك على ثنائية قديمة لكل من الحضر والبدو ، وهو التقسيم العربي القديم الذي عرف منذ القدم ، وأخصبه العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة . يقول ابن خلدون : ” الحضر ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان ومن هؤلاء من ينتحل معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية لا بد منها كما قلناه ” 6. ولعل العراق كان أخصب منطقة في عموم الشرق الأوسط تصادمت فيه قوى البدو مع الحضر لتنتج مجتمعنا الحالي الذي لم ينسجم أبدا مع نفسه .. ولن تحّل مشكلته إلا الهوية العراقية والمواطنة الواحدة ، وان الانقسام على أساس المكونات سيجعله ممزقا ومتصارعا ومتشظيا ، يقوم على التمايزات والمحاصصات .
هنا يستوجب عليّ القول بأن الهوية العراقية ، قد تأثرت بثلاثية البنية الاجتماعية كثيرا ، فالمجتمع العراقي لم يبق ثنائي الأبعاد من حضر وبدو ـ كما تعرفنا على ذلك مرارا وتكرارا ـ . صحيح أن المدينة هي مرتكز العراق تاريخيا وحضاريا وسياسيا ، وهي مجال الحضارة وكل تطور التاريخ .. وان العراق صنعته مدنه الأساسية، ولكن البداوة فتّت في عضده ، ونالت من المجتمع طويلا ، وأثرّت على هويتنا العراقية تأثيرا صاعقا سواء في العادات والتقاليد والتصرفات والأحداث واللهجة واللغات المستخدمة .. وتأثيرها ، أي البداوة طويلة الأمد ، ولكن الريف العراقي الذي يختلف تماما عن البداوة وتجده مستقر في أرضه الزراعية ، بدأ ينزح عنها ، اذ كان عرضة للاستلاب المادي والحضاري ليس من البدو فحسب ، بل من أجهزة الحكم والقوة المتمركزة في المدن ، فكان قد غلب عليه التخلف والانسحاق .. ويختلف أبناء الريف العراقي من بيئة إلى أخرى ، لكنه هذا الريف قد زحف على المدن الكبرى سريعا ، فتأثيره أسرع من تأثير البداوة ، وبدل أن يكتسب طبائع المدن راح يصبغها بطبائعه .. لقد اخترق المجتمعات المدينية وعبث بها عبثا كبيرا .. مؤثرا ذلك على طبيعة الهوية العراقية .. إن ما صنعته قوى الترّيف بالمجتمع العراقي تكاد تكون مخجلة ، وهذا ما وجدناه قد ترجم نفسه في عدة أحداث سياسية عبرت عن ثلاثية أبعاد البنية الاجتماعية العراقية .
4/ رباعية الهوية الجغرافية : بيئات شرق دجلة وغرب الفرات وما بين النهرين وشط العرب ( العامل الثقافي ) .
كنت قد أوضحت في معالجتي موضوع ” الجغرافية الثقافية للعراق الحديث ” هذه الرباعية التي يتميز بها العراقيون ، كما تبدو واضحة لي في تأثيراتها الثقافية وتشكيل الهوية العراقية لبلاد أسميت ( ما بين النهرين ) ، ولكن ثمة سمات تميز بها سكان شرق دجلة عن سكان غرب الفرات وما بينهما سكان ما بين النهرين وحصيلة هذه التقسيمات الطولية سكان المنطقة الرابعة المنحصرة بشط العرب .. إن السمات المشتركة والصفات المتباينة بين العراقيين حسب تقسيمي لهم على هذا الأساس ، منحنا جملة كبيرة من المواصفات ، فإذا كثرت القوميات والأقليات السكانية في شرقي دجلة ، وتعددت الألوان ، فهذا لم نجده في غربي الفرات .. وإذا ازدحمت المدن في ما بين النهرين بفسيفساء اجتماعية ، ففد انعكس ذلك على ثقافة العراقيين وتحددّت هويتهم على أساس التعدد والتنوع .. وإذا كانت هذه الرباعية الجميلة قد ميّزت العراقيين على امتداد تاريخ طويل ، فإنها كانت وستبقى سر وحدتهم على الرغم من تجاهلهم إياها .. إن العامل الثقافي كما أجده بمرتكزه الأساسي في المجتمع ، هو ما يميّز الآخرين بدءا بأبسط الأشياء وصولا إلى اكبر الأشياء .. فثمة تباينات حتى في إطار التنوع الجغرافي الذي حددناه آنفا ، فمثلا ، قد يأتي ابن هور من العمارة ، أو يأتي ابن جبل كردستان فثمة ما يتباين هذا عن ذاك حتى في إطار ثقافته المحلية .. قد يأتي ابن البادية الغربية أو ابن شواطئ الأنهار مقارنة بما هو عليه حال ابن شط العرب . إن التباينات الثقافية في اللهجة والمشاعر والتصرفات والتوجهات والعلاقات .. الخ تختلف بالكامل بين هذا العراقي عن ذاك ، ولكن يشعرك أي عراقي بأن ثمة سمات مشتركة تجمعه والعراقي الآخر .. ويجمع أبناء الشرق الأوسط عموما على أن ثمة ملامح هوية موحّدة تجمع كل العراقيين بعضهم بالآخر ، اذ تتراءى للآخرين في العالم ما يجمع العراقيين في أكلاتهم ولهجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وألبستهم وخصوصياتهم .. حتى يصل الأمر لأن يقول لي احد الأصدقاء : انظر للعراقي اعرفه حتى من مشيته في الشوارع ! هنا علّي القول مختزلا كل الكلام بأن الهوية العراقية هي هوية ثقافية ، وعليه ، فان الهوية الثقافية هي الميزة الثقافية لا التشدق الديني ، ولا النزعة العرقية .. لا العنصرية .. لا الفاشية ولا التعصب القومي ولا التعصب الطائفي . تعالوا اليوم ايها العراقيون كي نعمل على كيفية تخلص المجتمع العراقي من كل هذه الأمراض والتعصبات .. حتى نجعله صاحب هوية حضارية موحدة ومتسامية .. هنا دعوني استرسل قليلا في المضامين عسى تحمل الأجيال الجديدة جملة أفكار جديدة وقد تخلّصت من كل ترسبات القرن العشرين ، ولكنها ستبقى معتزّة اعتزازا كبيرا باللغة العربية التي كان للعراق دور تاريخي وحضاري في تطور اللغة العربية وميادينها المتنوعة ، وإبداع العراقيين ثقافيا وحضاريا في العهود العباسية .. إن من حق أي عراقي أن يستشهد بتاريخه الحضاري ودور العراقيين في إثراء الحضارة العربية الإسلامية ، وقيادتها في كل من ميادين الفكر والفقه والأدب والعلوم والفنون .. الخ ومن هنا اصطبغت الهوية العراقية بالصبغة العربية المنفتحة حضاريا وجماليا وليس بانغلاقها سياسيا ضمن أجندة مفروضة على المجتمع ..

(2) أزمة التماهي وسايكلوجية العراقيين

اولا: التعريف بالهوية .. مجرد ورقة بائسة !
تعتبر هذه المرتكزات محددات للهوية العراقية .. وهذه المحددات التي لم تعرف الدولة بأنظمة الحكم المتعددة كيف تتعامل معها على امتداد ثمانين سنة مرت علينا .. إنها الأسس التي لا يمكن التعامل مع المضامين من دونها ، ولقد عالجت تعاريف الهوية المتنوعة ونظرياتها في أكثر من مكان ، فلا داعي لنا هنا بها حفاظا على الوقت . وكما ذكرت في أكثر من مكان 7، بأن موضوع ” الهوية ” هو اليوم من الأهمية بمكان في منطقة الشرق الأوسط ، ولعل إسرائيل وعدد من مؤرخيها وكتابها قد اهتموا بموضوع ” الهوية ” أكثر من غيرهم ، ولأغراض سياسية بإصدار عدة كتب ودراسات تطبيقية ، وهم يرسّخون جملة مفاهيم عن الهوية ، قد لا نتفق معها أبدا ، ولكن ينبغي التعرّف عليها ، وتأكيدهم على دور الأقليات 8.
إن العراقيين اليوم لا تجمعهم هوية وطنية موحدة ويا للأسف الشديد ، بعد أن نالت أنظمة الحكم الصعبة منها نيلا مبرحا ، ولن يجمعهم في داخل العراق وخارجه إلا مجرد بطاقة أسموها بـ ( هوية الأحوال المدنية ) ، وهي مجرد بطاقة بائسة تعطي سمة العراقي في المؤسسات والمجتمع معا .. عندما يسأل أي عراقي في أي شارع أو نقطة تفتيش أو عند أي دائرة انتخابية : وين هويتك ؟ هذه الكلمة كبيرة جدا لا تختزل بمثل هذه البطاقة البائسة التي صدرت في السبعينيات من القرن الماضي ، بعد أن كان التعريف يجري من خلال دفتر النفوس بشكل الموحد ولونيه الاثنين للإناث والذكور ، ولما تعّرضت ( هوية الأحوال المدنية ) هي الأخرى للتشويه والابتزاز والتزييف والتزوير والبدل الضائع ، كما هو حال جواز السفر عند العراقيين ، فلقد وقفت إلى جانبها البطاقة التموينية .. كلها مجرد أوراق بائسة غدت مكروهة عند الناس ، بل وغدت سمعتها بشعة عندما يسمع الإنسان بأن القتل يجري على (الهوية ) ! ولأن الاضطهاد جرى على (الهوية) ! ولأن التسفير جرى على (الجنسية) ! ولأن الإنسان العراقي تعّرض للتهميش من خلالها ، وطورد ولوحق لكونه يحملها ، ولأن هناك من حملها أيضا من غير العراقيين ، ولئن هناك من لوحق من العراقيين كونه يحمل (هوية ) مزيفة .. الخ

ثانيا : استعادة الهوية بضمان ازالة الاحقاد
مطلوب من الأجيال القادمة أن لا تحمل ترسبات الماضي ، وان تبتعد عن كل الأمراض العراقية التي عشناها نحن في القرن العشرين ولم تزل تنخر في أفكارنا ورؤانا .. دعونا نجعل الجيل القادم يستكشف من جديد هويته الحضارية بكل ميزاتها الثقافية المتنوعة .. دعوه يعيش استعادة للتشكيل ويتساءل : من أكون ؟ من أنا ؟ من نحن ؟ أن الأمل كبير في الجيل الجديد إذا خرج إلى الحياة بأنفاس جديدة ، وبروحية جديدة ، وبهيئة جديدة ، وبرؤى جديدة .. كي يلغي من ذاكرته الصعبة كل ما تربى عليه من ترسبات خمسين سنة مضت وانقضت .. كي يقول كلمته النقدية الفاصلة في القرن العشرين ومآسيه والسنوات الكئيبة في العقد الأول من هذا القرن.. كي يكون شجاعا ، ويعلن عن مواقفه الموضوعية حيال ذاته المعذبة .. عند ذاك سيكون للعراق بصيص أمل بعد ثلاثين سنة من اليوم .. أما إن بقي في اطر شرانقه القديمة ، واسيجته البليدة ويعيش نفس أيديولوجيات الانقسام والصراع السياسي الذي يعبّر فيه عن تشظيات المجتمع ، لا سمح الله ، فكيف سيبني له طريقا مشتركا في المستقبل ؟ كيف سيفتح له نافذة جديدة على العالم ، إن بقي لا يرى إلا صفحات الدماء ولا يجد إلا التمييز ، ولا يتغذى إلا على الأحقاد والكراهية .. لا يمكن للعراقيين أن يعرفوا هويتهم الموحدة أمام العالم ، إلا إن اختفت الأحقاد بين العراقيين ، وخرج العراقيون على العالم بروحية موحدة تجمعهم ثقافتهم الجميلة التي يتحركون بها على جغرافياتهم القديمة ، فإنهم سيحققون نسبة عالية من النجاح ، حتى وان تحّمل 70% من أبناء الجيل الجديد مسؤولياتهم .

ثالثا : كيف صنعت هويتنا العراقية ؟
هناك أسئلة تفرض نفسها على كل عراقي اليوم ، واعتقد أنني سأصل من خلال محاولة الإجابة عليها إلى عقدة الموضوع ، وتتمثل باستعادة معنى الهوية وجذورها .. وهذا لم يواجهنا نحن أبناء الجيل الماضي ، كوننا تربينا أيام طفولتنا قبل خمسين سنة عندما كنا أطفالا على قيم واضحة ومبادئ بسيطة ، واعتبارات تربوية غاية في القوة .. فضلا عن معرفة حقيقية بالعراق يتمثلها نشيد وطني ، وتحية علم كل يوم خميس ، ونظام كشفي رائع ، واصطفاف للنظافة والتفتيش ، وفارس للصف ، ومختبر ، ومرسم ، ومكتبة ، وساحة العاب ، ومسرح مدرسي ، ورحلات وسفرات ، ومشاركة مهرجانات ، وصدارة لخارطة العراق ، ويوم للمعلم ، ويوم للجامعة ، وعيد للطالب ، وعيد للشجرة ، وأسبوع للمعونة الشتوية ، وساعة للتغذية المدرسية يوميا .. الخ لقد كان الاهتمام بالإنسان يوازي الاهتمام بالتراب ، فالإنسان هو الوطن قبل أن تصادر كل القيم التربوية لتغدو الوطنية مجرد حزب طليعي ، أو زعيم أوحد ، أو قائد ضرورة ، أو أمة واحدة ، أو طائفة معينة ، أو دين رسمي ، أو مجموعة شعارات فارغة من أية محتويات إنسانية وقيمية وأخلاقية .. وليغدو الإنسان العراقي وقد جّرد من أية هوية .. أو انه بالحقيقة قد جرّد عن كل من الذات والموضوع معا . سئل الأستاذ عبد الوهاب مرجان ـ رحمه الله ـ وكان رئيسا للوزراء في العهد الملكي عن ثورة 14 تموز / يوليو 1958 ، سأله طبيبه لاحقا عنها ، فاختزل رأيه قائلا : إنها ثورة الريف ضد المدينة 9!

رابعا : ازمة التماهي بين الدولة والمجتمع ؟
ثمة سؤال يطرح علينا دوما ، وينبغي أن نتأمل فيه طويلا اليوم بعد كل المخاض الصعب من أزمة التماهي : هل هويتنا العراقية هوية دولة أم هوية مجتمع ؟ الجواب كان وسيبقى يقول بهوية مجتمع ، ولكنها هوية مشروطة بعد أن عاثت الدولة ( والسلطة بشكل خاص ) فسادا في نحر المجتمع ، مشروطة لأن تكون في خدمته لا في خدمة طبقة معينة ، ولا في خدمة نخبة معينة ، ولا في خدمة حزب حاكم ، ولا حزب قائد ، ولا سلطة عائلة ، ولا سلطة دكتاتور جائر ، ولا إمام مقدّس ، ولا طائفة دينية منزّهة ، ولا عشيرة جاهلة ، ولا في خدمة قوى متسلطة .. الخ إن الدولة بمؤسساتها ، يستلزم أن تكون في خدمة المجتمع ، ليتشبث المجتمع بهويته ، ويفخر بها أمام كلّ العالم ، كونه يحمل اعتباراتها المتنوعة .
سؤال آخر : هل تتعّرض الهوية العراقية اليوم لتحديات قوية ستؤثر على أجيالنا القادمة ؟ الجواب : نعم ! فكيف يمر المجتمع بمخاض عسير في ظل أحداث مأساوية ودموية وصراعات سياسية من دون أن يتأثر بها المجتمع ؟ ما الذي سيحمله الأطفال العراقيون على كاهلهم من أثقال سايكلوجية ، وقد نشأوا في ظل أوضاع مرعبة ؟ ما تداعيات الخوف والرعب على سايكلوجيات المجتمع برمته ؟ ما الذي سيجده كل عراقي ، وهو يجد نفسه ، وقد افتقد كرامته أو صحته أو إنسانيته ؟ ما الذي سينتجه الكبت ؟ ما الذي سيخلقه الفساد ؟ ما الذي ستخلفه الكراهية والأحقاد ؟
سؤال آخر : هل ستبقى الهوية العراقية ثقافية أم أن تحولات التاريخ الصعب سيجعلها منقسمة ومشتتة ؟ إنني اعتقد بأنها ستبقى ثقافية ، بسبب قوة ايجابيات الثقافة العراقية ، بالرغم من تشكل ثقافات قميئة وسيئة في أوساط الناس ! وبالرغم من كل التشوهّات التي أصابت الإنسان في العراق ، ولكن ايجابيات ثقافته العراقية أقوى بكثير مما يمكننا تخيّله ، وإذا كانت العملة الرديئة قد طردت الكثير من العملة الجيدة ، فان الزمن سيتحوّل حتما ، وستكتمل دورة تاريخية كاملة ، كي يستعيد المجتمع أنفاسه ، وقد قدرتها زمنيا بثلاثين سنة من اليوم ، إذا بدأ الإصلاح والتغيير اليوم سياسيا وتربويا وإعلاميا !

خامسا : سايكلوجية العراقيين
إن العراقيين قد عرفوا بشكل عام بتغير أهوائهم ، وتقلب أمزجتهم ، وعدم ثباتهم على مبدأ واحد أو رأي واحد .. وعليه فهم ينسجمون طورا ويتنازعون طورا آخر .. يتصارعون يوما ويتصالحون في يوم آخر . إن التاريخ يخبرنا بذلك ولم أطلق هذه ” الاحكام ” من جيبي على العراقيين .. ومن شيمهم أنهم بقدر طيبتهم يقابلهم عدد من الأشرار يقابلون الحسنى بالأذى .. وقد يؤذي بلا سبب ، وقد يخرب إلى حد يثير العجب ! عراقيون لا يتحملون الزعل أبدا ، إذ يثورون ويهتاجون ، ثم يسعون إلى المصالحة مهما كانت الأثمان .. وعراقيون يحملون أحقادهم وكراهيتهم لعراقيين آخرين حتى بلا أسباب ، إذ يبنون مواقفهم على القيل والقال ، أو على ما ورثوه من تربويات خاطئة وعادات وتقاليد سيئة ! ولن يسمحوا لأحد أن يزيل عنهم ركام أحقادهم .. عراقيون تأكلهم الغيرة والحسد والكراهية ، بحيث يستخدمون أبشع الوسائل ، لتشويه سمعة المقابل بلا سبب إلا لنجاح هذا المقابل وانتصاراته وعلو شأنه في السوق ، أو المعرفة ، أو السياسة .. الخ
إن اغرب الأحقاد وأشرسها تنصّب عند العراقيين على ذوي السلطة والجاه ، وعلى الساسة والحكام والإداريين ، إذ وجدنا تاريخ حافل بالأحقاد والخصومات والكراهية البشعة لدى الحكام والمحكومين العراقيين ، وصلت إلى حد التعذيب والقتل والإعدامات بالجملة ، وبالمقابل وصلت الهيجانات الجماهيرية إلى حد التخريب والنهب والقتل والسحل .. والانكى من ذلك كله هو التشّفي ، أي تشّفي العراقيين حكاما ومحكومين بنهايات وموت بعضهم الآخر ، وخصوصا خصومهم ! ولكنني الحظ ، انه بالرغم من كل التاريخ المتفحم للسياسة العراقية ، فان مبدأ الصلح أقوى من مبدأ الخصومة .. صحيح قد تبقى الخصومات والعداوات سنوات طويلة بلا أي مقاربة للصلح ، وقد تؤخذ ثارات دموية وتترتب عليها ثارات دموية مقابلة ، أو أحكام ثقيلة .. إلا أن العراقيين متى ما وجدوا القوة سيدة الموقف ، والقانون سيد الحياة ، انصاعوا إلى الأمر الواقع ، وسكتوا .. وثمة خصلة سايكلوجية تعد واحدة من سجاياهم ، تتمثّل بصبرهم على الشدائد ، وهي خصلة لا يتمتع بقوتها غيرهم ، إنهم يصبرون طويلا على البلايا والرزايا ، ولكن إن انفجروا ، فإنهم يقضون على الأخضر واليابس معا .

سادسا : افتراق الحضاري عن السياسي
يتلاقون ويتباعدون .. يتنازعون وينسجمون .. يثابرون ويصبرون .. دعهم 20 سنة أو 30 سنة يتصارعون ثم يستقيم أمرهم .. ولكن ثمة طوابير خامسة وسادسة تعيش بين ظهرانيهم ، وهي ليست بقليلة أبدا ، لا ولاءات عراقية لها بقدر ما تحركها المصالح ، وهي السبب في إثارة المشكلات وخلق الصراعات بسبب التآمر مع هذا الطرف أو ذاك .. فالصراعات العراقية الداخلية هي ممر للصراعات مع الخارج . إن العراقيين يفهمون ذلك ، ويدركون ذلك ، ولكنهم يتصارعون بسبب تلك الطوابير الطارئة التي تعبث بمصيرهم ، وتبث بينهم روح الانقسام ، وتقلل من شأن المجتمع ، وتنفّذ عدة أهداف وخطط أجنبية في الداخل ، وتنفث سمومها ضد القيم الوطنية وخصوصا من الناحية السياسية . إن التاريخ السياسي هو الذي جنى على العراقيين وعلى تاريخهم الحضاري .. إن الذي جنى عليهم ، سعيهم كلهم إلى السلطة ، وعشقهم للنفوذ والسيطرة ، وحبهم للجاه والمال والتفاخر والتنطّع بالذات واستعراض العضلات وفتل الشوارب .. تجد كثرة من العراقيين يقلدون زعيمهم أو شيخهم أو مديرهم وحاكمهم .. سواء في مشيته ، أو في طريقة حديثه ، أو في أسلوب تعامله .. إنهم لا يهتمون للمجتمع بقدر اهتمامهم بالدولة والبطل .. وكثيرا ما يطلقون أسماء حكامهم على أولادهم ، فثمة جيل تكثر فيه أسماء فيصل وعبد الاله ونوري .. وثمة جيل جاء من بعده تكثر فيه أسماء عبد الناصر وعبد الكريم وقاسم .. وثمة جيل آخر كثر فيه اسم صدام !!

سابعا : هويتنا العراقية ، كما تظهر كرؤية للمستقبل
هناك اليوم استخفاف بالهوية على حساب استعراض العضلات باسم الوطنية ، فإذا كانت الوطنية العراقية مرتبطة بالتراب ، أي بالوطن ، فان الهوية مرتبطة بالإنسان . وعليه ، أن نجحنا في الحفاظ على وحدتنا الوطنية والإبقاء على العراق سليما من أي تقسيم ، فعلينا أن نسعى للحفاظ على هويتنا العراقية والإبقاء على الإنسان عراقيا .. وبطبيعة الحال ، ثمة محاولات لتقسيم العراق ، وهي معروفة ، ويسعى إليها البعض من العراقيين وغير العراقيين .. ولكن ثمة انقسام مجتمع في الواقع قد حدث عند العراقيين اليوم بين عراقيي داخل وعراقيي خارج ، ولقد افرز هذا الانقسام بعد أن أصبح العراقيون في خارج العراق شعبا كاملا مجزءا مشتتا اثر نزوحهم القسري الواسع بالملايين إلى خارج العراق . هنا أسأل : ما مصير هؤلاء ؟ هل ستكون لهم عودة نهائية إلى العراق ؟ أم أن العراق قد فقدهم نهائيا ؟ هل سترجع أولادنا وأحفادنا إلى ارض الوطن الأم بعد أن يرحل الآباء إلى دار الآخرة ؟ إذا كان أولادنا قد افتقدوا هويتهم ، أو أنهم في طريقهم لافتقاد المزيد ، فكيف الأمر بأحفادنا العراقيين ؟ إنهم سيدمجون في بيئات العالم وثقافاته ، وستذوى هويتهم يوما بعد آخر .. وعلينا بقبول الأمر الواقع ، والاعتراف به . علينا القول ، أن العراق كان على امتداد التاريخ طاردا وجاذبا للإنسان ، ولكن ليس بهذه الفداحة البشرية التي أسميت بـ ” مجزرة العراقيين ” ، كونهم بدأوا يتشظّون منذ الحرب العراقية ـ الإيرانية عام 1980 وحتى اليوم ، أي على امتداد ثلاثين سنة .

ثامنا : الطرد والجذب
السؤال : ما مصير الجاليات العراقية من مهاجرين ونازحين ولاجئين وفارين ومشردّين .. ؟ هل ستبقى ؟ هل ستندمج ؟ هل ستضيع ؟
نعم ، إنها تحمل ثقافة عراقية على كاهلها .. ولكن لن يكن باستطاعتها الحفاظ على تلك ” الثقافة ” ، إن ملامحها ستتغير حتما مع توالي السنين ، وستضعف علاقة الأبناء والأحفاد بالوطن الأم ، وبدورهم ستضعف ثقافتهم العراقية ، وبالتالي ، ستسيطر عليهم هويات أخرى .. ولم يبق من الهوية العراقية إلا ذكر الآباء والأجداد والأرومة والأقاصيص . سيغدو كل العراقيين المنتشرين في أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا ونيوزيلندا بعد مائة سنة من اليوم ، كما هو حال المهاجرين السوريين واللبنانيين إلى أمريكا الجنوبية إبان القرن التاسع عشر ! إن ازدواجية الهوية لدى أبناء جالياتنا العراقية اليوم هو بداية فقدان الهوية الأم .. واستطيع القول أن العراق يعد البلد الأول في العالم بخسرانه الملايين من أبنائه على امتداد نصف قرن مضى .. إن ثروته البشرية بمستوياتها الفوقية قد خسرها من دون أن يستطيع تعويضها على امتداد نصف قرن قادم .

(3) خصائص الهوية العراقية

انتقل الآن إلى بحث الخصائص ، حتى اثبت ليس لكم كعراقيين ، ولكن للعالم أجمع جواب السؤال القائل : لماذا كان العراقيون أصحاب هوية منذ القدم وحتى يومنا هذا ، سواء كانوا أبناء اهوار ، أم أبناء بوادي ، أم أبناء مدن ، أم أبناء سهوب ، أم أبناء جبال ، أم أبناء شواطئ انهار ، أم أبناء بساتين ؟ أم أبناء ساحل بحر وموانئ ؟ لماذا نحن نشترك في خصوصيات معينة لبيئة جغرافية متنوعة اسمها العراق ؟

اولا : رموز العراق
هناك أمثال وتعابير وكلمات ومصطلحات عراقية مشتركة تشير إلى أن الهوية العراقية قديمة وموجودة ومستخدمة منذ أزمان السومريين والاكديين والبابليين والآشوريين .. وصولا إلى أزمان العباسيين والعثمانيين ، وخصوصا في لهجاتنا العراقية المتنوعة . على العموم ، فان اللهجة العراقية جميلة جدا ، قد لا نحّس بها نحن العراقيين ، ولكن الاخرين يشعرون بدفئها وجماليتها عندما نتكلم بها ، وبتنوعها ، وهي تمتلئ بأخصب التعابير وبامالاتها واحالاتها ، بتضخمها هنا ورقتها هناك .. عندنا في ذاكرتنا الحضارية الحافلة : ملحمة كلكامش ، وهي أصل النصوص في كل العالم .. لدينا في ذاكرتنا الأسطورية : سفينة نوح التي رست على الجودي في شمال العراق ، وعندنا شجرة آدم والتي جلس تحتها ابو البشرية آدم ، وتقع في البصرة ! لدينا الجنائن المعلقة ، وهي واحدة من أعظم أعاجيب الدنيا السبع في بابل ، لدينا أول مكتبة في التاريخ لآشور بانيبال في العاصمة نينوى .. لدينا آلة العود الموسيقية السومرية الوترية ، وهي عراقية صرفة تعود لآلاف السنين ، ومنها استنبطت كل الآلات الوترية الموسيقية في العالم .. وإذا كانت شجرة الأرز تحدد هوية لبنان ، وإذا كانت شجرة الميبل ليف تحدد هوية كندا ، فان النخلة الطويلة تحدد هوية العراق منذ آلاف السنين .. الخ
من هذه أو تلك التي لدينا .. مشتركات هوية عراقية واحدة ! طيب ، ، أين ذاك الإنسان منه اليوم ؟ هل اختلف ؟ هل اختفى وجاء إنسان آخر ؟ إن الإنسان ابن بيئته حتى ، وان اختلف وحلّ بدله إنسان آخر ، فانه يجسّد صفات ترابه وكلّ من نهريه وبيئته .. لا يمكن التشكيك بقيمة العراقيين ، ولكن يبدو تغلب الأشرار منهم على أخيارهم منذ عقود من الزمن ، مذ أصبح أولاد الشوارع حكاما وزعماء ، وأصبح الطفيليون والأشرار والجهلاء والعملاء والمأجورون وقطاع الطرق والطارئون .. هم الذين يتحكمون بمصائر العراق وشعب العراق .. فقادوا الجميع إلى مأزق التاريخ الصعب .

ثانيا : المشروعية الجيوتاريخية
أشاع البعض في السنوات الأخيرة ، ضمن مقاصد غبية بأن لا وجود للعراق الحالي تاريخيا ، وان العراق قد أسسه الانكليز ، وقد حاول المخلصون للمعرفة العراقية إثبات بلادة هذا ” الطرح ” من خلال ما نشر من ردود أفحمت آراء الجهلة والحاقدين ضد العراق ، بل ونجح البعض في تجذير وجود العراق في التاريخ 10. صحيح أن الدولة العراقية الحديثة قد صنعها الانكليز على أعقاب الانهيار العثماني 1914- 1918 ، ولكن ليس العراق بيئة ووطنا وترابا وإنسانا ، فالعراق موجود منذ القدم باسم بلاد وادي الرافدين ، أما شكله الحالي ، فهو الذي وجدناه مرسوما على الخرائط العثمانية منذ قرابة خمسة قرون .. وأول الخرائط الإدارية قد نشأت منذ تأسيس نظام الشرق على عهد السلطان سليمان القانوني 1520- 1566 م ، إذ يبدو العراق بولاياته الثلاث بغداد والموصل والبصرة ، ثم انبثقت ولاية شهرزور التي كانت تتبع ولاية الموصل ، ثم تبعت ولاية بغداد ، وتحددت شخصية العراق الحديثة على امتداد التاريخ الحديث 11.

ثالثا : المراكز والاطراف .. الاكثريات والاقليات
لقد تبلور تاريخ مشترك لكل العراقيين سواء كانوا من الاكثريات أم من الأقليات في ظل سلطة مركزية عثمانية إبان القرنين 16ـ 17 ، ومن ثم في ظل سلطات محلية لا مركزية ، إبان القرن 18 استطاعت أن تتبلور شخصياتها العراقية يوما بعد آخر حتى رجوع عهد المركزية 12.. كانت الاكثريات تعامل معاملة الأقليات .. ولكن بقيت الأقليات تشعر بأنها مضطهدة ، علما بأن التهميش والاضطهاد عانت منه الاكثريات والأقليات على حد سواء سياسيا وإداريا 13، إذ لم تكن طبيعة نظام الحكم يسمح أبدا بأي حكم ذاتي ، أو حتى التمتع بالسلطة في يوم من الأيام ! كانت الفئات السكانية تنسحق معا من قبل قوى اوليغارية غاشمة ، وكان المجتمع في المدن غير منسجم أبدا بدليل الانقسامات الجهوية والطارئين واورطات الانكشارية وهجمات البدو من الغرب وهجمات إيران من الشرق .. وكان المجتمع في الريف طبقيا وعشائريا ومتصارعا ، ناهيكم عن نزاعات العشائر الكردية مع بعضها الآخر .. وكان المجتمع البدوي يحارب بعضه بعضا قبائليا ويزداد الطرداء وقطاع الطرق في كل مكان .. لقد عانى العراقيون من الاستغلال والفقر والجشع والأمراض والكوارث والطواعين والنكبات والهجمات والصراعات والانقسامات والحصارات .. الخ 14 كانت هناك فواجع وهناك انتصارات سواء في دواخل المدن أم في الأرياف .. صحيح أن ثمة شراكة حضارية واقتصادية متبقية في المدن ، وخصوصا في الأسواق وفي المعاملات .. كانت المدن تحمي الأقليات بالرغم من كل تهميش اجتماعي أو أي إيذاء من أشرار الناس ، فاليهود العراقيون مثلا والذين هاجروا من العراق قبل أكثر من خمسين سنة ، كانوا منسجمين مع العراق وثقافته ، وما زالوا حتى يومنا هذا يحملون العراق في قلوبهم هم وأبناؤهم ويعتزون بمواريثهم العراقية كما اقرأ واسمع عنهم الكثير بالرغم من استئصالهم ووصول حجم الكراهية بينهم وبين المسلمين العراقيين ! وهذا ما نلحظه لدى عراقيين آخرين أيضا .

رابعا : الإنتاجية العراقية
إن العراقيين ، تجدهم عموما رائعين في صناعتهم للتاريخ الحضاري والاقتصادي في أسواق دولية وإقليمية ومحلية .. لهم تاريخ تجاري مثقل وواسع وحافل في العالم 15، اذ تاجروا مع الهند وأقاصي آسيا ومع أوروبا ، واعتمدت مصانع أوروبا على منتوجاتنا الحيوانية والزراعية .. أسواقنا في مدن مثل البصرة التي وصفت إبان القرن السابع عشر وفي الزمن الماركنتالي بـ ” فينيسيا الشرق ” ، كونها اكبر مدينة عربية كوسموبوليتانية في الاقتصاد العالمي .. أعماق بغداد جمعت كل الأسواق باتجاه إيران وبلاد الشام ومسالك دجلة النهرية .. أسواق الموصل خانات وقيصريات وبازارات جمعت كل المسالك البرية والنهرية وكانت أهم محطة في طريق الشرق السلطاني 16.. في الأسواق ، انسجم كل العراقيين بأديانهم وطوائفهم ومذاهبهم وأعراقهم وأصولهم ومناطقهم .. الكل يشتغلون من الصباح حتى المساء ، والمبدعون من أصحاب المهن المتنوعة ، والفلاحون في الحقول الزراعية ينتجون . العراقيون شعب منتج ونظامي قبل زمن الفوضى والنفط والدكتاتورية وحكومات الأحزاب الشوفينية والطائفية التعيسة .

خامسا : التسميات والالقاب
ما يتميز به اغلب العراقيين ايضا ، تسمياتهم وألقابهم واروماتهم ، واللقب ضرورة أساسية للعراقيين وله أهميته المعنوية لأغلبهم .. أجد هناك تسميات وألقاب دينية : الشيخ والملا والخطيب والمفتي والقاضي وباش عالم والكليدار وبحر العلوم .. الخ ، وهناك تسميات لطرق صوفية كالقادري والنقشبندي والطالباني والرفاعي والمولوي والصوفي .. الخ واجد هناك تسميات والقابا عشائرية وقبلية ، وهي ظاهرة تكثر عندهم أكثر مما تغلب عند غيرهم ، فنجد : التميمي والجبوري والفتلاوي والعبيدي والخفاجي والجنابي والربيعي والشمري والهلالي والبارزاني والبريفكاني والسورجي والطائي والبياتي .. الخ وقد يصل اللقب العشائري في أهميته كي يتقدم على اسم الأب والجد ، وهي ظاهرة عراقية صرفة يزداد زخمها في الريف مقارنة بالمدن التي يزداد فيها اللقب العائلي / الأسري .. ويتميز المجتمع العراقي بالمدن بغلبة ألقاب المهن والحرف المنتشرة في العراق ، وخصوصا في الموصل وبغداد ، مثل : البزاز والقزاز والرسام والنجار والساعاتي والجرجفجي والقبانجي والباجه جي والقندرجي والخياط والحداد .. الخ .. وميراث من ترسبات الوظائف العثمانية القديمة : الخزندار والدفتردار ( اختزلت بالدفتري ) والجلبي والاغا والطوبجي .. الخ فضلا عن القاب اسر مهاجرة استقرت في العراق وتدلنا ألقابها على أصولها الأولى : الحلبي والمصري والجيزاني والاورفلي والزهاوي والكيلاني والشهرستاني والمغربي والجزائري والحجازي والنجدي والكمالي والمارديني والرومي والجزراوي والبيروتي .. فضلا عن استخدام البيئات والمدن العراقية : البغدادي والكاظمي والموصلي والكركوكلي وعقراوي وزيباري والهيتي والعاني والسامرائي والراوي والبصري والناصري والمنتفجي وعماره والحلي والتكريتي .. الخ وللمسيحيين العراقيين أسماؤهم ، ومنها ما هو مشهور ومعروف ، وكذلك اليهود والمندائيين والأرمن والشبك واليزيدية .. كلهم عراقيون ، وكل يعتز بنسبه ولقبه واسمه وأرومته وامتداده .. إنها مفاضلة مسالمة في مجتمع متنوع ، ربما تطغى عنده هذه الجزئيات على الهوية العراقية .. على عكس مجتمعات أخرى يتنوع سكانها أكثر من العراق ، ولكن هوياتهم الوطنية تكون اكبر من الجزئيات التي يتميزون بها !

سادسا : القيم والسلوكيات العراقية
لقد ازدحم المجتمع العراقي بالقيم الجميلة والأعراف الرائعة والتي شهدناها منذ طفولتنا ، ولم تزل بقاياها موجودة حتى الآن ، لكنني اليوم ، أسأل نفسي : ماذا جرى بقسم كبير من العراقيين ؟ إنهم يتصارعون ، لأنهم وضعوا أنفسهم في كفة السياسيين ! لأنهم أصبحوا أرقاما في معادلة سياسية تافهة وبلهاء ! لأنهم تحولوا من منتجين بارعين إلى أدوات مكارثية شوفينية أو دين سياسي ! لقد فقدوا خصائصهم الأولى .. خصائص آبائهم وأجدادهم ، وعلمهم الزمن القبيح على الجهالة والقباحة والأحقاد .. فقدوا قيمهم الرائعة التي كانوا يتعاملون بها مع بعضهم الآخر في بيوتهم ودواوينهم ومجالسهم ومقاهيهم وندواتهم واجتماعاتهم وحتى في حاراتهم وشوارعهم .. كان هناك احترام شكلي وضمني بين العراقي والعراقي الآخر .. إذا عرف العراقي نفسه احترمه العراقي الآخر ! كانت هناك العفة العراقية ـ كما ذكرتّني بها قبل قليل الأستاذة نبأ البراك عندما كنت أحادثها ـ . كانت كبيرة هي العفة عند العراقيين ، بحيث تضّيفه ، فلا يقبل ، ولا يتحمّل المنّة من أحد ، ولا يقبل الرشوة أبدا من أحد !! لقد اختلف العراقيون اليوم ، إذ تجد احدهم يسعى إلى الموائد ويحشى نفسه بالمأكولات الدسمة ، بل ويطالبك علنا بالمطلوب ووجبة العشاء والكومشون والفلوس والهدايا .. الخ صحيح كان هناك أشقياء وقطاع طرق وحرامية .. لكنهم كانوا منبوذون في عموم المجتمع 17.. لقد اختلف العراقي عن السابق ، إذ جعله الزمن لثلاثين سنة مضت جشعا جراء الظروف والمعاناة التي مرّ بها ، وتشظى المجتمع بانسحاق الخيرين من العراقيين ، وظهور طبقة من الطفيليين والطارئين من اصحاب النعم الجديدة والمناصب الجديدة ، وهم يكنزون الملايين ..لقد اختل المجتمع العراقي اختلالا كبيرا .

سابعا : الفولكلور العراقي
ان تراث العراق يشترك به جميع العراقيين بمختلف فلوكلورياتهم واساليب حياتهم .. ثمة شبكة نسيج ملونة يمثلها الغناء العراقي ـ مثلا ـ ويتمثل رمزه بالمقام العراقي الذي نجده في بغداد وكركوك والموصل ومناطق أخرى .. قد يكون هناك اختلاف في الأداء والميانات والقرارات والبستات ، ولكنه مقام عراقي واحد بتصانيف متنوعة ، ووصولا إلى الألوان الغنائية الأخرى المستحبة من كل أبناء العراق كالألوان المحلية والريفية والبدوية والجبلية والمناطقية ، ولا أجد أي مجتمع امتلك مثل هذا الإرث الغنائي بقدمه وتنوعاته وحيويته التي لم تتوقف أبدا ، كل حسب بيئته وأنماطه .. كما أن هناك ثقافة عراقية خاصة بالمناسبات المشتركة بين المدن العراقية شمالا وجنوبا والممتدة من العصور الوسطى حتى اليوم ، ربما ماتت اليوم ، ولكنها كانت حية يشترك بها العديد من المدن التي تزدان في يوم واحد وتؤدى الطقوس فيها في يوم واحد منذ مئات السنين وفي مناسبات مشتركة ..
ثمة خصائص أخرى ، ولكنني أحببت أن أتوقف عند هذه الخصائص السبع ، والتي أجدها كافية لتحديد هوية أي عراقي عن الآخرين ..

(4) الاضداد والمستقبل

اولا : ثقافة العنف وتداعياتها
أما بالنسبة للثقافة المشتركة والمتناثرة ، فمن الطبيعي أن تتبقى جملة قيم متنوعة عندنا كعراقيين منها مشتركة ومنها متناثرة ، وهذه لها أسبابها ، ومن ابرز تلك الأسباب : المظالم والإبعاد والتهجير القسري والنفي والمعتقلات والسجون والمطاردة والتهميش السياسي والاجتماعي والإعدامات .. وهناك الوشايات والاتهامات وتشويه سمعة الخصوم والتهديد وهتك الأعراض وكتابة التقارير الحزبية وإجراء المحاكمات الصورية .. ليس شرطا أن يقتل الإنسان العراقي ويصّفى جسديا ، ولكن أن يضطهد ، وتشّوه سمعته ، ويهدد بهتك عرضه ، أو تجريح ذاته .. إن أي إنسان عراقي عندما يسمع كلاما جارحا من عراقي آخر ولا يستطيع أن يجيبه ، فان حالات الكبت تتراكم إلى حد يفقد الإنسان فيها وطنيته وإنسانيته فكيف لا يفقد هويته وثقافته ! ولا يكتفي العراقي بإيذائه أو تجريحه للعراقي الآخر ، ولكنه يمعن في ذلك وعندما يسئل عن فعله ، يجيب بكل برود : انّه ( يستاهل ) ، أي : يستأهل الفعل ! إن أسوأ عادة اجتماعية ، تلك التي يتشّفى فيها الخصوم العراقيون بفواجع غيرهم من العراقيين وبدم بارد .. وهذا ما وجدناه في قسمات عريضة من المجتمع العراقي ، وبشكل مثير للاشمئزاز خلال خمسين سنة مضت على العراقيين ، وبسبب سوء النظام التربوي العائلي والمدرسي ، فلقد ساءت العلاقات الاجتماعية إلى حد كبير ! لقد كانت هناك طبقية حادة في المجتمع سابقا ، ولكن الصراع الطبقي لم يصل إلى حد الاضطهاد الدموي وكسر العظام ، كما وجدناه في السنوات الأخيرة بين المتنازعين الحزبيين ، أو بين المتصارعين على السلطة ، أو بين مليشيات الطائفيين .. الخ

ثانيا : من يقف بالضد من الهوية العراقية ؟
1/ الجهوية والمناطقية
هناك نزعة مدمرة للهوية العراقية تتمثل بالجهوية والمناطقية ، أي أن الولاء للمنطقة أو المدينة أو الديرة .. قد يشتت الكينونة العراقية إلى طيف كئيب المعالم ، أو حزمة أطياف من الولاءات لعدد من الأمكنة والمناطق .. قد نجد هذه ” الظاهرة ” في بلدان عدة في العالم ، ولكنها قوية التأثير في العراق بحيث نجد نزعة الولاء للجهويات تأتي ليعّبر عنها سياسيا واجتماعيا .. ولم تنجح الدولة بمؤسساتها التربوية والإدارية والوظيفية والعسكرية ولا الأحزاب والتجمعات والرابطات من ردم هذه الهوة التي تكشف السنوات الأخيرة عن مدى ما يكنه هذا من كراهية ضد ذاك ، وما يفخر به البعض ضد البعض الآخر ، وما ينال أبناء هذا المكان من امتيازات على حساب أبناء مكان آخر .. الخ وخصوصا عندما يختل التوازن بين طرفين ليصبح هذا قويا على حساب ضعف ذاك ! وهنا علّي القول بأن العراقيين لا يعرفون بعضهم البعض الآخر ، بل وتصل الحالة إلى عدم فهم البعض لهجة أو عامية الآخر والاثنين من العرب ، أو أن الاثنين من الأكراد مثلا ! ويبدو واضحا أن العلاقات الاجتماعية لم تكن وشيجة بين أبناء مدينة وأخرى ، ولا بين منطقة وأخرى .. وبالرغم من كل الاتصالات والعلاقات الوظيفية ، وبتأثير الدراسة الجامعية ، أو التنقلات العسكرية .. إلا أن العراقي يبقى مبهما لدى العراقي الآخر . لقد أثر الجانب الجهوي سلبا على طبيعة الهوية العراقية ، ويبقى أي عراقي يرتبط بالمكان الذي ولد ونشأ من دون أن يجد العراق وطنا موحدا يعشقه كله ، ما عدا أولئك العراقيون الذين تربوا تربية منفتحة لا تعقيدات فيها ، ولا موروثات صعبة لها .
2/ العشائرية ومواريثها القبلية الصعبة
لقد ناضل العراقيون طويلا ضد هذا الوباء الاجتماعي الذي لم تعرفه مدن العراق سابقا ، إلا انه زحف على كل المجتمع منذ خمسين سنة .. لقد ناضل الناس من اجل القضاء عليه ، وعلى قانون دعاوى العشائر الذي توارثناه كابرا عن كابر ، ولكن العراقيين فشلوا فشلا ذريعا في القضاء على هذه ” الظاهرة ” التي تقف حيال الهوية وحيال الاندماج ، لأن العشائرية بقيت مترسخة في وجدان اغلب العراقيين المنتمين لعشائرهم قبل أي شيء آخر 18. صحيح أن القبيلة قد تفتتت في العراق إلى رؤوس وبطون وأطراف منذ أزمان .. ولكن تداعيات ارثها لم يزل كامن في الأعماق .
ولدينا قبائل كبرى في العراق ، ولكننا نجدها مجموعة هائلة من العشائر ، هوية أبناءها عشائرية صرفة ، أي أن النزعة العشائرية تطغى هنا على أي نزعة أخرى وفي مقدمتها النزعة الوطنية .. ومرة أخرى ، أقول بأن المشكلة ليست بالدولة بقدر ما هي مترسخة في ذهنية المجتمع ، وكانت كل الأنظمة السياسية ترضخ لهذه الظاهرة ، فالنزعة العشائرية تبقى تشغل بال المنتمين إليها كثيرا ، والمنتمي إليه لا يكتفي بالتسمية التي يحملها عنوانا لقبيلته أو عشيرته ، بل إن سنح له المجال ، ووفرت له الفرصة المناسبة ، فهو يعدد لك مفاخرها على حساب الآخرين ، وعلى حساب بقية العشائر والقبائل . لقد الغي قانون دعاوى العشائر منذ أكثر من خمسين سنة ، ولكن رجع العراقيون إلى الوراء لأكثر من خمسين سنة ، بعد أن انتكس المجتمع انتكاسات مريرة . الأمر الآخر ، مقارنة بمصر مثلا التي تندر فيها هذه الظاهرة ، أجد التمازج الاجتماعي قد حدث بين الأرياف وأهل المدن ، واختلط الناس من خلال الزيجات .. لكن هذا لم يحدث في العراق ، فلا يمكن لبعض القبائل أو العشائر العراقية أن تتزاوج إلا من دواخلها !
3/ الطائفية : الأيديولوجية الجديدة
تأججت الطائفية اليوم ، وازداد التشدد الطائفي ، وهو ليس بموضوع جديد على العراقيين ، إذ سمعنا بهذا ” المصطلح ” منذ وعينا على الحياة ، وكان سبّة لمن يحمل هذه ” الصفة ” ، فالطائفي يبقى في محراب طائفته لا يغادره أبدا ، وهو يقّدم طائفته على كل الناس ، بل ويفاضل بينه وبين المذهب الآخر أو الطائفة الأخرى ، والأمر موجود بين المتشددين من كلا الطرفين ( السنة والشيعة معا )، ولكنه اليوم يتحرك على السطح بعد أن كان موجودا خفيا منذ زمان .. انه يتحرك اليوم سياسيا وفكريا وإيديولوجيا واجتماعيا وثقافيا .. انه يشكّل ثقافة وظاهرة في آن واحد .. لقد حاول المجتمع المدني في العراق منذ قرابة 80 سنة أن يصهر العراقيين مع بعضهم الآخر من خلال لغة مشتركة ، وزيجات مشتركة ، وعلاقات مشتركة ، وروابط ثقافية واجتماعية .. ولكن النزعة أقوى من أية معالجات أخرى ، إذ تتحرك بالخفاء سايكولوجيا وسوسيولوجيا ، وهي موجودة ومتلاقحة من جيل إلى آخر .. بفعل قوة التاريخ السياسي الإسلامي المتسلط على العراقيين حتى يومنا هذا ، وتترسخ ثنائية يتنافر عقائديا ومعرفيا بشأنها الطرفان : أولاها يرى في تاريخه أمجادا وعظمة وازدهارا ، وثانيها يرى في تاريخه ظلما وقهرا وإجراما وظلاما دامسا .. النزعة لا تقتصر على سايكلوجيات افراد قليلين ، بل أنها تشمل سوسيولوجية مجتمع كامل منقسم على ذاته اليوم ، ويقوده جهلة ومتعصبون ومتشددون من هنا أو هناك .. بحيث يلغي احدهما الآخر نهائيا وتماما من الوجود ومن التاريخ ومن الحاضر ومن المستقبل .
إن الطائفية في العراق مشكلة خطيرة لم تكن معلنة بشكل صريح بالرغم من اخفاء المحاصصات على مستوى الدولة ، ولكن يذكيها اليوم ساسة وكتاب ورجال دين ومنافقون ومتقلبون من الدرجة الأولى ، وهم طائفيون بقوة ويتكلمون اسمها محاصصيا وبشكل مقرف . ولا يمكن أن تستقيم هوية العراقيين كلهم إن لم يكونوا مؤمنين بالحياة المدنية التي تخلو منها أوبئة الطائفية والتقسيم على أساسها . وعليه ، فالمطلوب معالجة حقيقية لها ، وبأية طريقة كانت .. أي بالوسائل التربوية والإعلامية ، وان لا تنحاز السياسات والأحزاب والمؤسسات إلى أي طرف من الأطراف ! بل ويصل غلو بعضهم جعل الهوية العراقية باسم هذا الطرف ، حتى يسحبا ذاك إلى طرفه ! إن وعيا جديدا ينبغي أن يسود بأن هويتنا العراقية هي خيارنا الوحيد بمعزل عن الطائفة .. وعلى كل عراقي أن يحترم حقوق وطقوس الطرف الآخر دون أن يؤذيه لا في مشاعره ولا في عباراته ولا في خطابه ولا في مواعظه ولا في كتاباته ولا في سياسته .. وان يقف العراقيون لتعرية ما تنشره جوقات الكتّاب الطائفيين الذين لا يعرفون العراق الا بمنظار ميت !

ثالثا : الهوية العراقية بين الواقع والمستقبل
1/ من ازمة كبيرة الى مأزق ضيق
وأخيرا ، أتوقف عند الواقع والمستقبل ، وخصوصا عندما أركّز على الدولة ونظام الحكم حيال مسألة الهوية . ماذا نفعل عندما يسأل العراقي نفسه : من أنا ؟ والعراقيون : من نحن ؟ إذا كانت الهوية العراقية سابقا في أزمة كبيرة ، فهي اليوم في مأزق تاريخي ، والمأزق خطير كونها تتعّرض لأول مرة إلى تحديات لم يصادفها سابقا أبدا ، ومجتمعنا يجابه مخاطر لم يواجهها سابقا ، والمشكلة ، أن مجتمعات أخرى ، عندما تتعرّض للتحديات ، فإنها تبدأ بالتماسك وان ضروراتها تبيح محظوراتها .. في حين أجد مجتمعنا العراقي اليوم يتعّرض من داخله للتفكك والتمزّق على أيدي البعض من أبنائه الذين يكرهون هويته ، أو يشعرون بمركب نقص إزاء مجتمعه ! من ناحية أخرى ، فان الانقسامات الموجودة ، ربما لا تظهر واضحة للبعض ، ولكنها موجودة .. ربما يخفيها البعض ، إلا أنها موجودة .. فكيف يمكن العمل للحدّ من هذه ” الظاهرة ” ليس لالغائها ..
2/ كيف نستعيد هويتنا العراقية ؟
إن مهمة الأجيال القادمة في القرن الواحد والعشرين أن يختط كل جيل قادم له طريقا جديدا في الحياة ، غير الطريق الذي سلكه العراقيون من آبائه وأجداده في القرن العشرين . على الأجيال القادمة أن تتخلص من الأحقاد والكراهية .. عليها أن تبني تنمية لتفكيرها ، بحيث تسلك سلوكا من نوع آخر .. فهل نحظى بمسئولين يتبعون سلوكا يخلّص العراقيين من كل الرواسب والبقايا التي تشعل الأذهان ، وتشعل الصدور وتلهبها بكل السلبيات ، وإثارة الذكريات المريرة .. عليها أن تزرع المحبة والتسامح .. على العراقيين أن ينبذوا كل من يحاول زراعة الانقسام والروح الطائفية .. عليهم أن يتخلصوا من عادات وتقاليد سقيمة ، كانت ولم تزل تنتج الفواجع ، ومنها : اخذ الثارات ، وقتل المرأة ، واضطهاد الأطفال ، والنيل من الآخرين ، وإيذاء الضعفاء والاعتداء على أبناء الديانات الأخرى ، ولم يسلم لا الحيوان ولا النبات من الأذى .. على الدولة أن ترسّخ العمل بالقانون المدني بعيدا عن أية أحكام قبلية أو عشائرية أو طائفية .. إن الجيل الجديد في العراق ، قد فتح عيونه على برك الدماء ، والحروب ، والقتل ، والثارات ، والاختطاف وقصف الطائرات ، والإرهاب ، وتفجير الأحزمة الناسفة ، وعلى التهجير ، والإعدامات وقصص التعذيب البشعة .. الخ هنا لا نريد فقط أن نحدّ من هذه المخاطر ، بل لنذهب إلى أن نضع علاجات لتداعياتها وتأثيراتها في السايكلوجيات العراقية لدى الجيل الجديد ؟ كيف نخلّص الجيل الجديد من تداعيات ركام تعقيدات ما شهدوه على امتداد ثلاثين سنة مضت من الآلام والأوجاع والمحن ؟ نحن نسعى إلى أن تكون رهانات العراقيين ليس على السلطة ومستلزماتها العادية ، بل على ما يستوجب تحقيقه من مستلزمات غير عادية . كيف نجعل كل من ميادين التربية والإعلام والثقافة ساحات عمل يسعى الجميع فيها للتغيير النوعي ؟؟ هذه رسالة مهمة يجب أن تدركها الحكومات العراقية القادمة بعد كل هذه الفجائع المريرة .. ان التغيير السايكلوجي والفكري والاجتماعي لابد ان يرافق أي تطور سياسي وقانوني في البلاد من اجل الاحتفاظ بهوية عراقية .
3/ لا طريق أمامنا إلا بناء المجتمع المدني
دعوهم يتصارعون سياسيا كطغمة سياسية هدفها السلطة والقوة والمال ، ولكن لا تدعوهم يزوّرون الحقائق ويشوّهون التاريخ ويلوّون ذراع العراق والعراقيين .. دعوهم يتناحرون بشعاراتهم الطائفية والانقسامية والجهوية ، ولكن لا تقبلوا أبدا بتمريرها دستوريا وإداريا وإعلاميا .. على العراقيين أن يتفاهموا بطريقة جمعية وبروح حيادية وبأساليب معرفية في المؤسسات والدوائر والجامعات والثكنات والمدارس والمنتديات .. دعوا المجتمع المدني يعمل بدل خطب الملالي والمعممين في الجوامع والحسينيات .. إن مهمة التغيير تقع اليوم على كاهل الجيل الجديد ، فلندعه يتمسك بوعي جديد من اجل بناء مستقبل العراق .. إن مستقبل العراق لا يمكن أن يبنى من خلال الفئات المتصارعة على الحكم اليوم ، فلقد أثبتت فشلها في كل الميادين ، وخصوصا موقفها من الهوية العراقية ، ومن التراب الوطني ، ومن الموارد العراقية ، ومن خدمة الناس .. ولقد أثبتت فشلها في تقديم صناعة جديدة للعراق .. أثبتت أنها مجموعة دمى تتحرك بأيدي الآخرين وفي مقدمتهم المحتلين .. حذار من الإيديولوجيات وعفنها مرة أخرى .. حذار منها سواء كانت يمينية أو يسارية .. قومية أو دينية .. مذهبية أو طائفية .. لقد ساهمت الإيديولوجيات الجاهزة بإلغاء قيم عديدة في المجتمع العراقي ، فلا يمكن أن نستبدل إيديولوجية قومية بإيديولوجية طائفية ، ولا يمكن ان نستبدل حكم دكتاتوري بحكم طغموي ، ولا يمكن أن نستبدل أجندة قائد مؤسس بأجندة مرجع أعلى ـ مع احترامي لمكانته في المجتمع ـ .. !!
4/ النخبة (اللوكية) الجديدة
على العراقيين أن يكونوا بوعي تام بما ينشر من تفاهات بعض الكتاب العراقيين الجدد أصحاب الأفق القصير الذين لا يرون إلا أرنبة أنوفهم ومصالحهم الذاتية وأهواءهم الشخصية وهم في تقلباتهم يعمهون .. ولكن على العراقيين أن يدركوا حجم النفاق الذي يضطلع به بعض الأذناب (: اللوكية ـ كما يسموّن باللهجة الشعبية العراقية ـ ) ! على العراقيين أن يدركوا حجم الهوة التي خلقها الوضع الحالي وحجم التشظيات التي يكرسها الهواة الجدد الذين يريدون اغتيال الحرية واخصاء الرأي الآخر .. على العراقيين أن يعرفوا كيف يفكر هؤلاء ؟ ماذا يكتبون ؟ أي موضوع يدافعون عنه ؟ أي مسألة يتطرقون إليها ؟ كيف تتم معالجتهم للمشاكل ؟ ما هي رؤيتهم للمجتمع العراقي ؟ على ماذا يقسمّون نغماتهم الشاذة ؟ ما حجم ممارساتهم لتهميش الآخر ؟ ما موقفهم الحقيقي من الديمقراطية ؟ وهل تستوي الديمقراطية مع أي ثقافة طائفية ؟ ماذا طرحوا من تحليلات ومعالجات للأمور الخطيرة في البلاد ؟ هل انتقدوا الأخطاء والخطايا التي وقع بها المسئولون ؟ ما مدى تشويههم للحقائق أو تزويرهم للأحداث ؟ ماذا يكتبون من انشائيات بلا معلومات ؟ ما هو هدفهم ؟ وأين تذهب غاياتهم ببث روح الانقسام ؟19
5/ العراقي أغلى ما نملك !
لقد وجدت أن أيام الاستقرار والازدهار العراقية عندما تكون شراكة العراقيين قوية ومنسجمة ومتضامنة .. وعند تحلّ أيام الضعف والارتخاء ، فان التنافر بين العراقيين يكون أقوى مما نتخيّل ! كيف نعالج حالات الضعف وعدم الانسجام بين العراقيين .. ماذا نحتاج من تشريعات وقرارات لكبح جماح الانحلال . إن العراق لا يمكن أن يكون قويا ، ولا حرا ولا ليبراليا إلا من خلال مؤسسات مدنية ودستور مدني لا يصنعه المتحزبون ولا أصحاب العمائم .. إن الأمن والاستقرار لا يعود في يوم وليلة ، خصوصا ، إذا كان حامي العراق هو الحرامي الأول .. إن الانسجام الاجتماعي تخلقه ثقافة التسامح وحكم القانون ويبلوره ترفع حكام العراق عن التحزبات الطائفية والقومية والسياسية .. وعليه ، فينبغي أن تكون هناك معادلة متجانسة بين الدولة والمجتمع ، واقصد كل المجتمع ، وان يفهم كل العراقيين ممارسة الحريات الشخصية والفكرية والسياسية في إطار المحددات القيمية والوطنية لا في إطار ثقافة التوحش والإلغاء والتهميش .. وان يسود مبدأ ( الإنسان العراقي أغلى ما نملك من أي ملة كان ) على امتداد الزمن القادم .
6/ مكّون عراقي لا مجموعة مكوّنات !
إن الهوية العراقية ليست واحدة وموحدة وأحادية ، بل هي جامعة ومتنوعة ومتعددة ، فليس من حقي أن امتلك العراق ، ولا يمتلكه غيري العراقي الآخر ! لا يمكن ذلك أبدا .. لا يمكن أن يبقى الحكم بيد صنف واحد من الناس .. ليحكم العراق جماعة معينة ولكنها مؤمنة بتداول السلطة .. إن أي مؤرخ جاد يكتشف عدة حالات مجمع عليها الزمن عند العراقيين .. إن العدو اللدود للعراقيين هو السياسة ويا للأسف الشديد ، وإنهم يبصمون أمام أي حاكم يحكمهم بالولاء التام ، وما أن يطاح به حتى يلعنون سلف سلفاه ! هل يمكننا أن نوّجه الجيل الجديد لبناء تقاليد سياسية عراقية جديدة تسلك مسالك أخرى نحو المستقبل ؟ متى ما يتكلم المسئولون في الدولة والمجتمع باسم المواطنة بديلا عن المكوّنات .. فسوف يبدأ العراق يتعافى كأول الخطوات نحو إنسان ينتمي الى من يوحده ، ولا ينتمي إلى من يفرّقه .. وقد ثبت لكل العراقيين أن العراق هو أب للجميع ، وهو الذي أبقاهم على امتداد التاريخ .. وانه خدمهم أكثر بكثير مما خدموه ! فمتى ينتهي العمل بلغة المكوّنات التعيسة ؟
7/ لا هوية عراقية بلا انسجام بين العراقيين
إن بلدا كالعراق أنجب الآلاف من الشعراء والأدباء والعلماء والفقهاء والمهندسين والمثقفين والمتخصصين والمبدعين والفنانين والمهنيين .. ولكنهم اليوم اختفوا ، وغير موجودين كون العراق غدا مجزرة لكل المتحضرين والأحرار والمتمدنين .. ولديّ قناعة بأن هذه المرحلة الشاذة ستنتهي ، مع بقاء العراقيين في المستقبل أعداء لأي نظام سياسي ، ما لم ينسجموا فيما بينهم ، وتبدأ مرحلة جديدة سيشعر العراقيون فيها بوضع اللمسات الأولى لبناء المستقبل .. مع ترسيخ قيم جديدة واستعادة لمفاهيم جديدة وفكر جديد ومؤسسات جديدة وافق جديد من التفكير وأسلوب جديد في الحياة .. إن العراق لا يمكنه أن يبقى يعيش في نفس الدوامة من تفسيخ العراقيين لأنفسهم إلى ” مكونات ” بديلا عن الشعب العراقي الواحد بكل تنوعاته .. إن الخروج من هذه الدائرة المغلقة التي شتتّت الهوية العراقية إلى مزق ، ولم أجد أي نص في المادة ( 41 ) من الدستور الحالي 20 تعنى بهذا ” الموضوع ” ، لم أجد أي اهتمام بالهوية العراقية ، أو أي تكريس أو ترسيخ لمفاهيمها الرائعة . وهنا أطالب كل العراقيين أن يثبتوا موضوع ” الهوية ” بندا أساسيا في الدستور .
8/ وأخيرا : من اجل مستقبل وهوية
كيف نجعل المثقفين العراقيين لا يفكرون اليوم إلا بالخطاب العراقي الذي يحمل مقول قول نظيف خال من الأدران .. ؟؟ خطاب يتخلص من الترّيف إلى حيث التمدن .. خطاب تسامح لا خطاب كراهية .. خطاب تفاهم لا خطاب تفاهة .. خطاب منسجم لإنقاذ الواقع ، لا خطاب تشظيات .. خطاب لزرع الأمل لا خطاب لبث الأحقاد .. خطاب لانقاد الواقع لا خطاب لزرع الفتنة .. وآخر ما يمكنني قوله هنا انه لا يمكن تقديس أي وازع قومي أو ديني أو مذهبي أو حزبي أو إيديولوجي في العراق على حساب الهوية العراقية وكبح جماح مرتكزاتها لدى العراقيين . دعهم يفعلون ما يشاؤون بالعراق ، فالزمن كفيل بتغييرهم ، ولكن يستوجب إيقافهم عند حدودهم في تلاعبهم بشأن العراقيين ، فالعراق شيء وسكانه العراقيون شيء آخر .. إن المجتمع العراقي بحاجة إلى ثورة مصيرية لإخراجه إلى العالم بصورة مدنية جديدة ، وان يشارك العراقيون في كل المتغيرات باسم العراق لا بأي اسم آخر ولا بأسم أي هوية أخرى ..
أشكركم على حسن إصغائكم ، وأتمنى أن استمع منكم أسئلتكم وملاحظاتكم لاستزيد ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

انتهت


الملاحظات

  1 انظر تفاصيل المحاضرة على الرابط التالي :
http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/viewarticle.php?id=1493&pg=studies_and_research&art=mp
 2  أشير هنا بشكل أساسي إلى كتابات عديدة للصديق الأستاذ سليم مطر كرّسها لدراسة (الهوية العراقية) ، وقد تميزّت بمجموعة تحليلات ممتازة بدءا بكتابه الذات الجريحة وانتهاء بما سجله عن هوية أبناء الرافدين دجلة والفرات .


  3  راجع المقال على الرابط التالي :
http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/viewarticle.php?id=index-20100618-1857


 4  راجع البحث الذي قدمته بعنوان ” الهوية العربية : بحث في الجذور العثمانية ” إلى نــدوة “الحوار العربي – التركي” التي انعقدت في استانبول بتركيا يومي 21 – 22 نوفمبر 2009 ( وسينشر ضمن أعمال الندوة قريبا ) .


  5  راجع التفاصيل حول معنى ” الهوية ” وفلسفتها الاجتماعية في:


Etienne Wenger, Communities of Practice: learning, meaning and identity, (Cambridge : Cambridge University Press, 1998), pp. 12-20.


  6  راجع النص في مقدمة ابن خلدون الشهيرة .
 7  راجع مقالتي السابقة بحلقتين بعنوان : الهوية العراقية : مدخلات حول إشكاليات الوعي واستكشاف المعاني ”  على الرابط التالي :
http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/viewarticle.php?id=index-20100618-1857


 8  راجع على سبيل المثال لا الحصر كتاب موردخاي نيسان :
Mordechai Nisan, Minorities in the Middle East : A History of Struggle and Self-Expression, 2nd ed., ( Jefferson, North Carolina and London: Mc.Farland & Company , Inc., Publishers, 2002).


  9  حدّثني بذلك ولده البكر الصديق الأستاذ عماد مرجان قبل أشهر في كندا .
 10  من ابرز من دافع عن وجود العراق التاريخي من الكتّاب العراقيين المعروفين اليوم  : د. رشيد الخيون وأ. سليم مطر و أ. باسم فرات وغيرهم .


11  لقد أكد هذه الحقيقة عدد من المؤرخين الأكاديميين العراقيين المعاصرين والمختصين بالعراق الحديث  ، ومنهم الدكاترة : زكي صالح ، ويوسف عزالدين وفاضل حسين وكمال مظهر ، وصالح العابد وهاشم صالح التكريتي وعماد عبد السلام رؤوف ، وطارق الحمداني ، وعلاء نورس ، وإبراهيم خليل احمد ، وخليل علي مراد ، وهالة فتاح وعماد الجواهري ومهدي البستاني وفاضل بيات وعلي شاكر علي  وغيرهم . وراجع التفاصيل في :
S.H. Longrigg, Four Centuries of Modern Iraq, (Oxford: Oxford University Press, 1925).



  12  راجع التفاصيل في : سيار الجميل ، بقايا وجذور التكوين العربي الحديث ، ط1 ( عمّان / بيروت : الاهلية للنشر والتوزيع ، 1997 ) . 


 13  يشيع بعض المؤرخين والكتّاب الغربيين أن الأقليات الدينية والعرقية كانت مضطهدة في مجتمعات الشرق الأوسط  ، من دون أن يدركوا حالات الانسجام الاجتماعي التي زخرت بها الحياة في مجتمعاتنا عبر القرون المتأخرة ، وان التهميش من الدولة العثمانية قد شمل الجميع العرب وغيرهم ، وخصوصا من ناحية المناصب والوظائف الأساسية . راجع ما كتبه عن الأقليات من تشوّهات كل من : بنيامين اكزن وروبرت بريتون بيتس وكينيث غراك  وسي جي ادموند ونورمان ستلمان وغيرهم .


   14  انظر التفاصيل في كتب المؤرخين القدماء ، ومنهم : ياسين الخطيب العمري وسليمان فائق ورسول حاوي الكركوكلي ومحمد أمين الخطيب وعثمان بن سند  .. ومن بعدهم عباس العزاوي ويعقوب سركيس وسليمان صايغ وغيرهم .


  15  راجع مادة  IRAQ التي كتبها سيار الجميل لانسكلوبيديا تاريخ تطور الثقافة البشرية ، اليونسكو ، في :
Sayyar Al-Jamil, “Irak” chapter 17 in the History of the Scientific and Cultural Development of Mankind, New edition. (Paris, UNICCO, 1999). 
  
  16  انظر كتاب سيار الجميل ، زعماء وأفندية : البنية التاريخية للعراق الحديث ، ط1 ( بيروت / عمّان : الأهلية للنشر والتوزيع ، 1999) .


 17  حول هذه ” الظاهرة ” ، راجع ما سطّره د. علي الوردي في كتابه : طبيعة المجتمع العراقي ، وكتابه الآخر ( من عدة مجلدات ) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، ج 3 ( بغداد ، 1969 ـ 1972) .



 18  أنصح هنا وفي إطار هذا ” الموضوع ” وتشعباته إلى آراء أ.د. فالح عبد الجبار المتخصص بمعرفة بنية العشائر العراقية . 
 19  من المفيد مراجعة ما ينشر على عشرات المواقع الالكترونية  العراقية من كتابات ضعيفة لعراقيين غير محترفين .. مهمتهم أن يحيلوا ما يؤمنون به على المواقع من دون أن تنشر لهم أية صحف أو مجلات محترمة .


 20  راجع نص ” الدستور ” الحالي وبنوده المتعبة التي تخص المجتمع العراقي.



شكر وتقدير
اشكر الهيئة الإدارية لقاعة سمير أميس بمدينة مسيسوغا الكندية على كرم الضيافة ، واخص بالشكر أيضا من قام بتسجيل المحاضرة ، ومن ثم إفراغ المادة وكتابتها على الورق وطباعتها .. لأضع عليها ملاحظاتي .

شاهد أيضاً

طبيعة العلاقات الثقافية : العراق ومصر : جدلية الاقطاب

المحاضرة التي القاها الدكتور سيّار الجميل في جامعة الزقازيق بمصر بتاريخ 15/2/1990.. إيضاحات منهجية : …