الرئيسية / الشأن العراقي / الديمقراطيّة الكسيحة

الديمقراطيّة الكسيحة

مهاجمتنا للديمقراطية الكسيحة في العراق ، لا تمنح الآخرين صك غفران ، ولا تعطي لحكم أي طاغية شهادة حسن سلوك ، ولا تقلل من إيماننا بالديمقراطية الحقيقية ، بقدر ما منحتنا هذه ” التجربة ” درسا بليغاً عن المؤهلات المطلوبة لتطبيق التجربة واستيعابها .. إنها ليست دعوة لرفض الديمقراطية ، بل وقفة تأمل لكل محطات فشل تجربة محبطة ، كونها استوردت وطبقت بلا عقلانية ، وبدأت تعمل في فراغ سياسي أعقب دكتاتورية شرسة ، في مجتمع غير مهيئ أبدا لاستيعاب مبادئ ومستلزمات السلم والشفافية واحترام الرأي وحقوق الجميع .. تجربة بدل أن تأخذ العراق إلى جادة الصواب ، فإنها زادت من أعبائه ومشاكله ومصاعبه . وبات العراقيون لا يعرفون كيف يعالجون قضاياهم بأنفسهم ، وعاجزين عن الاستجابة للتحديات المفروضة عليهم .
إن الديمقراطية في العراق كسيحة اليوم ، كونها بدأت تحمل أمراضها منذ اليوم الأول لتطبيقها على أسس خاطئة . صحيح ، أن جملة تغييرات قد أصابت حياة المجتمع العراقي ، واستطاع أن يتمتع بحالة جديدة وانفتاح لم يكن مسموحاً له أن يعيشه سابقا ، كالإعلام والاتصالات والسفر وزيادة الرواتب .. ولكن في نفس الوقت ، وجد نفسه أمام تجربة لا تلبي كل أمنياته وآماله العريضة التي كان يحلم بها منذ زمن طويل . انه كان ولم يزل أمام فراغ امني هائل ، ولم تزل عمليات القتل والخطف والتفجير .. تنال من أرواح العراقيين ودمائهم وممتلكاتهم العامة والخاصة .. انه أمام قوى سياسية متصارعة على السلطة ، وليست له قناعات راسخة في أن يكون مع هذا أو ذاك .. انه أمام مشكلات صعبة جداً ، خلقتها ظروف التسّرع المجنون بإصدار دستور دائم يتضمن جملة بنود كافية لسحق العراق وشخصيته الداخلية والخارجية .. انه أمام قوى حزبية طائفية وميليشياوية وعشائرية وجهوية ، ساهمت كلها في تفكيك المؤسسات وسحقها ، وجعلها تتوزع المناصب والوظائف في ما بينها .. انه أمام نوازع جشعة لأصحاب مصالح فئوية وشخصية غير نظيفة أبدا ، أدت إلى انتشار الخراب والسرقات للمال العام والرشاوى ، وكل الفساد الذي أمسى العراق الأول فيه عالميا ! انه أمام انقسام طائفي وتشرذم اجتماعي وصراع عرقي ، لم يعرفه تاريخ العراق سابقا بهذا النحو أبدا .. انه أمام خواء كبير من أي خدمات بلدية أو عمرانية ، وانعدام كامل لإصلاح أي بنية تحتية كانت قد سحقتها الحروب والطائرات القاصفة .. انه أمام اقتصاد هش ، لم يستطع أبدا بعد مضى كل هذه السنين أن يتحرك قليلا ، من اجل مساعدة المجتمع وتخليصه من البطالة والعوز والجوع والأمراض ، وان يأخذ البلاد إلى الإصلاح والاعمار .. انه أمام فضائح ليست سياسية فحسب ، بل إعلامية أيضا ، فرغم انتشار صحف ومواقع الكترونية وفضائيات .. تعمل كلها ليل نهار ، فان الكثير منها ليست أهدافه وطنية سامية ، بل يعمل لغايات انقسامية وطائفية ! وان كانت كلها ترفع شعار الديمقراطية ، إلا أنها لا تؤمن بمستلزماتها .، ولم تنتقد الأخطاء أو تعالج الاوضاع، بل تثير الانقسامات وتضرم الصراعات .. العراق أمام خلل فظيع في مؤسسات التربية والتعليم ، التي تخضع اليوم للأهواء والانقسامات والغلو والتخلف .. وزعزعة الثقة في العراق .. انه أمام مشهد فاضح من إقصاء المتميزين ، وتهميش المجتهدين ، وعدم الاستماع للمستقلين ، مع إبعاد أصحاب الكفاءات والخبرات ، موظفين ومستشارين من كل مؤسسات الدولة وأجهزتها ، والاعتماد على المنافقين والموتورين والمعممين والمصفقين والمتحزبين الديماغوجيين .. إذ غدا بعض الأحزاب الحاكمة هي التي تمنح شهادات حسن سلوك للتعاقد والتوظف ! انه أمام فصول مسرحية من قضايا فساد مالية وأخلاقية كبرى ، كلها تمّرر من حساب موارد الشعب العراقي ، ولابد أن يحقق فيها عاجلا أم آجلا .. انه أمام عمليات نهب رسمي منظم ، وأمام عمليات تغطية رسمية منظمة شبيهة بأعمال المافيات ، تنبغي معرفة حيثياتها كلها !
إن المشكلة الأساسية ليست في عامة الناس الذين قاموا بانتخاب أناس وثقوا بهم ، ولكن خابت ظنونهم فيهم .. إن الشعب لو عاد لينتخب من جديد ، فسوف لن ينتخب من كان قد انتخبه قبل أشهر ! لقد أظهرت القوى السياسية الحاكمة أن شعارات الديمقراطية التي ترفعها ، هي وهمية لا أساس لها من الصحة أبدا ، بدليل تعنتها وصراعاتها من اجل السلطة ، وعدم تقديمها أي نفع للصالح العام ، وعجزها عن فرض استحقاقات اعمار العراق على المحتل الذي سحق العراق ! إن المعضلة العراقية ليست في مبادئ الديمقراطية التي لم يعرفها العراقيون منذ اكثر من خمسين سنة ، ولكن العلة تتمثل في قوى سياسية تتصارع من اجل حكم العراق ، دون نقد أحواله ومعالجة أخطائه ، وتلحق بها فئات ضالة في إيديولوجياتها ، وأناس يسبحون في خيالاتهم الوهمية .. إننا أمام قادة جدد لا يريدون إلا السلطة .. ورهط من الساسة يتلونون مع الظروف المعتمة ، بكل تناقضاتها .. ولابد للعراقيين من التفكير في كيفية الخروج إلى فضاء أنقى بكثير مما هم فيه ..
إن العراق اليوم بحاجة إلى إصلاحات وتغيير واسع في كل ميادينه .. إن مشاكله لا يمكن لها أن تحلّ ، إن لم يعد من جديد إلى المربع الأول ، على أيدي قادة صالحين ووطنيين وزاهدين وأذكياء ماهرين ، من اجل تأسيس مؤتمر وطني ، والعمل على إصدار دستور مدني ، وتشكيل أحزاب سياسية وطنية لا دينية طائفية .. ومع خروج المحتل الأميركي .. إنها ليست عملية مستحيلة ، ولكنها حدث كبير من اجل ديمقراطية حقيقية .. لا كسيحة !

نشرت في البيان الاماراتية ، 11 آب / اغسطس 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …