الرئيسية / افكار / عقولٌ مغلقة الأبواب.. إلى متى يبقى التفكير في سجن مؤبد ؟

عقولٌ مغلقة الأبواب.. إلى متى يبقى التفكير في سجن مؤبد ؟

إن الحقوق والحريات، تحددان تقدم أي مجتمع، وإن النظام والقانون يحددان مكانة أي دولة، وإن البيئة والثقافة يحددان تقدم أي نخبة، وإن الذهنية والسلوك يحددان شخصية أي إنسان! تعلمت هذا منذ زمن طويل، ولكن دولنا ومجتمعاتنا في جميع أوطاننا هي أضعف بكثير مما رسمناه في مخيلتنا لها من أوهام العظمة والمجد كما تعلمناها في أناشيدنا المدرسية الكاذبة! لعل من أقسى السيناريوهات التي علمونا إياها في المدارس منذ عشرات السنين: محاربة العادات والتقاليد البالية. ومن غدر الزمن أن تغدو اليوم تلك العادات والتقاليد أصيلة يفخر الناس بها وبممارستها وتتشبث الحكومات في حمايتها بقوانين تحت ذرائع الأصالة والتراث.. ومن تحت شقوق هذا الباب هبت علينا كل القيم السقيمة وابتلينا بكل ما جعلنا نتأخر في سلم الأولويات.
لقد خسرنا زماننا الثمين، وخسرنا أكثر من جيل، بدا اليوم عقيما ليس في عاداته وتقاليده حسب ، بل حتى في تفكيره وثقافته وطغت الذهنيات المركبة الموائمة بين النقائض ولا وعى لأصحابها، وهى التي رضيت بواقع مليء بالموبقات المريعة! تناقضات لا عد ولا حصر لها أبدا على مستوى الدولة والمجتمع والإنسان نفسه! تناقضات لم يشق بها الناس نظرا لغياب الوعي بخطورتها وجناياتها.
إن من أسوأ العادات التي ابتليت بها شعوبنا ومجتمعاتنا ، وبطبيعة الحال ما عكسته على دولنا وحكوماتنا عدم تقبلها لكل الآراء عندما تطرح، بل وممارستها القمع في كل جزئيات الحياة وكل ما يعين ذلك التسلط من وسائل وأدوات سواء كانت مادية أو معنوية. ومما يزيد الطين بلة، ما يطغى على حياتنا في مجتمعاتنا من ضيق في الأفق، ومحدودية في الرؤية، وضعف في الإمكانات، والهشاشة في التعامل، والتراخي في الأعمال الجمعية، وبلادة الساسة، وحتى سذاجة بعض المثقفين في المجتمع.. ناهيكم عن المساهمات القميئة نتيجة الجهل في المعلومات! وطغيان المفبركات وصنع الأكاذيب، والمصالح البنتهامية النفعية على أغلب المواقف والخطابات من أجل تغييب الحقائق! وهناك هياج العواطف بعيدا عن وازع العقلانية والتفكير ! وشراسة الأيديولوجيات والمعتقدات على فرص التعايش السياسي والديني والاجتماعي والثقافي المعاصرة، وانتشار الآراء والأحكام السريعة التي تحكمها المطلقات من دون تحديد للمشكلات ومعالجات هادئة للجزئيات!
إن ما وصلت إليه حياتنا اليوم هي مدعاة للتفكير العلمي بعيدا عن أية وجهات نظر لا تمت لذلك التفكير بصلة! وإذا اعتقد كل إنسان بأن «الحقيقة» لا يمكن إدراكها بسهولة، وأن فلسفة الأشياء تكمن أصلا في البحث عن حقائقها ، فربما كسبنا جولة واحدة من عشرات الجولات الخاسرة! وإذا بدأ الإنسان يفكر قليلا ضمن آليات الشك ونسبية القياس لما كان تكون في ذهنه من تراكيب راسخة، فربما يغير ذلك من قناعاته ومطلقاته لكل الأمور..ويبدأ يتنازل رويدا رويدا عن أبراجه العاجية التي ستحطمه في يوم ما! وهنا نكسب جولة أخرى من الجولات الخاسرة التي تجعلنا نتحرك فيما يسمونها بالشفافية السياسية التي تستند في الأساس إلى تغيير التفكير ومرونة الأشياء ومن ثم الإيمان بنسبية الحياة.. عند ذاك ستنخفض لدينا سطوة الجداريات الصلبة وبلادة الذهنيات المركبة وستهدأ العواطف الملتهبة والهياجات الحقودة التي أساءت إلى كل حياتنا العامة في التاريخ. إن صدمات قوية جدا لم تؤثر أبدا كما يبدو لي في قطاعات كبرى من الناس حتى إن انتقلت تلك القطاعات وغدت جاليات في عالم الغرب بكل ما يحفل به الغرب من المكونات والتشيؤات والموروثات والمكتشفات.. إلا أنها جميعها لم تؤثر أبدا في الذهنيات الصلدة التي لم تتقبل أبدا حتى هوامش الأمور فكيف تتقبل أنصاف الحلول؟ وكيف تقبل أن تتعايش مع المستحدثات الجديدة ومع الآخر؟ برغم استخدامها الأعمى لكل وسائله وآلياته وتكنولوجياته وإبداعاته وإعلامياته.. إلخ.

لقد انتهت مراحل زمنية متنوعة لم تعرف فيها أبدا قيم المرونة والوسطية والاعتدال بسبب ما فرض علينا من شعارات متنوعة، وخطابات مخيفة، وإعلاميات صارخة، وضمن أساليب أسموها بالثورية والعنف الثوري، وطغيان الهمجيات القاسية للمؤدلجات العقيمة التي ترسبت عن مذاهب سياسية، وتحزبات شوفينية تحت مسميات وشعارات لا حصر لها وصولا إلى التشبع بأغرب الأصوليات الشرسة من دون أي وازع للتسامح ومقابلة الرأي بالرأي والحجة بالحجة كما فعل الآباء الأولون .. لقد ساهمت في صناعة ذلك كله: الأجهزة التربوية والتعليمية والإعلامية. إذ تتحمل دولنا وشعوبنا نفسها القسط الأوفر من نتاج تلك الصناعة التي أفرزت ظواهر مخيفة لا يمكنها أن تجعلنا نمضى لا في صراعنا المصيري ضد الصهيونية العالمية منذ أكثر من ستين سنة، ولا في بناء مستقبلنا الحضاري من أجل أن نتعامل مع العالم!
السؤال: هل باستطاعة مجتمعاتنا أن تتمتع بحقوقها كاملة، والتي تضمنتها القوانين وتكفلتها الدساتير بعيدا عن أية منظمات وهمية مرتزقة ما هي إلا صنيعة أنظمة سياسية أو واجهات أحزاب محتقنة واتجاهات عقيمة لا تؤمن هي الأخرى لا بالحريات ولا بالرأي الآخر ولا بالديمقراطية الحقيقية.. وهنا أحب أن أعلق مستطردا بأن كل المنظمات والهيئات والأحزاب والجماعات التي تنادى بمثل هذه الأفكار.. التي تعتبر وليدة نتاج تاريخ أوروبا السياسي والفكري الحديث لا يمكنها أبدا أن تعتبر مرجعياتها عربية أو إسلامية، وإلا نكون قد سجلنا نوعا غريبا من الهراء الذي لا يمكن أن يتقبله العالم اليوم أبدا نظرا لأنها سوف تعيش سلسلة مفجعة من التناقضات والعجائب والغرائب. لعل أسوأ دور مارسته حكوماتنا ودولنا في القرن العشرين أنها زاوجت ضمن أشكال لا حدود لها من الخلط بين مختلف النقائض، فهي تستعمل كل تعابير ومسميات مؤسسات الغرب وشعاراته، ولكنها لم تشكل أية قطائع تاريخية ومعرفية بين تفكيرها السياسي ومرجعياتها التاريخية.
لقد خلطت عن سوء تصرف وغباء بين المرجعيات فضاعت على الأجيال الجديدة من مختلف الاتجاهات والتيارات الأساليب الأصيلة في الابتكار ضمن حركة تكويناتها المعاصرة، ولم تنتج عندنا، إلا الذهنيات المركبة التي تاهت بين النقائض المميتة، ومن المحزن، أن الإنسان عندنا لا يحس وطأة هذه التناقضات أبدا، إذ إن الذهنية المركبة قد أطبقت على كل مفاتيح أبوابه، فأبقته سجينا ضمن آليات عواطفه الساخنة وتفكيره القاصر، وكل من الاثنين يحركان كل توجهاته.. فبدا مغلقا لا يمكن أبدا تكسير مغاليقه من أجل تجديد وعيه بشكل كامل.
علينا عندما نفكر في حقوق الإنسان والديمقراطية في عالمنا، أن ندرك بأن الحقوق السياسية تأتى في نهاية السلم، إذ تسبقها حقوق في التربية ، وحقوق في التفكير، وحقوق في المجتمع، وحقوق في العمل، وحقوق في تكافؤ الفرص، وحقوق في العائلة، وحقوق للمرأة، وحقوق في المواريث، وحقوق في الدراسة، وحقوق في الإرادة، وحقوق في التعبد والدين، وحقوق في إحقاق الحق، وحقوق في التملك، وحقوق في توزيع الواجبات، وحقوق في صنع القرار.. إلخ إننا نقفز قفزات عالية تحت ذرائع ومسميات عريضة للدفاع مثلا عن سجناء الرأي السياسي من دون أن نعمل على تحرير سجناء أحرار المجتمع من المقموعين ظلما وعدوانا، ذلك أن البعض منا قد لا يهاب ما تصدره الدولة من قرارات، ولكنه يخشى ما يفعل به المجتمع إن حاول الخروج عن تقاليده العمياء!
حقوق الإنسان ؟ نعم، لا نجدها في منظومتنا العربية المعاصرة، ولكنها تأتى جدا متأخرة بعد أن مضى قرن كامل والحقوق ضائعة: دول وحكومات عربية وإسلامية بدت اليوم هشة وهزيلة تذروها الرياح أمام العالم بعد أن كانت تتنطّع بأنها ذات جبروت لا يرحم! مجتمعات شتى كان عليها أن تتقدم جدا بمشروعاتها، وإبداعات أبنائها، توظف مؤسساتها المدنية والأهلية في الإنتاج كي تؤثر في العالم كله.. ولكنها، للأسف بقيت أسيرة سلطاتها، وسجينة أسوارها، وكسيحة تقاليدها، وقد كبلها المتخلفون والكسالى والمتكلسون والمتحذلقون والمقلدون الببغاويون.. بالأغلال الحديدية تحت حجج واهية، وتسويق التقاليد المميتة التي لا تعترف مطلقا بحرية الإنسان، وتفكيره، وسماحة دينه، وسمو عقائده.. والويل لمن يخرج عن تلك الأطواق والأقفاص الحديدية، حتى لو أذاع مجرد رأى جديد، أو بيت شعر، أو أفكار قصة..!! حقوق الإنسان، نعم إنها ضائعة في الدولة والمجتمع معا! فالإنسان لم يتمتع بحقوقه المادية ولا المعنوية.. وكم أزهقت أرواح بشر من دون مبرر، واعتقل وسجن ونفى وأعدم وقتل واغتيل وفقد العشرات من الألوف من دون وجه حق! وكم ضاع من الأطفال وانحرف من النساء، وكم عانى من المعوقين؟ وكم أهين في كرامة العجزة والطاعنين؟ كم وكم في حياتنا على امتداد القرن العشرين؟؟
أقول بكل جرأة إن واقعنا المتهرئ، والذي لا يريد البعض أو الكل الاعتراف باهتراءاته بحاجة ماسة إلى التغيير الحضاري، وأن هذا لا يأتي من فراغ، بل إنه بحاجة إلى إنسان يتقبله، ومجتمع يرحب به. إن الهوس السياسي الذي يعيش عليه البعض لا ينفع أبدا.. إن مجتمعاتنا ينبغي أن تستلزمها هندسة فكرية وتربوية وتعليمية وثقافية وإعلامية.. قبل أن تعيش فوضى أيديولوجية وسياسية! إن مجتمعاتنا ينبغي أن تتطلع في هذا الزمن إلى ولادة أجيال جديدة تنتجها هي نفسها بعيدا عن كل المألوفات الصعبة التي لم يستطع أصحابها تطويرها وإيجاد البدائل الحقيقية لها! ثمة أصوات كانت ولم تزل تنادى بما يمكن فعله من خلال الإصلاحات، ولكن بشكل شمولي لا يقتصر على الحدود وأنظمة الحكم، بل يخترق كل الأسوار الجدران وينفذ إلى الأعماق كي يقوم بمهمة التغيير.. وخصوصا تغيير الإنسان، وبالتالي تبدل مجتمعاتنا من تقليدية إلى مدينية، ومن اتكالية إلى منتجة.. هذا ما نأمل حصوله في القرن الواحد والعشرين بحول الله.

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4281 – السبت الموافق – 26 يونيو 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …